التطورات في ناجورنو كاراباخ سبتمبر 2023.. وتداعيات المواقف حول القوقاز

مقدمة:

شنَّت أذربيجان، في سبتمبر 2020، هجومًا عسكريًّا واسعًا على إقليم ناجورنو كارباخ، استمرَّ لمدة 44 يومًا وتمكَّنت خلاله القوات المسلَّحة الأذربيجانية من تحرير مناطق كانت تحتلُّها القوات الأرمينية منذ عام 1998، انتهتْ هذه الجولة من الصراع بفرض موسكو لاتفاقٍ هشٍّ لوقف إطلاق النار في نوفمبر 2020، ووفقًا لهذا الاتفاق اعترفتْ أرمينيا بكاراباخ كجزء من الأراضي الأذربيجانية. وعلى الرغم من ذلك، لم تنتهِ الأزمةُ بشكل كامل بسبب خضوع بعض المناطق في إقليم كارباخ لسيطرة الأغلبية الأرمينية في الإقليم المتحالفة مع حكومة دولة أرمينيا، ونتيجة لسلسة من الأحداث كان من أبرزها مقتل عدد من المواطنين والشرطة الأذربيجانية في تفجيرات داخل الإقليم، بدأت أذربيجان عملية عسكرية تحت عنوان مكافحة الإرهاب قالت إنها تهدف من خلالها إلى حلِّ المؤسسات الأمنية والسياسية الأرمينية وجمع السلاح من الميليشيات الموجودة في الإقليم.

على إثْر ذلك حقَّقت القواتُ الأذربيجانية نصرًا سريعًا على الانفصاليِّين الأرمن في الإقليم، وفي 19 من سبتمبر 2023، أُجبر الانفصاليُّون الأرمن على الدخول في مفاوضات لتسليم سلاحهم وضم الإقليم إلى أذربيجان، أفرزت تلك الحرب تحولات جيوسياسية كبيرة في جنوب القوقاز، فضلًا عن عملية هجرة كبرى قام بها الأرمن من الإقليم إلى دولة أرمينيا.

ونسْعى في هذا التقرير إلى إعادة بناء الأحداث الأخيرة وسرد خلفياتها، والإجابة عن عدد من الأسئلة التي تتعلَّق بأهداف كلٍّ من أرمينيا وأذربيجان ومواقف الدول الإقليمية والدولية من النزاع على الإقليم، خاصةً مواقف كلٍّ من روسيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية.

أولًا: تاريخ الصراع الأذربيجاني الأرمني على إقليم ناجورنو كاراباخ

في بداية القرن التاسع، وكنتيجة للحرب الروسية الفارسية؛ أصبح الجزء الشمالي من أذربيجان تابعًا للإمبراطورية الروسية، فأُعيد توطين الأرمن الذين قَدِمُوا من بلاد فارس ومن شرق الأناضول داخل الأراضي الأذربيجانية في منطقة ناجورنو كاراباخ. ومع بداية القرن العشرين، وكنتيجة للثورة البلشفية؛ أصبحت أذربيجان جزءًا من الاتحاد السوفيتي، وقد اتَّخذت الحكومة السوفيتية هذا القرار بهدف خلق إقليم له استقلاله الذاتي؛ لأنه بعد عمليات إعادة التوطين في القرن التاسع عشر ارتفعت نسبة “الأرمن” في الإقليم من 21% عام 1810 إلى 42% عام 1916. وفي المقابل، انخفضت نسبة المسلمين من 79% عام 1810 إلى 56% عام 1916[1].

ومنذ عام 1923 تمتَّع الإقليم باستقلال ذاتي كجزء من أذربيجان[2]، لكن في 20 فبراير 1988، قرر المجلس السوفييتي المحلي لمنطقة ناجورنو كاراباخ المتمتِّعة بالحكم الذاتي في أذربيجان –وهو في الأساس برلمان إقليمي صغير– انضمام الإقليم إلى أرمينيا السوفييتية، الأمر الذي قوبل بالرفض من أذربيجان ومن الأقلية الأذربيجانية في الإقليم، فضلًا عن رفض قاطع من قبل المكتب السياسي في الكرملين؛ خوفًا من تنامي النزعة الانفصالية في باقي الاتحاد السوفيتي[3].

ونتيجة لانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وإعلان كلٍّ من أرمينيا وأذربيجان استقلالهما، أعلن إقليم ناجورنو كاراباخ عن قيام سلطة محلية مستقلَّة؛ ما دفع أذربيجان إلى إلغاء الحكم الذاتي، والدخول في حرب مع المجموعات الانفصالية التي دعمتْها أرمينيا[4]. وانتهت الحرب عام 1994، بخسارة أذربيجان الإقليم لصالح أرمينيا، إضافة إلى 7 محافظات محيطة بالإقليم؛ ونتيجة لذلك أصبح أكثر من مليون أذري لاجئين ونازحين داخل أراضيهم[5].

ومنذ مايو 1994 وحتى 2001، دخلتْ كلٌّ من أرمينيا وأذربيجان في حالة من الصراع المؤجَّل، حيث توقَّف القتال بين الجيشين، ولكن النزاع السياسي لم يتم حلُّه. وقد شهدت تلك الفترة جولات محادثات برعاية مجموعة “مينسك” التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا التي أنشئت في العام 1992، والتي تتشارك الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا في رئاستها[6]. وبحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وصل الصراع بين أرمينيا وأذربيجان إلى طريق مسدود، حيث أدَّى فشل محادثات (كي ويست) في عام 2001، فضلًا عن تدهور صحة الرئيس الأذربيجاني حيدر علييف، إلى تعليق عملية التفاوض بشأن ناجورنو كاراباخ لمدة عامين[7].

تولَّى السلطة في 2003 نجل الرئيس إلهام علييف، ومن ثم بدأت عملية التفاوض تتحرك مرة أخرى وإن كانت ببطء، وانطلقت “محادثات براج” التي كانت عبارة عن سلسلة من اللقاءات التي جمعت وزيرا خارجية أذربيجان وأرمينيا والوسطاء الثلاثة من مجموعة مينسك، استمرت تلك المحادثات لمدة عامين في مدينة براج عاصمة تشيكيا، لكن في نهاية المطاف، لم تؤدِّ المحادثات إلى حلٍّ للنزاع، خاصةً فيما يتعلَّق بوضع إقليم ناجورنو كارباخ، فضلًا عن المناطق التي احتلَّتها أرمينيا حول الإقليم[8].

منذ حرب كاراباخ الأولى في الفترة من عام 1992 حتى عام 1994، لم تنفك القوات المسلَّحة للجانبين في اختراق وقف إطلاق النار حول الإقليم، وفي الفترة من 1 أبريل إلى 4 أبريل 2016، تكرَّرت الأعمال القتالية بين الجانبين قبل أن يتجدَّد وقف إطلاق النار في 5 أبريل 2016 برعاية روسية. في خلال هذه الجولة من الصراع تمكَّنت القوات الأذربيجانية من تحرير ثماني كيلومترات مربعة من أراضيها المحتلَّة، وذلك على الرغم من تكبُّدهم خسائر فادحة في القوات، لكن وعلى الرغم من أن الخسائر الأذربيجانية كانت فادحة، فإن المحلِّلين يعتبرون أن ذلك الهجوم كان له الفضل في تقديم أدلَّة على قدرة القوات الأذربيجانية في إدارة حرب خاطفة من أجل تحرير أراضيهم[9].

ثانيًا: حرب كاراباخ الثانية وضم الإقليم إلى أذربيجان

بين عامي 2016 و2020، لم تنفكَّ التوتُّرات والمناوشات تحدثُ بين القوات الأذربيجانية والأرمينية على طول خطوط التماس بين الجيشين، حيث اندلعتْ عدَّة اشتباكات بين القوات بشكل متكرِّر، وتبادلَ الطرفان القصْف المدفعي على المخابئ والمواقع العسكرية لكلٍّ منهم. وفي يوليو 2020، اندلعت مناوشات أكبر عندما تعهَّد الأرمن باستعادة نقطة تفتيش حدودية مهجورة، وبدأ الاشتباك الذي استمرَّ يومين في 12 يوليو 2020 باستخدام القصف المدفعي والطائرات بدون طيار[10].

ذهب محلِّلون إلى أن هذه الاشتباكات كانت بمثابة استعدادٍ للحرب من قبل الحكومة الأذربيجانية، وفي خطاب ألقاه وزير الدفاع الأذربيجاني العقيد جنرال ذاكر حسنوف، في 16 سبتمبر 2020، أعلن أن قواته مستعدَّة لتحرير الأراضي التي تحتلُّها أرمينيا، وأنها في حالة جهوزية عالية[11]. وفي 21 سبتمبر، استدْعت أذربيجان جنود الاحتياط[12]، وأجرى الجيش الأذربيجاني مناورات تكتيكية بعد يومين، شملت قيام دبابات ووحدات مدفعية بإجراء تدريبات بالذخيرة الحية. وفي 26 سبتمبر أفادتْ وزارة الدفاع بأن القوات الأرمينية قد خرقتْ وقفَ إطلاق النار 48 مرة خلال الـ 24 ساعة الماضية. يشكِّك محلِّلون في صحة تلك التقارير التي كان يصدرها الجيش الأذربيجاني، واعتبروها أنها كانت جزءًا من حملة إعلامية أذربيجانية لحشد الرأي العام للحرب والتمهيد لها كذلك وخلق المبرِّرات[13].

وفي 27 ديسمبر 2020، أعلنت وزارة الدفاع الأذربيجانية أنها تقوم بهجوم مضادٍّ كبيرٍ ردًّا على التوغُّلات والاستفزازات الأرمينية، وأعلن الرئيس إلهام علييف حالة الأحكام العرفية في غرب أذربيجان وأعلن عن تحرير سبع قرى. هكذا بدأت حرب كاراباخ الثانية أو ما سُمِّىَ بحرب الـ 44 يومًا، والتي انتهت بنصر تاريخي لأذربيجان، وَقَّعَتْ على إثره الدولتان اتفاقَ “وقف شامل لإطلاق النار وإنهاء كلِّ العمليات العسكرية” برعاية روسية[14].

الجديد في هذا الاتفاق، أنه لم يكن كاتفاقات وقف إطلاق النار السابقة، بل كان فعليًّا بمثابة استسلام غير مشروط مع تنازل أرمينيا عن مناطق واسعة ممَّا أسمتْها “جمهورية آرتساخ” الأرمينية المعلنة من جانب واحد، كما تعهَّدت أرمينيا بالانسحاب من ثلاث مقاطعات أذربيجانية كانت قد احتلَّتها، هي أغدام وكالباجار ولاتشين. أدَّت هذه الاتفاقية إلى تقليص مساحة أراضي “جمهورية آرتساخ” بمقدار الثلثين وتركتْها معزولة، وبالرغم من ذلك بقيت المؤسسات الأمنية والسياسية الأرمينية والميليشيات المسلَّحة في جزء من إقليم ناجورنو كارباخ.

الأمر الذي دفع أذربيجان في 19 سبتمبر 2023، إلى إطلاق عملية عسكرية لاستعادة الإقليم ونزع سلاح الأرمن وحلِّ المؤسَّسات الأمنية والسياسية الأرمينية، وأعلنت وزارة الدفاع في أذربيجان عزمَها على “نزع سلاح تشكيلات القوَّات المسلَّحة الأرمينية وتأمين انسحابها من أراضينا، وتحييد بنيتها التحتية العسكرية”. وقالت إنها لا تستهدف إلا الأهداف العسكرية المشروعة، في إطار ما وصفتها بأنها حملة “لاستعادة النظام الدستوري لجمهورية أذربيجان”[15].

أسْفرت هذه العملية عن نصرٍ خاطفٍ وحاسمٍ لأذربيجان، حيث بسطتْ سيطرتها على كامل الإقليم، ودفعت الانفصاليِّين الأرمن إلى حَلِّ المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية لـ”جمهورية آرتساخ” المعلنة من جانب واحد[16]، مع الوعد بإدْماج أرمن الإقليم في جمهورية أذربيجان، الأمر الذي قُوبل بتشكُّكٍ كبيرٍ من قبل المواطنين الأرمن ودفع بأغلبيَّتهم إلى الهجرة إلى أرمينيا[17].

ثالثًا: المواقف الإقليمية والدولية من النزاع

هناك عددٌ من الفاعلين الإقليميِّين والدوليِّين الذين تعاطوا مع أزمة إقليم ناجورنو كاراباخ سوف نركِّز هنا على مواقف ثلاث دول هي: تركيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لكون تلك الجهات من أبرز الفاعلين مؤخَّرًا في الصراع في جنوب القوقاز.

  • الموقف التركي

لاقى الهجوم الأذربيجاني دعمًا دبلوماسيًّا وعسكريًّا قويًّا من أنقرة، ويرجع ذلك لعدَّة أسباب ثقافية / قومية وجيوسياسية واقتصادية[18]، ولا سيما ما يتعلَّق منها بأمن الطاقة[19]. فقد تلقَّت القوات المسلَّحة الأذربيجانية الدعمَ والتدريبَ والتسليح من نظيرتها التركية؛ بموجب عدَّة اتفاقات عسكرية موقَّعة بين البلدين في الأعوام 1992 و1996 و1999 و2000[20]. وفي 2010، وقَّعت أنقرة وباكو اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والدعم المتبادل، والتي بموجبها قدَّمت أنقرة فرص تعليم وتدريب عسكري للقوات المسلَّحة الأذربيجانية، بما في ذلك القيام بمناورات مشتركة بين الدولتين. وقد وقَّعَا في فبراير 2020 اتفاقاتٍ للتعاون العسكري والأمني، تتلقَّى بموجبها باكو معدَّات عسكرية بقيمة 30 مليون دولار[21].

لقد أثبت الدعم العسكري التركي لأذربيجان فاعليَّته في حرب كاراباخ الثانية، لا سيما بفضل الطائرات بدون طيار التركية بيرقدار “Bayraktar TB-2”[22]، فضلًا عن تطوير القوات الأذربيجانية وجعلها أكثر فاعلية في القيام بمهامِّها بفضل التحديثات والتدريبات التي تلقَّتْها من قبل القوات التركية. وعقب بَسْطِ أذربيجان سيطرتَها على الإقليم، أصدرَ المسؤولون الأتراك عددًا من التصريحات التي تؤكِّد على موقفهم الداعم للعملية الأذربيجانية، حيث جدَّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تأكيدَه على دعم بلاده المطلق لأذربيجان[23]، أمَّا وزيرُ الدفاع التركي “يشار جولر”، فهنَّأ نظيرَه الأذربيجاني “ذاكر حسنوف” على نجاح جيش بلاده في عملية مكافحة الإرهاب، مؤكِّدًا على وقوف بلاده إلى جانب أذربيجان[24]. ومن جانبه أكَّدَ مستشار العلاقات العامة والإعلام بوزارة الدفاع التركية زكي آق تورك على أن أنقرة ستواصل الوقوف إلى جانب أذربيجان وأنها تدعم الخطوات التي اتخذتها لحماية أراضيها، موضحًا دعم بلاده للخطوات التي تتَّخذها “أذربيجان على أراضيها ومنع الهجمات والاستفزازات طويلة الأمد من قبل المجموعات الأرمينية المسلَّحة وغير الشرعية”[25].

يرجع هذا الموقف التركي إلى المصالح التركية المباشرة؛ حيث إن بسط أذربيجان لسيادتها على الإقليم سيمهد الطريق أمام مشروع ممر “زانجيزور” الذي سيُسهل التجارة بين أنقرة وباكو؛ ما يحقِّق رؤية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتوحيد العالم التركي، بالإضافة لجهود أنقرة في بناء خط غاز ” ناختشيفان” الذي سينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر تركيا[26]. لكن تلك المساعي التركية سوف تصطدم بموقف أرمينيا التي يُعتبر الممر داخل أراضيها، ما يطرح تساؤلات عن مستقبل تلك الجهود والرؤى التركية الأذربيجانية، فهل سوف تتعاون الدول الثلاث حتى يعود عليها الأمر بمكاسب اقتصادية أم سوف تتعارض المصالح الأرمينية مع المصالح التركية الأذربيجانية وهل سوف يؤدِّي هذا إلى قيام أنقرة وباكو بالسيطرة بشكل مباشر على الطريق؟

  • الموقف الروسي

تاريخيًّا جمعت روسيا بأرمينيا علاقات متينة وتعاون استراتيجي، حيث تستضيف أرمينيا إحدى القواعد العسكرية الروسية القليلة خارج أراضيها، فضلًا عن عضويَّتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي تحالف أمني لدول الاتحاد السوفياتي السابق، طوَّرته موسكو في مواجهة منظمة حلف شمال الأطلنطي “الناتو”[27]. ولكن ومنذ عام 2018، أتاح انتقال أرمينيا إلى النظام البرلماني ووصول “نيكول باشينيان” إلى السلطة نتيجة للثورة الملوَّنة فرصةً تاريخيةً لأذربيجان في السباق مع أرمينيا لكسب ودِّ موسكو. وعلى الرغم من أن حكومة باشينيان أوضحت أن التعاون الأمني مع روسيا لن يتغيَّر، فإنه كان هناك فتورٌ واضحٌ في العلاقات مع موسكو. دفع هذا الفتور حكومة أذربيجان لاتخاذ مبادرات للمساهمة في الأمن الإقليمي والتعاون مع روسيا، وذلك من خلال تطوير مشروع طريق النقل بين الشمال والجنوب من أجل توسيع البعد الاقتصادي لعلاقاتها مع روسيا[28].

كما أدَّى التقارب الروسي التركي بشأن القضايا الثنائية والإقليمية، إلى أن يَصُبَّ في صالح أذربيجان، التي عملت على تطويق أرمينيا سياسيًّا في جنوب القوقاز بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي المستمر. فخوف الكرملين من الثورات الملوَّنة والتوجُّهات الغربية لحكومة باشينيان أدَّى لاتخاذ موسكو موقف متوازن في حرب عام 2020، أو حرب كارباخ الثانية، الأمر الذي أدَّى إلى أزمة ثقة بين حكومة البلدين. تعمَّقت هذه الأزمة في أعقاب العملية العسكرية الأخيرة، ونشأت حرب كلامية بين مسؤولي البلدين، حيث اعتبر رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان أن تحالفات بلاده الحالية “غير مجدية”، موضِّحًا “أن أنظمة الأمن الخارجي التي تنضوي فيها أرمينيا أثبتتْ أنها غيرُ مجدية لحماية أمنها ومصالحها”[29]. كما اتهم باشينيان روسيا بأنها أخفقتْ في مهمَّتها المتعلِّقة بحفظ السلام في الإقليم، الأمر الذي دفع الخارجية الروسية إلى اعتبار هذه الاتهامات غير مقبولة وتلحق الضرر بعلاقات البلدين، مشدِّدة على أن باشينيان يتهرَّب من تحمُّل مسؤولية إخفاقات سياسات بلاده الداخلية والخارجية بتوجيهه اتهامات لروسيا[30].

  • الموقف الأمريكي

تشكل المحددات الاقتصادية (أمن الطاقة) والجيوسياسية موقف الولايات المتحدة تجاه جنوب القوقاز، وتعترف الولايات المتحدة بأن إقليم كاراباخ جزء من الأراضي الأذربيجانية، وسعتْ منذ بداية الألفية إلى حَلِّ القضية عبر الجهد الدبلوماسي في إطار رئاستها المشتركة لمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ولكن لم تكلَّل تلك المساعي بالنجاح، الأمر الذي أدَّى إلى تجدُّد اندلاع الأعمال العدائية العسكرية.

وعقب اندلاع حرب كاراباخ الثانية عام 2020، استمرَّت واشنطن في الدعوة إلى الهدوء ووقف العنف، وفي 27 سبتمبر 2020، أعربتْ وزارةُ الخارجية الأمريكية عن “انزعاجها إزاء التقارير الواردة عن عملٍ عسكريٍّ واسعِ النطاق على طول خط التماس، وأدانتْ بأشدِّ العبارات هذا التصعيد للعنف”. وفي الأول من أكتوبر، أصدرت الولايات المتحدة، إلى جانب روسيا وفرنسا، بيانًا ثلاثيًّا حثَّت فيه على “الوقف الفوري للأعمال العدائية بين القوات العسكرية المعنيَّة”، ودعتْ قادةَ أرمينيا وأذربيجان إلى “استئناف المفاوضات دون تأخير ودون شروط مسبقة”[31]. على نفس المنوال تعاطت الولايات المتحدة مع تجدُّد الاشتباكات العسكرية في 19 سبتمبر 2023، ففي اليوم التالي بحث وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن مع الرئيس الأذربيجاني ورئيس الوزراء الأرميني التطوُّرات الأخيرة في الإقليم، حيث دعا الرئيس الأذربيجاني إلى وقف العمليات العسكرية “على الفور” والعودة إلى التهدئة، مشيرًا إلى أن الحلَّ العسكري “غير ممكن”، كما دعا باكو إلى حلِّ المشاكل مع الأرمن في قره باغ “من خلال الحوار”[32].​​​​​​​

كذلك أعرب المتحدث باسم البيت الأبيض عن أمله في أن يؤدِّي التوصُّل إلى وقف إطلاق للنار في إقليم قره باغ الأذربيجاني إلى “تجنُّب المزيد من العنف وعدم تدهور الوضع الإنساني”[33]. ولكن لم يكن للولايات المتحدة دور سياسي فاعل في الحلِّ النهائي للصراع الأذربيجاني–الأرمني، حيث اكتفت واشنطن بدورٍ محدودٍ كأحد الرؤساء المشاركين في مجموعة مينسك.

وقد أرجعت الدكتورة “إسميرا جعفروفا” عضو مجلس إدارة مركز تحليل العلاقات الدولية (AIR Center) التابع لرئاسة الجمهورية الأذربيجانية هذا التعاطي الأمريكي إلى أربع محددات، هي: (1) دعم سيادة وسلامة أراضي كل من أرمينيا وأذربيجان والتركيز على حل النزاع بشكل دبلوماسي؛ (2) ظل الدور الأمريكي في الغالب يأتي في إطار مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا؛ (3) عملت واشنطن على الموازنة بين مصالح شريكها الاقتصادي أذربيجان، والرضوخ لضغط اللوبي الأرميني في واشنطن؛ (4) المحدد الجيوسياسي المتمثِّل في مراعاة الدور القيادي للقوى الإقليمية في حلِّ الصراع. وذهبتْ جعفروفا إلى أن تأثير تلك العوامل أفْضى في نهاية المطاف إلى محدودية الدور الأمريكي بتقديم سياسات “غير متَّسقة في كثيرٍ من الأحيان تجاه الصراع الأرميني الأذربيجاني الذي اندلع بعد أن تُرك دون معالجة لمدَّة ثلاثة عقود تقريبًا ووجد حلًّا من خلال إراقة دماء جديدة”[34].

خاتمة

شكَّلت حرب كاراباخ الثانية في 2020 بداية تحوُّل جيوسياسي في جنوب القوقاز، وجاءت العملية الخاطفة في 19 سبتمبر 2023 لِتُرَسِّخَ تلك التحوُّلات؛ حيث أدَّت لتعميق التحالف الأذربيجاني التركي وأعطتْ زخمًا لمشروع “ممر زانجيزور” الذي سيربط أذربيجان بإقليم ناخيتشيفان وتركيا لإيجاد رابط برِّي مع دول منظمة الدول التركية.

كذلك أدَّتْ الحرب إلى تصدُّعٍ في التحالف التاريخي بين أرمينيا وروسيا، حيث إن الثورة الملوَّنة وصعود نيكول باشنينان إلى الحكم في يريفان دفعا موسكو إلى عدم التدخُّل لصالح أرمينيا في الحرب، ما حسم المعركة لصالح أذربيجان التي لعبت على التناقضات التي ظهرت في هذا التحالف.

كما أكدت على التأثير الغربي والأمريكي الهامشي في جنوب القوقاز، فمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا لم يكن لها دورٌ يُذكر في التعاطي مع الأمر أو لحسم الصراع على مدار عقود.

 

الهوامش

[1] Kamala Imranli-Lowe, Karabakh Historical Background, (In): M. Hakan Yavuz and Michael M. Gunter (Edited), The Nagorno-Karabakh Conflict Historical and Political Perspectives, (London: Routledge, first published 2023), pp. 22-23.

[2] أزمة ناغورنو قره باغ: ديناميات الصراع، واحتمالاته، وانعكاساته عربيًّا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 7 أكتوبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/l2OSG

[3] Thomas de Waal, Black Garden: Armenia and Azerbaijan Through peace and War, (New York: New York University Press, 2013), pp. 11-15.

[4] أزمة ناغورنو قره باغ: ديناميات الصراع، واحتمالاته، وانعكاساته عربيًّا، مرجع سابق.

[5] لقاء مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، قناة الجزيرة، 16 فبراير 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZFqRX

[6] Thomas de Waal, Black Garden: Armenia and Azerbaijan Through peace and War, Op. cit., p. 269.

[7] Ibid, pp. 284-285.

[8] Ibid, pp. 286-288.

[9] Edward J. Erickson, How Do We Explain Victory? The Karabakh Campaign of 2020, (In): M. Hakan Yavuz and Michael M. Gunter (Ed.), The Nagorno-Karabakh Conflict Historical and Political Perspectives, (London: Routledge, first published 2023), p. 224.

[10] Ibid, p. 233.

[11] Akbar Mammadov, Defence Minister: Azerbaijani army ready to liberate occupied territories, Azer News, 17 September 2020, available at: https://cutt.us/QxII9

[12] Akbar Mammadov, Reservists in Azerbaijan are called for military training, Azer News, 21 September 2020, available at: https://cutt.us/yZbbm

[13] Edward J. Erickson, How Do We Explain Victory? The Karabakh Campaign of 2020, Op. cit., p. 234.

[14] أرمينيا وأذربيجان توقعان اتفاقا لـ “وقف شامل لإطلاق النار” في إقليم ناغورني قره باغ برعاية موسكو، فرانس24، 10 نوفمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ZhD8V

[15] أذربيجان تطلق عملية استعادة كاراباخ و«نزع سلاح الأرمن»، الشرق الأوسط، 19 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/JQgp4

[16] جمهورية ناغورنو كاراباخ تعلن حل مؤسساتها اعتبارًا من بداية العام، الشرق الأوسط، 28 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/52wnK

[17] أكثر من 70 ألفًا يفرون من كاراباخ إلى أرمينيا، الشرق الأوسط، 19 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/7a5w2

[18] دعاء حسين حسين محمد، الموقف التركي من نزاع ناغورني كاراباخ: الدوافع، المسارات، خريطة الأطراف الإقليمية المتنافسة، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 22 أغسطس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/tZb0g

[19] علاء عبد الرحمن، ممر “ناختشيفان”.. إنجاز استراتيجي تركي أذري شرقًا وغربًا، عربي 21، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/SyCu1

[20] Edward J. Erickson, How Do We Explain Victory? The Karabakh Campaign of 2020, Op. cit., pp. 225.

[21] أزمة ناغورنو كاراباخ: ديناميات الصراع، واحتمالاته، وانعكاساته عربيًّا، مرجع سابق.

[22] Mathieu Droin, Tina Dolbaia, Abigail Edwards, A Renewed Nagorno-Karabakh Conflict: Reading Between the Front Lines, Center For Strategic and International Studies, 22 September 2020, available at: https://cutt.us/y8pBx

[23] أردوغان يجدد تأكيده دعم تركيا المطلق لأذربيجان، وكالة الأناضول، 20 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/9TCyl

[24] وزير الدفاع التركي يهنئ نظيره الأذربيجاني بنجاح عملية قره باغ، وكالة الأناضول، 21 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/tww2k

[25] أنقرة: سنواصل الوقوف إلى جانب أذربيجان، وكالة الأناضول، 21 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Co7m1

[26] Samuel Ramani, How the End of Nagorno-Karabakh Will Reshape Geopolitics, foreign policy, 25 October 2023, Available at: https://cutt.us/MsKbu

[27] شادي عبد الستار، تقارير: تطورات كاراباخ تُظهر أن روسيا المنغمسة بالحرب في أوكرانيا لم تعد شرطي القوقاز، الشرق الأوسط، 22 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/UsH7n

[28] Orhan Gafarli, Russia’s Role in the Karabakh Confict, (In): M. Hakan Yavuz and Michael M. Gunter (Edited), The Nagorno-Karabakh Conflict Historical and Political Perspectives, (London: Routledge, first published 2023), p. 360.

[29] في “رسالة” لروسيا.. رئيس وزراء أرمينيا ينتقد تحالفات بلاده التقليدية “غير المجدية”، فرانس 24، 24 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/7Djpl

[30] موسكو: باشينيان يتهرب من إخفاقاته السياسية بتوجيه اتهامات لروسيا، وكالة الأناضول، 25 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/nvth0

[31] Esmira Jafarova, The Role of the United States in the Armenia–Azerbaijan Conflict, (In): M. Hakan Yavuz and Michael M. Gunter (Edited), The Nagorno-Karabakh Conflict Historical and Political Perspectives, (London: Routledge, first published 2023), p. 333.

[32] بلينكن يبحث مع علييف وباشينيان التطورات الأخيرة في “قره باغ”، وكالة الأناضول، 20 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/VmB2s

[33] واشنطن: نأمل تفادي المزيد من العنف عبر وقف إطلاق النار بقره باغ، “، وكالة الأناضول، 21 سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/rWeDs

[34] Esmira Jafarova, The Role of the United States in the Armenia–Azerbaijan Conflict, Op. cit., p. 335.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى