التحدي والاستجابة في التفاعل مع الغرب: نماذج وخبرات

مقدمة: دور “الثقافي” في عمليات التحدي والاستجابة

كثيرًا ما تفرض الأحداث والوقائع نفسها في واجهة المشهد الحضاري عندما يتعلق الأمر بقضايا التفاعل بين الأمة والغرب، في حين تنزوي العناصر الثقافية الكامنة وراء تلك الوقائع خلف المشهد. يحصل هذا غالبًا بطريقة تصعبُ معها عملية فرزُ تلك العناصر وقراءتها قراءةً تبيّن أهميتها الحاسمة في صناعة الأحداث وتشكيل المشهد بأسره. وغالبًا ماتضيع في خضمّ تلك العملية القدرةُ على تفكيك وقراءة معادلاتٍ ثقافية معقّدة تكون في حقيقتها الدافعَ الأصلي للمواقف والتصريحات والقرارات والممارسات التي تظهر على السطح وتشغل الناس. وتبدو الأحداث والوقائع وكأنها حتميةٌ تاريخية لا تقبل التغيير والتبديل، ومامن خيارٍ للإنسان سوى التعامل معها كما هي من خلال ردود الأفعال، أو في أحسن الأحوال عبر حسابات اللحظة الراهنة، بعيدًا عن البحث في أسبابها ومقدّماتها وجذورها الثقافية.
هذه مفارقة يندر وجود مثلها في التاريخ الإنساني. حيث يمارس الإنسان فيما يُسمى بـ (عصر السرعة) عملية هروبٍ ضخمة إلى الأمام من خلال التركيز على الآني واللحظي، والانغماس فيه دون التفكير بخلفياته أو مستتبعاته. يحصل هذا بتبريره نظريًا عبر مزيجٍ غريب من شعارات الحداثة ومابعدها، أو عمليًا عبر انغماسٍ متزايدٍ في أسباب ووسائل الرفاه المادي الناتج عن متواليةٍ هندسية ضخمة في مجال الاختراعات التقنية التي لم تعد العلوم الاجتماعية قادرة على استيعاب دلالاتها وآثارها في الواقع الإنساني. يذكرنا هذا بعبارة عالم الاجتماع الأمريكي فيليب سلاتر منذ زمن حين قال: “الحضارة الغربية أشبه بإنسان يركض بسرعة متزايدة في نفقٍ خالٍ من الهواء بحثًا عن مزيدٍ من الأكسجين. يمكنك أن تقول له بشكلٍ منطقي بأنه سيعيش فترة أطول إذا ما أبطأ في سرعته، ولكن من غير المرجح أن يفعل ذلك”[1] وفي جميع الأحوال، تكون النتيجة واقعًا بشريًا منبتًا عن التفكير في القضايا والأسئلة الكبرى المتعلقة بسبب وجود الإنسان على هذه الأرض وطبيعة دوره فيها.
تزيد تلك الممارسة من حجم التحديات البشرية داخل المجتمعات نفسها، أو بين المجتمعات المختلفة، وذلك من خلال زيادة الخلل في المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتأثر بها. الأمر الذي يُبرز على المستوى الإنساني العام حضور تلك التحديات التي لاتفتأ تحاصر البشرية من كل جانب، ويُضعف قدرة الإنسان على صياغة أنماط استجابة مناسبة لها.
يحدث هذا في الفضاء الغربي كما يحدث تمامًا في الفضاء الإسلامي، بمعنى أن تجليات التحدّي وتجليات الاستجابة تشمل الفضائين ولا تقتصر على أحدهما دون الآخر. وإن كان التعبير عن الظاهرة المذكورة يتبلور عمليًا بقوالب وأشكال مختلفة تنسجم مع النسق الثقافي العام لكلٍ من الفضائين المذكورين. هذه مسألةٌ لابد من الاعتراف بها من اللحظة الأولى. فحديثنا عن موضوع التحدي والاستجابة في مسألة العلاقة مع الغرب يتعلق في جانبٍ كبير منه بالقدرة على تحليل تلك العلاقة إلى عناصرها الثقافية قدر الإمكان، وإلى محاولة تفسير العلاقة على ذلك المستوى الثقافي، لأن هذا يوفر الأرضية لطرح أنماط للاستجابة تكون أقدر على التعامل مع التحديات.
بتعبيرٍ آخر، تواجه الأمة تحديات الخارج وهي تعاني تحديات داخلية على مستويات عديدة تساهم في إضعاف قدرتها الذاتية على مواجهة التحديات الخارجية، وعلى خلق أنماط استجابةٍ فعالة للتعامل مع تلك التحديات. والغفلة عن “الثقافي”[2] بكل عناصره تلعب دورًا رئيسًا في هذا الموضوع. لكن الغرب بدوره يواجه تحدياتٍ بات من الواضح أن للمسلمين دورًا مقدرًا فيها. نقول هذا بحكم استقراء الواقع العملي، وبعيدًا هنا عن الأحكام القيمية. لكن الواضح أيضًا أن الغرب نفسهُ يغرق في خضمّ تحدّيات ذاتية كبرى، وأيضًا على جميع المستويات. وهي تحدياتٌ تُضعف قدرته على مجرد التفكير أحيانًا بأنماط استجابةٍ موضوعية تُحقق مصلحته ومصلحة البشرية. وهنا أيضًا، تشكل محاولات القفز على “الثقافي” وتجاهله سببًا رئيسًا من أسباب المشكلة.
نحن إذًا أمام ظاهرةٍ تكاد تكون عامةً. حيث يتوارى “الثقافي” بأغلب عناصره ومكوناته في الغرب على استحياء في عمق الضمير الإنساني على المستوى الفردي، ويجري إخفاؤه على المستوى الاجتماعي والسياسي تحت شعارات الحداثة والعقلانية و(الترشيد) العلماني، والتي تُنكر نظريًا دور كثيرٍ من مكونات “الثقافي” في تشكيل الواقع، وبالتالي في ظهور التحديات، خاصة حين يتعلق الأمر بقضايا مثل الدين والهويات والمرجعيات، رغم دورها الحساس في تكوين تلك التحديات[3]. وهي قضايا تمثل عناصر أساسية في الحالة الثقافية، وستركّز عليها هذه الدراسة بشكل كبير.
أما في واقع الأمة فإن عملية تغييب “الثقافي” تتجلّى بشكلٍ مغاير. إذ يبدو أن معظم القضايا التي تهمّ أبناءها وتشغلهم، إن لم تكن كلها، تمثل تعبيرًا عن أحد مكونات “الثقافي” بشكلٍ أو بآخر. خاصة حين يتعلق الأمر أيضًا بعناصر الهوية والدين والمرجعيات. لكن الفوضى العارمة التي تعيشها الغالبية العظمى من مجتمعات الأمة على مستوى عالم الأفكار وفي الواقع المعيش تعيق إمكانية طرح الموضوع والتفكير فيه بشكلٍ واعٍ ومباشرٍ بين عامة أفرادها. لهذا، تبدو أي طروحات لفهم الإشكاليات الذاتية المتعلقة بهذه العناصر ممارسةً نخبوية متعالية على هموم الناس اليومية، وترفًا فكريًا وأكاديميًا لا حاجة إليه في خضمّ إلحاح الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الطاحنة. وتخف تحت حدّة الضغوط الداخلية والخارجية درجة المراجعات والنقد الذاتي الذي يجب أن تمارسه الأمة بدعوى مختلفة. ويبرز بالمقابل الإنشغال الهائل بـ “السياسي”[4]، وكل مايحيط به من مفاهيم تقليدية سائدة، بحيث يُعتبر من قبل الأغلبية على أنه أمّ الحلول لكل الأزمات والمشكلات، سواء على مستوى التحديات الداخلية، أو تلك التي تتعلق بالتفاعل مع الغرب منها.
لهذا، نؤكد من البداية أهمية إظهار دور العامل “الثقافي” في جدلية العلاقة مع الغرب من ناحية، وضرورة ممارسة عمليات عمليات النقد والمراجعة فيما يتعلق به في الفضاءين الحضاريين، وهو ما سيكون مجال تركيز هذه الورقة.

حين يفرض “الثقافي” نفسه

ثمة ظاهرة جديدة بدأت تبرز إلى السطح خلال السنوات الأخيرة، وهي تستحق الانتباه وتتمثل في أن “الثقافي” بجميع عناصره، وخاصة تلك المتعلقة بالهوية والدين، بدأ يفرض نفسه على الواقع الإنساني في كل مكان بشكلٍ أكثر وضوحًا. وظهر هذا جليًا في مسألة العلاقة بين الأمة والغرب، وما أفرزته وتفرزه من أنماط للتحدي والاستجابة من قبل الطرفين.
فإلى ما قبل أعوام قليلة، كانت مظاهر التفاعل الحضاري بين المسلمين والغرب تعبّر عن نفسها في ضمير كلٍ من الإنسان المسلم والإنسان الغربي على شكل وقائع وأحداث كبيرة وضخمة. لن نعود هنا بالتفصيل إلى الماضي السحيق، حيث بدأت تلك العلاقة بالتماسّ بين الحضارتين على مستويي الصراع والتعارف في القرون الهجرية الأولى، مرورًا بالحملات الصليبية المعروفة، وانتهاءً بما يسمى “الاستعمار” الذي عاشت تجربته معظم الشعوب الإسلامية على يد الغرب تحديدًا. فرغم أهمية استصحاب معطيات تلك الفترة في عملية التحليل، غير أن استيعابها كاملةً في هذه الدراسة بحجمها المطلوب سيكون مستحيلًا. مع الاعتراف بأن الموروث التاريخي لتلك العلاقة، بكل ملابساته ونتائجه، وأنماط التحديات التي طرحها، وأنماط الاستجابات التي حاولت مواجهتها، ستبقى جميعًا مكونًا أصيلًا من مكونات الذاكرة التاريخية للشعوب في المنطقتين. وبالتالي، فإنه لايزال يؤثر في رسم أطر العلاقة النفسية والفكرية والعملية بين تلك الشعوب. وهذه نقطة سنعود إليها مرارًا وتكرارًا في هذا التحليل على وجه التأكيد.
لكننا نهدف هنا تحديدًا إلى الإشارة إلى بروز ظاهرة جديدة تتمثل في ازدياد قوة العناصر الثقافية على الحضور العلني والمباشر فيما يتعلق بعملية التفاعل بين الأمة والغرب. فقد كانت أنماط المواجهة مع الغرب بالنسبة للمسلمين تُختصر في عناوين كبيرة من قضية فلسطين، مرورًا بمسائل التبعية السياسية والاقتصادية، وصولًا إلى الحروب العسكرية ومايسمى بـ (الحرب على الإرهاب) بعد أحداث سبتمبر عام 2001م في أميركا، واحتلال أفغانستان والعراق، وما إلى ذلك من عناوين معروفة. أما في الآونة الأخيرة فقد صارت أنماط المواجهة تُعبّر عن حضورها الثقافي المباشر والواضح من خلال فرض نفسها على الحراك الإعلامي وفي الفضاء العام، بعد أن كانت تلك العناصر تتوارى في أغلب الأحيان خلف ضجيج العناوين الضخمة التي تشغل بذاتها وتفاصيلها الرأي العام في الفضاءين الحضاريين المذكورين. والذي حصل نتيجة هذه النقلة أنها بلورت أنماط التحديات الكبرى بينهما في أمثلة محددة يسهل رؤية عنوانها الثقافي على اختلاف تجلياته، كما تسهل رؤية نمط الاستجابة لها بنفس الطريقة. وقد يكون من الضرورة بمكان الانتباه بشكلٍ أكبر إلى طبيعة وملامح النقلة المذكورة في أوساط الباحثين، إذ يمكن أن تصبح مفرق طريق في دراستنا لموضوع العلاقة مع الغرب للأسباب المذكورة أعلاه.
وبما أننا نحاول رصد الواقع، فسنناقش هنا بعض أنماط التحديات والاستجابة المعاصرة في جدلية العلاقة مع الغرب، والتي تتعلق بمسائل الهوية والدين تحديدًا، وما له علاقة بهما من فعاليات ونشاطات فكرية وإعلامية على مستوى الأفراد والمؤسسات، من خلال نماذج متنوعة طرحت نفسها على ساحة الواقع خلال الأعوام القليلة الماضية. وذلك من منطلق القناعة بأولوية وأهمية هذه الأنماط في تلك الجدلية، وأن فهمها بشكلٍ منهجي قد يساعد على تصحيح العلاقة المذكورة قدر الإمكان.

أولًا- في أنماط التحديات

لمزيدٍ من التحديد والإيضاح، يمكن القول بأننا ستنجاوز في الطرح التالي ما يمكن أن يدخل مباشرة تحت عناوين التحدي السياسي والاقتصادي والعسكري. وبالتالي، فستُحيلنا هذه المقاربة للتركيز على نوعين من التحديات. يتعلق الأول بالوجود الإسلامي في الغرب، حيث باتت مظاهر وتجليات هذا الوجود عنصرًا رئيسًا في أي محاولة لدراسة أنماط التحدي وخاصةً في الإطار الثقافي الذي يهمنا هنا. ويزداد هذا العامل أهميةً إذا أخذنا بعين الاعتبار أشكال الاستجابة الغربية له، والتي لم تعد تنحصر بتأثيرها في فضائه الجغرافي والثقافي على الإطلاق، وإنما أصبحات مفاعيلها وارتداداتها تشمل دائرة الأمة في كل مكان.
أما النوع الثاني من التحدي فيكمن في التحدي الذاتي الداخلي المتعلق بالراهن الثقافي للأمة. خاصة في إطار قدرتها المنهجية على فهم الواقع الغربي المعقّد بشكلٍ شمولي وموضوعي يمكنّها من الفرز الدقيق للعوامل الثقافية التي تُشكّل ذلك الواقع. حتى يتحقق شرط فهم الظاهرة قبل الانتقال للحكم عليها والبحث عن طرق التعامل معها.

1. تحدي الهوية في سياق العلاقة مع الغرب

تظهر قضية الهوية في الواقع المعاصر كأبرز العناصر الثقافية التي تلعب دورًا هامًا في رسم طبيعة العلاقة مع الغرب، وتحديدًا في توليد جملةٍ من التحديات الكبرى التي تؤثر في تلك العلاقة. يتجلى هذا التأثير بعدة أشكال، منها ما له علاقة بالوجود الإسلامي في الغرب بتفاعلاته المختلفة، ومنها ما يتعلق بالحضور العالمي المتزايد للإسلام والمسلمين وقضاياهم والأحداث المتعلقة بهم. لكن العامل الأول سيكون بؤرة اهتمامنا في هذا المجال، وبحيث يمكن أن نرصد بعد ذلك شيئًا من مقتضياته فيما يتعلق بالعامل الثاني.
لم تبرز إشكالية الهوية في الغرب وتطرح نفسها بهذه الدرجة من الوضوح كما حصل في الأعوام القليلة الماضية. لكن ثمة فارقًا في الموضوع بين أوروبا وأميركا لابد من الإشارة إليه. فوجود الإسلام والمسلمين يلعب دورًا رئيسًا في مسألة الهوية في القارة الأوربية بشكل عام، وفي القسم الغربي منها خصوصًا. بالمقابل، يشكل الواقع الأميركي ظاهرة أكثر تعقيدًا عند الحديث عن مسألة الهوية. فالإسلام والمسلمون ليسا سوى جزء من مشكلة في غاية التعقيد ترتبط بجملة التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها ذلك البلد / القارة. ومن هنا، سنأخذ هذا الفارق بعين الاعتبار في الصفحات القادمة.

أ‌. السياق الأوروبي لتحدي الهوية
يبدو الأمر في أوروبا أقرب للمفارقة. فشعوبها تسعى إلى التقارب والاندماج من باب الشعور بالمصلحة الاقتصادية والسياسية التي تنتج عن مثل تلك العملية. وقد وصلت تلك المساعي إلى حدّ تشكيل الاتحاد الأوروبي الذي بدأ بستة بلدان وبلغ عدد دوله حتى الآن 27 دولة. لا ننسى أن دول أوروبا خاضت على مدى قرون حروبًا طاحنة فيما بينها، وأنها شهدت صراعات عرقية وإثنية كانت بعض تجلياتها من أبشع ما شهده التاريخ البشري. بل قد يكون ظهور الدولة القومية في أوروبا بحدّ ذاته نوعًا من أنواع التنظيم السياسي والإداري للمشاعر العرقية والإثنية بغرض حشدها للتميز عن الآخر المختلف عرقيًا وإثنيًا، ومحاربته عندما تقتضي الحاجة ذلك.[5]
رغم هذا، يظهر واضحًا أن إدراك أهمية المصالح الاقتصادية والسياسية نجح في دفع تلك العناصر الثقافية إلى منطقة (اللاوعي) لدى الإنسان الأوروبي، وفي مواراتها بحيث لا تظهر كعاملٍ في صناعة الواقع خلال العقود الأخيرة. كان العامل المذكور يُعلن حضوره في حالات نادرة كما كان الحال في صراع الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية، ومساعي إقليم الباسك للانفصال في اسبانيا. لكن، يمكن القول بشكلٍ عام أن أوروبا أفلحت لبضعة عقود في وضع مسألتي الهوية والدين على هامش الفضاء العام. وحصل ذلك من خلال ترتيبات سياسية وقانونية ظهر خارجيًا أنها قادرة على التعامل معهما نهائيًا، في حين أظهرت تطورات السنوات القليلة الماضية أن مثل هذه الترتيبات عملت فقط على تغطيتهما مرحليًا. بل ربما يمكن القول أن الترتيبات المذكورة ساهمت لاحقًا في إظهار حجم التحدي الثقافي وإذكاء نار غلوائه كما سنرى بعد قليل.
وفي عقود الرخاء في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، احتاجت كثير من بلدانها ليدٍ عاملة رخيصة تعمل تحديدًا في مجالات متواضعة كان الإنسان الأوروبي زاهدًا فيها بحكم قدرته على الانشغال بما هو أفضل منها[6]. في هذه الأجواء، تصاعدت الهجرة إلى أوروبا وكان للمسلمين فيها نصيبٌ كبير، خاصة من الهند وباكستان وتركيا وبلاد المغرب العربي. ورغم التقديرات المتفاوتة فقد وصلت أعدادهم مؤخرًا في القارة بأسرها إلى أكثر من 50 مليون إنسان، منهم أكثر من 15 مليون داخل دول الاتحاد الأوربي[7]. ولاتدخل تركيا بطبيعة الحال في حساب هذه الأرقام.
ومع ازدياد ظهور المسلمين في أوروبا، وترسيخ وجودهم من خلال كثير من المؤسسات والرموز التي تشمل المباني والأزياء وأشكال العبادة وغيرها، خرجت عناصر ثقافية تتعلق بالهوية والدين والمرجعيات من سُباتها الزمني في ضمير الإنسان الأوروبي، وباتت تفرض وجودها على واقع العلاقة بين المسلمين والغرب كنمطٍ رئيس من أنماط التحدي التي تتلبّسُ تلك العلاقة. وبدأ هذا الإنسان الذي يُفترض بأنه الإفراز المثالي لشعارات التعددية والانفتاح والمساواة يشعر بالخطر على مايرى أنه هويته التي تحكم نمط حياته في نهاية المطاف.
ثمة مفارقة ثقافية يجدر الوقوف عندها هنا. فقد كان التحليل السائد بأن نمط الحياة لدى إنسان الحداثة ينبثق من حسابات عقلانية (راشدة) Rational Calculations، وهي حسابات مادية بحتة، لاعلاقة لها من قريب أو بعيد بأي عنصرٍ ثقافي يتعلق بالأخلاق والقيم والمبادىء والمرجعيات المرتبطة حكمًا بالهوية والدين[8]. ونحن مع قناعتنا بمنطقية هذا التحليل وقدرته على تفسير الظاهرة، إلا أننا نجد في التطورات الأخيرة ما يمكن إضافته إلى الطرح المذكور. إذ لايمكن إنكار العامل الاقتصادي في الردّة التي يشهدها إنسان الحداثة الغربي نحو تضخيم مسألة الهوية. خاصةً مع الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة الأخيرة التي أصابت عشرات الملايين في دولٍ كانت تُعتبر من مفاخر إنجازات النظام الاقتصادي العالمي، إن لم تكن من (معجزاته). بمعنى أن ذلك الإنسان وجد بناء على الحسابات العقلانية واقعًا جديدًا يرتسم أمامه، من ملامحه تناقصُ قدرته للحصول على فرص العمل من ناحية، وحصول المهاجرين على نسبٍ كبيرة من ميزانيات المعونات الاجتماعية من ناحية ثانية. وأدت هذه المسائل مع غيرها من العوامل الاقتصادية إلى تحفيز مشاعر الخوف من وجود (الآخر) على الأرض الأوروبية. ولكن، ماذا يعني أن تقود هذه المشاعر إلى إيقاظ مشاعر (الهوية) العرقية والدينية تحديدًا؟ ألا يعني أن مثل تلك العناصر الثقافية متجذرةٌ كمكونٍ رئيس من مكونات الشخصية الإنسانية عمومًا، والشخصية الأوروبية التي نتكلم عنها على وجه الخصوص؟ بل ألا يمكن القول أنها تبدو وكأنها خط الدفاع الأخير عن وجود ذلك الإنسان، وليس فقط عن نمط حياته المعاصر؟
من الممكن القول بأننا نتحدث هنا عن شرائح من المجتمعات الأوروبية لا تزال تشكل أقليةً من سكانها. لكن الظاهرة المذكورة تتصاعد نوعيًا وكميًا، وتعبّر عن نفسها بأساليب وطرق متنوعة لم تكن معروفة من قبل. كما يلفت النظر فيها ذلك التركيز الكبير على الرموز التي تُعبّر بطريقة وأخرى عما هو “ثقافي” سواء كان الأمر يتعلق بخيار اللباس كما هو الحال مع قضيتي الحجاب والنقاب، أو يتعلق برموز الإسلام كدين، كما هو الحال مع موضوع مآذن المساجد في سويسرا.
ظهرت القضية بشكل صارخ مع العام 2003م حين طُرح في فرنسا قانون يسمى قانون “صيانة العلمانية” يمنع ظهور الرموز الدينية في الأماكن العامة، وقد جاء أساسًا كرد فعل على غطاء الرأس أو (الحجاب) الذي ترتديه المرأة المسلمة في فرنسا. ولإبراز الجانب الثقافي في الموضوع، سننقل فيما يلي فقرات معبّرة مما كتبه الناقد الدكتور عبد الله الغذامي[9] عن هذا القانون: “..ولقد كانت اللجنة التي يرأسها برنار ستازي، وهو وزير سابق وشارك فيها عشرون عضوًا وصفوا بالحكماء، كانت هذه اللجنة قد اتخذت من العلمانية أساسًا للنظر في موضوع الحجاب، ورأت أن العلمانية هي قانون فرنسي منذ عام 1905 حيث يؤكد على فصل الدين عن الدولة، ورأت اللجنة أن العلامات الدينية الظاهرة تهدد فكرة العلمانية في فرنسا، وأن وجود مهاجرين مسلمين يحملون علامات دينهم الخاص هي علامة على عدم الاندماج، ولذا طرحت اللجنة مفهوم صون العلمانية وهذا يقتضي منع العلامات الظاهرة، وخصت بذلك الحجاب والصلبان الكبيرة والقلنسوة اليهودية، ولنا أن نتناسى الصلبان والقلنسوة لأنهما موجودان في فرنسا منذ قرون وقبل قانون عام 1905، وأثناءه وبعده، ولم يكونا موضع سؤال، كما أنهما لم يكونا موضع نقاش قبل لجنة ستازي، ومن الواضح أنهما أدمجا في التقرير للتهرب من تهمة العنصرية ضد الإسلام، والأمر في حقيقته محصور في الحجاب، فهو القضية وهو السؤال. والحجاب لباس وهو لهذا علامة ظاهرة تدل على هوية وعلى تميز، وهنا يأتي لب القضية، ويبدأ السؤال عن حقوق الفرد في التميز والاختلاف وعن حقوقه في أن يمتلك ثقافة خاصة ودينا خاصا…”
ينتقل بعدها الغذامي ليحلل الموضوع من مدخل ثقافة الصورة قائلًا: “هنا تبدو قيمة الصورة ومدى أثرها في تحديد المواقف واستنهاض التأويل المضاد، وستظهر الثقافة وماتخفيه من أنساق مضمرة…. ومع تقرير ستازي عن صون العلمانية تتكشف القيم النسقية الدافعة للموقف. وأولها صيغة (صون العلمانية) وهي صيغة فقهية تأخذ بعدها الاصطلاحي من اللاهوت التقليدي في حماية المؤسسة من الآخر المختلف…. وليست لجنة الحكماء مع ستازي سوى لجنة لاهوتية تصنع فقهًا تقليديًا بلبوسٍ جديد، وهي نسقٌ ثقافي يكشف عن التخوف من الآخر المختلف ويكشف عن ذاتٍ لاتحمي نفسها إلا عبر قمع الآخر…. والمسألة هنا تمس مبدأ العلمانية كأساس ثقافي وحضاري وهل للعلمانية أن تكون بوتقة صاهرة، وإذا عجزت عن الصهر فماذا يكون الموقف، وهل من الحق أن يجري فرض الانصهار قسريا، وهل العلامات الثقافية تحمل مضادًا ثقافيا بحيث أن لبس الحجاب مثلًا يصبح إعلان ثورة على نظام الدولة..؟ وهل الحجاب بما أنه علامة دينية، هل هو مضاد للعلمانية..؟ لو قال قائل إن العلامة الدينية هي شيء مضاد للعلمانية فهذا معناه أن العلمانية دين آخر له مقدساته الناسخة لما سواها، وأن العلمانية مضاد ديني لأي دين آخر..”.
ويخلص الغذامي بعدها إلى استخلاص دلالات حضارية للموقف الفرنسي تعبر عن موقفها الثقافي في العالم المعاصر، فيقول: “وفرنسا في فعلتها هذه لاتختلف عن الفعل الثقافي النسقي لأي ثقافة محافظة حينما تجنح الثقافة المحافظة إلى حماية نفسها من الآخر المخالف عبر تشويه الغازي ووصفه بصفات تجعله خطرًا ومهددًا للذات لكي تستنفر قوى الحراسة الذاتية وتبدأ في إقصاء الآخر وإلغاء أثره…. ولاشك أن فرنسا تمر بعقدة ثقافية حالية حيث تشعر بتأخرها مقارنة بالمد الثقافي العالمي والأمريكي خاصة، ولذا تعبر عن هذا الحس بالتأخر عبر طريقين، أحدهما في تكثيف الدعوة للفرنكفونية والسعي لخلق تجمع فرنكفوني عالمي لبث الثقافة الفرنسية في دول ترى أنها ذات قابلية لذلك، والثاني هو رفضها الآخر الداخلي المختلف، وكذا محاولة تنقية اللغة الفرنسية من شوائب الدخيل الإنجليزي، وهي هنا تعمل الشيء ونقيضه ففي حين تحصن نفسها ضد الآخر الأمريكي والآخر المسلم فإنها تبيح لنفسها أن تبشر بذاتها الثقافية وتقدم هذه الذات على أنها نموذج رفيع للثقافة البشري. وتلك هي سمات النسقية الثقافية حيث يجري تنزيه الذات وتزكيتها في مقابل تشويه الآخر والتخويف منه. ولذا فإن الظاهرة الفرنسية هي ظاهرة ثقافية تحتاج إلى تمعن كبير من أجل نقد السلوك الثقافي العلماني حينما يخرج عن علمانيته ويجنح إلى لاهوتية جديدة، متوسلًا بحيلٍ ثقافية ومفردات مصطلحية ظاهرها صحيح ومضمرها نسقي، وهذا الفعل على وجه التحديد – إذا لم يُنتقد – فإنه سيتحول إلى مبرر ثقافي لأي دكتاتورية عالمية لكي تقمع تحت مسمى العلمانية والديمقراطية وتسمي الانصهار القسري تحضرًا ومسلكًا علمانيًا محترما”.
نحن إذًا هنا بإزاء عامل ثقافي بامتياز يشكل الجذر العميق لتحدي الهوية الذي يواجهه المسلمون في سياقه الأوروبي. وتتضح أبعاد التحدي المذكور حين يُصبح الحل الوحيد المطروح أمامهم للتعامل مع الموقف متمثلًا في عملية الاندماج. والحديث هنا لم يعد عن اندماجٍ يتعلق باحترام قوانين الدولة ومؤسساتها، وبالانخراط في فعاليات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، وإنما أصبح يمثل إلغاءً كاملًا، في الحالة الفرنسية على الأقل، لكل مقومات الهوية الأصلية في عملية سماها مراد هوفمان بـ (شرك التمثّل) الذي يقتضي بأن “يذوب المسلمون بالتدريج في المجتمعات الغربية تمامًا”[10].
ورغم أن المسلمين في أوروبا يطرحون خيار الاندماج بمعناه المتمثل في “احترام قانون البلد الذي يقيمون به والتعاون مع الأكثرية ككتلة متميزة من أجل عملية مشتركة لبناء مجتمع مثالي” كما يقول هوفمان، إلا أن دور الدين بحدّ ذاته في كل بلدٍ أوروبي وتفاوت طبيعة علاقته بالدولة يقف أحيانًا عائقًا أمام ذلك الاندماج بأغلب تعريفاته ومتطلباته.
وهذا ما يجعل باحثًا مثل يحيى اليحياوي يقول: “إن المشكل الذي حال، أو قد يحول، دون أورَبَة الإسلام لايبدو متأتيًا من ممانعة لدى المسلمين لتمثل مبدأ فصل الديني عن السياسي، ولكن بالأساس لطبيعة العلاقات بين الدولة والكنيسة داخل كل بلد أوربي على حدة. فإذا كان مبدأ حرية التعبد مضمونا بكل دول أوروبا، فإن فصل الدولة عن الكنيسة ليس هو القاعدة العامة دائمًا، وبالتالي، يبقى إشكال تنظيم المسلمين الأوربيين، وأجندات مطالبهم مرتبطة بالهندسة المؤسساتية لعلاقة الدولة بالديانات حيث يعيشون، ويتعايشون”[11].
لا نوافق الباحث في أن هذا هو العامل الرئيس في القضية، ولا في مبدأ القبول بفصل الديني عن السياسي كتعبيرٍ عن عملية الاندماج. لأن الاندماج الموضوعي يقتضي على العكس من ذلك الانخراط في العملية السياسية على اعتبار أنها واحدةٌ من فعاليات الحياة التي لا يمكن تحقيق عملية الاندماج ابتداءً بعيدًا عن ممارستها. لكن من الواضح أن العامل الثقافي الداخلي كان يلعب دورًا في رسم أطر العلاقة مع الإسلام والمسلمين في أوروبا.
يأتي في هذا الإطار مثلًا أن مناقشة قانون منع النقاب في بلجيكا، ثم إقرار القانون المذكور في شهر مايو من العام الفائت 2010م جاء في خضمّ أزمة سياسية طاحنة أعاقت تشكيل الحكومة البلجيكية لمدة شهور، وكانت خلفيتها الأساسية عرقية تتمثل في رغبة حزب (إن في ايه) الذي يمثل اقليم فلاندرز الشمالي الناطق بالهولندية بتقسيم بلجيكا[12]. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن حالات ارتداء النقاب لا تتجاوز العشرات من عَديد الجالية الإسلامية الضخمة في بلجيكا فإن السؤال يُصبح مشروعًا عن سبب التركيز وسط أزمة سياسية محلية على هذه القضية (الهامشية). لكن الإجابة تصبح واضحة حين نتذكر قاعدة ثقافية واجتماعية تتمثل في أن التخويف من الآخر المختلف كليًا يكون في كثيرٍ من الأحيان مدعاةً لتأكيد (ذاتيةٍ) محلية، قد يكون فيها هي نفسها بعضُ عناصر الاختلاف، لكن التعامل مع مشكلات الاختلاف على هذا المستوى تُصبح أسهل عند صرف الأنظار إلى المستوى الأعلى من الاختلاف مع ذلك الآخر.
وحين نعلم أن نسبة تتراوح بين 25 – 33% من سكان العاصمة بروكسل هم من المسلمين، وأن أكثر سبعة أسماء للمواليد شيوعًا في العاصمة عام 2009 كانت على التوالي: محمد، آدم، رايان، أيوب، مهدي، أمين، حمزة[13]. وحين نتذكر أن بروكسل هي عمليًا عاصمة الاتحاد الأوروبي، فإن فهم الظاهرة من جانبها الثقافي يصبح أكثر إمكانًا. إذ يمكن تصور الذعر الثقافي من الرمزية الكامنة في أن تُصبح عاصمة الاتحاد الأوروبي ذات غالبية مسلمة، وهي رمزية يشعر الأوروبي أن لها في المستقبل تبعاتٍ عملية، الأمر الذي يؤكد حدّة شعوره بالذعر منها، إلى حدّ الإحساس بضرورة التعامل معها عمليًا من الآن بشكلٍ من الأشكال.
ولكن، لما كانت المنظومة السياسية والقانونية والإدارية السائدة لا تعطي الفرصة للتعامل مع مثل هذه الظواهر بشكلٍ مباشر عبر قوانين تمنع الهجرة مثلًا أو تفرض ترحيل الأجانب أو مثلها من الممارسات، فإن البديل الوحيد يكمن في اللجوء إلى هوامش تلك المنظومة وتفسير بعض مقتضياتها الملتبسة بشكلٍ، وإن بدا مُفتعلًا وموظفًا، إلا أنه المخرج الوحيد للتعبير عن العوامل الثقافية الأصلية التي تضغط على أصحابها للتعامل مع الظواهر المذكورة.
إن المشكلة في مثل هذه الممارسات أنها تساعد أهل المنظومة السياسية على الهروب من مواجهة الجذور الحقيقية للمشكلات الإنسانية في بلادهم وفي العالم على حدٍ سواء. فحين يجري الهروب إلى هذه الإجراءات تحت شعارات القانون والدستور، يمارس الساسة، ومعهم أحيانًا المثقفون، عملية تسطيح كبيرة لتلك المشكلات. ذلك أنهم يختزلون الإشكالات الثقافية الكبرى الناجمة عن تنزيل شعارات التعددية وحقوق الإنسان والانفتاح على واقعٍ بشريٍ معقّد لم يكونوا ابتداءً مهيئين للتعامل مع تطوراته. وهم يهربون من التناقضات العميقة التي بدأت تظهر في الحياة الإنسانية بين مقتضيات المنظومات الاقتصادية والسياسية والفكرية الغربية تحديدا، والتي كان يُعتقد أنها ستبقى منسجمةً ومتكاملةً إلى الأبد، في حين أظهرت الأزمات المتلاحقة الناجمة عنها ضرورة إعادة النظر فيها على كل صعيد.
ومع طغيان عقلية الاستسهال والتسطيح والاختزال المذكورة، كان طبيعيًا أن يهرول المشرّعون الفرنسيون لإقرار قانون مماثل للقانون البلجيكي بعد شهور قليلة من صدور القانون الأول. بل إن بعض التحليل لتفاصيل القانون المذكور توحي بمزيد من الدلالات ذات الطبيعة الثقافية. فنص القانون لا يذكر النقاب مباشرة وإنما يلجأ إلى عبارة “تغطية الوجه في الأمكنة العامة”. وتشمل الأمكنة العامة الشوارع وكذلك “الأماكن المفتوحة للجمهور” مثل المتاجر ووسائل النقل والحدائق والمقاهي أو تلك “المخصصة لخدمات عامة” مثل البلديات والمدارس والمستشفيات. ويمنع النص بعد فترة “تمهيدية” من 6 أشهر كل من تضع النقاب تحت طائلة غرامة تقدر بـ 150 يورو وتدريب على المواطنة! كما يعاقب القانون كل من يجبر امرأة على وضع نقاب بالسجن عاما وبغرامة 30 ألف يورو كجنحة جديدة تدخل حيز التنفيذ مع إقرار القانون[14].
وهكذا، نرى كيف تجنب القانون المذكور الإشارة إلى الدلالة الثقافية للموضوع. والتفّ عليه بشكلٍ غير مباشر حين ربطه بمفهوم المواطنة، وذلك من خلال جعل (التدريب على المواطنة) جزءًا من عقوبة من ترتدي النقاب. بل يكاد الأمر يكون أقرب إلى قلب الموازين بالنسبة للقيم الثقافية التي كان يُفترض بها أن تكون من صلب جذور النظام السياسي. فبدلًا من أن تبقى مسألة اللباس أيًا كان ممارسةً تدخل في إطار الحرية الشخصية التي يُفترض بها أيضًا أن تكون من أسس المواطنة، وهو ماكان عليه الأمر إلى الآن، انقلبت المعايير فأصبح هذا النوع المحدد من اللباس خروجًا على تلك الأسس يستحق العقاب وإعادة التأهيل. وهي ممارسةٌ تُحيلنا إلى الدلالات الواردة في تحليل الغذامي أعلاه.
إن شيوع هذه الطريقة من الحشد الرسمي للتركيز على الثقافي في التعامل مع تحدي الهوية يؤدي حكمًا إلى انتشار مقتضياتها على جميع المستويات، وبحيث يرشح أثرها تدريجيًا إلى المواطن الفرد العادي. فتكون النتيجة حادثة مثل قتل السيدة المصرية مروة الشربيني من قبل مواطن ألماني، وداخل محكمة كانت تنظر في قضية رفعتها ضده لاعتدائه عليها قبل ذلك بسبب حجابها واصفًا إياهابـ (الإرهابية). وهو الوصف الذي أعاد إطلاقه وهو يطعنها داخل حرم المحكمة إلى أن فارقت الحياة.
ومن مظاهر الانتشار المذكور ما جرى في سويسرا حيث وافقت أغلبية 57% ممن شاركوا في استفتاءٍ في ذلك البلد على منع بناء المآذن في سويسرا. لن نقارب الموضوع من مدخل التحليل السياسي وإنما سنسلط الضوء على الجوانب الثقافية فيه، وخاصة منها مايتعلق بطبيعة الحملة التي صاحبت هذه القضية. فقد تمحورت الحملة المذكورة على شعارٍ وصورة، وهما من العناصر الثقافية بامتياز. أما الشعار الذي رفع في كل مكان فكان يتحدث عن ضرورة محاربة “أسلمة سويسرا”. ولاشك أن رفع الشعار المذكور من قبل أصحابه جاء مبادرة ذكية لتحقيق أهدافهم. فالشعارات عادةً ماتختزل كثيرًا من القضايا الشائكة والمعقدة في كلمات مباشرة وسهلة يلوح لأول وهلة أنها تُعطي إجابات على الأسئلة الكثيرة المتعلقة بتلك القضايا. ثم تأتي الصورة المستخدمة في الحملة، وهي صورة امرأة منقبة بجانب علم سويسري ومآذن رُسمت على شكل صواريخ كتبت تحتها عبارة “إذا أردت أن تكون بلادك بهذا الشكل، فصوّت لمصلحة المآذن”. ومرةً أخرى، يظهر كيف يُستعمل الرمز والشعار كأداةٍ حاسمة للتعامل المجتزء مع قضية ثقافية، وكيف يجري استخدامه لفصل القضية عن سياقها الكبير.
وفي جميع الأحوال، يظهر من الأمثلة السابقة كيف يفرض “الثقافي” نفسه، خاصة في مجال الهوية والدين والمرجعيات، وكيف يعبر عن حضوره المتزايد كعنصر أساسي من عناصر التحدي المعاصر مع الغرب، في سياقه الأوروبي حتى الآن.

ب‌. السياق الأمريكي لتحدي الهوية
“أُعلن هنا أنني أُؤمن بعيسى المسيح منقذًا ومخلّصًا وابنًا لله”.. هذا ما اضطر إلى قوله المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة (تيم رومني) في خطاب مطول خلال انتخابات الرئاسة السابقة. لم يكن المرشح المذكور ينفي عن نفسه تهمة الإسلام، وإنما كان يقولها لأنه من طائفة (المورمون) التي تعتبر نفسها مسيحية، لكن مذاهب مسيحية أخرى لا تعترف بها. وقد قالها في خضم هجوم عليه من قبل مرشح آخر هو مايك هاكابي الذي تساءل ببراءة في مقابلة مع صحيفة (النيويورك تايمز) قائلًا: “ألا يَعتبر أتباع مذهب المورمون أن المسيح هو شقيق الشيطان؟”!..
والحقيقة أن تلك الحملة شهدت أيضًا حضور العامل العرقي بشكلٍ واضح. فقد كان من أبرز أحداثها الانتخابية قيامُ (أوبرا وينفري) أشهر مذيعة تلفزيونية أمريكية بتبنّي حملة المرشح الديمقراطي للرئاسة (باراك أوباما). حيث جالت المذيعة معه جامعةً له عشرات الآلاف من الحضور في لقاءات جماهيرية غير مسبوقة حظيت بتغطيةٍ إعلامية ضخمة. والمعروف أن كلًا من (أوبرا) و (أوباما) هما من الجالية الأفريقية الأمريكية. والمعروف أيضًا أن (أوبرا) أصبحت امبراطورةً إعلامية هي في حدّ ذاتها ظاهرةٌ غيرُ مسبوقة. إذ يشاهدُ برنامجها اليومي عشرات الملايين من المشاهدين الذين يقول المعلقون أنهم ليسوا مجرد (مشجعين) وإنما بمثابة أتباع. علمًا أنها المرةُ الأولى التي تُزكّي فيها المذيعة المشهورة مرشحًا للرئاسة.
ما يهمنا من هذه الوقائع الإشارة إلى أن ثمة حربًا شرسة على هوية أميركا تدور في تلك البلاد في السنوات الأخيرة. وهي حربٌ لايمكن أبدًا إيراد شواهدها الكثيرة جدًا في هذه الدراسة المحدودة. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أثناء الحملة الرئاسية الأخيرة كيف أعرب 50% من الأمريكان عن رأيهم بأن أمريكا (ليست جاهزة) لأن يكون لها رئيس من طائفة المورمون. هذا في مقابل 27% قالوا أن البلاد (ليست جاهزة) لرئيس أسود و24% ذكروا أنها (ليست جاهزة) لرئيسٍ امرأة.
لا نريد ابتداءً أن نقلل من شأن التحدي المتعلق بالمسلمين والإسلام في أميركا، فهذا أمرٌ لايمكن إنكاره بأقل درجات المنطق. لكن هذه الورقة تهدف إلى تقديم تحليل موضوعي قدر الإمكان يساعدنا على فهم الظاهرة بشكلٍ علمي.
لابد من التذكير هنا بأن طبيعة الذاكرة التاريخية حين يتعلق الأمر بعلاقة أميركا بالمسلمين والإسلام تختلف جذريًا عن تلك التي تميز علاقة أوربا بالمسلمين والإسلام. وحين نتحدث عن العامل الثقافي تحديدًا، فإن إدراك هذه المقدمة واستحضارها في عملية التحليل تصبح ضرورية على المستوى المنهجي.
وليس من المبالغ فيه أن نقول أن الأميركان سمعوا على المستوى العام بالإسلام وشعروا بوجود المسلمين مع أزمة احتجاز الرهائن في طهران منذ ثلاثة عقود. ثمة واقعٌ أكاديمي أيضًا يتمثل في تنميط النظرة إلى الإسلام وأهله قبل تلك الفترة من خلال الجانب الأميركي لعملية الاستشراق، وهي مسألة عالجها باستفاضة إدوارد سعيد خاصة في كتابيه (الاستشراق) و (تغطية الإسلام)، وكادت إلى درجةٍ كبيرة تنسف الجذور التي قامت عليها تلك النظرة، بل وتجعل الانطلاق منها كمدخل لفهم المسلمين والإسلام تهمةً علمية وأكاديمية في كثيرٍ من الأحيان.
والأهم من كل هذا أن نستحضر حقيقة ارتباط الدين بالحضارة الأميركية منذ اللحظة الأولى، وهي وإن كانت علاقة ملتبسة غير أن حضورها يفرض نفسه من تلك اللحظة المبكرة. ففي الحادي عشر من نوفمبر عام 1620م، وقّع الرجال، دون النساء، على وثيقة تُدعى “وثيقة مايفلاور”، نسبةً إلى السفينة التي كان عليها مهاجرون إنجليز ورست على الشطىء الأميركي. وهي وثيقة أصبحت فيما بعد “أساسًا لعملية الحكم الذاتي، وسيادة القانون”[15]. بدأت الوثيقة على الشكل التالي: “باسم الله العلي، آمين. نحن الموقعين أدناه. من الرعايا المخلصين لمولانا صاحب الجلالة الملك جيمس المعظم. بفضل الله ونعمته. سيد بريطانيا العظمى وفرنسا وأيرلندة. حامي حمى الدين والذائد عن حياض الوطن. بعد أن قمنا برحلتنا لتأسيس أول مستعمرة في الأجزاء الشمالية من فرجينيا. تمجيدًا لاسمه تعالى. وترويجًا للدين المسيحي. وتعظيمًا لملكنا ولبلادنا. نتعهد بموجب هذه الوثيقة بالتكافل والتضامن. أمام الله، وأمام بعضنا البعض، بأن نتفق ونتحد معًا في كيانٍ سياسي مدني واحد. وصولا إلى درجة أعلى من تنظيم الذات والمحافظة عليها وتحقيق ما ورد ذكره من أهداف. وأن نسعى بموجب هذه الوثيقة إلى وضع، وصياغة، وتنفيذ القوانين والتشريعات والأنظمة والدساتير والمناصب، من وقتٍ إلى آخر، حسبما تقتضيه الضرورة والمصلحة. خدمة للخير العام في المستعمرة، وتحقيقا له، والتعهد بتطبيق ما ورد فيها من أحكام والامتثال لها..”.
كانت الخلفية الدينية لأميركا جلية إذًا، لكن ملابسات عديدة لعبت دورًا في تحديد دور الدين في إطار محدد، خاصة بعد أن صدر التعديل الدستوري الأول القاضي بالفصل التام بين الكنيسة والدولة عام 1789م. وما بين الالتزام الديني، والالتزام بقيمة الحرية، وتحقيق مصالح (المستعمرة)، وتحديد طبيعة العلاقة مع الآخر، وهي من العبارات المفتاحية الواردة في الوثيقة أعلاه، ظهر تشابكٌ معقّد أدّى منذ تلك الأيام المبكرة إلى الأحداث الكبرى التي شهدها التاريخ الأمريكي، مثل إبادة الهنود الملحدين تقربًا إلى الله. ثم إن دور الدين انحصر بعد ذلك تاريخيًا في الشأن الخاص إلى درجة كبيرة. واستمر هذا تقريبًا إلى بداية الثمانينيات الميلادية مع وصول رونالد ريغان إلى سدة الرئاسة الأميركية مع موجة من المحافظة الجديدة والتدين[16]. ورغم أن هذا العنصر لعب دورًا في المجال السياسي من خلال تزايد دعم إسرائيل بناءً على رؤية دينية، غير أنه لم يؤثر إلا نادرًا في طريقة التعامل مع الوجود الإسلامي داخل أميركا.
لكن طبيعة العلاقة مع الإسلام والمسلمين اختلفت إلى درجة كبيرة مع أحداث سبتمبر المعروفة عام 2001م. والذي لايدركه الكثيرون أن تلك اللحظة التاريخية تزامنت مع تغييراتٍ جذرية كانت تتفاعل داخل أميركا فيما يتعلق بمسائل الهوية والدين والإثنيات والمرجعية. وسننقل هنا فقرة من تحليل سابق نُشر في سياق آخر[17] لعلاقته المباشرة بالموضوع:
“كانت نهاية التسعينيات لحظة نادرة في رحلة الحياة الأميركية… ففي أوساط المجتمع الأميركي كانت تلك الفترة من القرن الماضي ذروة تشكيل عقد اجتماعي جديد غير مكتوب، من تقاليده زيادة احترام الأقليات والاعتراف بدورها في البلاد، بل والقيام بمراجعات تاريخية أكاديمية وإعلامية وحقوقية لما واجهته تلك الأقليات في الماضي من مظالم واضطهاد.
كما عمّ في أميركا بشكل كاسح مصطلح Politically Correct (صائب سياسيا)، وقد شاع استخدام هذا المصطلح في كل مجال لتأكيد وجود تقاليد وحدود وأعراف تحكم بشكل صارم كيفية تناول الحساسيات الإثنية والعرقية والدينية وتلك التي تتعلق بجنس الإنسان (Gender)، وتحدد أطر التعامل مع تلك الحساسيات في الخطاب السياسي والإعلامي والأكاديمي والفني والأدبي والثقافي العام داخل أميركا.
في خضم ذلك الحراك، كانت مجموعات اليمين المتطرف تنظر إلى ما يجري على أنه يمثل ضياع بوصلة أميركا الحقيقية، وكانت تشعر بشكل متزايد بأن البلاد فقدت رؤية إستراتيجية مركزية تعيد لها هويتها الأصيلة داخليا، وموقعها المركزي المهيمن في الساحة العالمية.
كانت هذه المجموعات تعتبر ما يجري في أميركا عملية تفكيك للبنى الأساسية للمنظومة الفلسفية التي كانت السبب وراء “عظمة” الولايات المتحدة محليا وفي الساحة الدولية، وكانت تنظر إلى التطورات التي تحدثنا عنها على أنها الدليل الأكيد على دخول البلاد مرحلة هلهلة واهتراء فوضوي عشوائي لا يبدو له ضابط.

تداخلت في المسألة بطبيعة الحال المصالح الشخصية ببعض القناعات الأيديولوجية المغرقة في لاهوتيتها، وكانت الخلاصة تتمثل لديهم في إعادة رسم تلك الرؤية الإستراتيجية المركزية التي تعيد أميركا إلى ما كانت عليه.
بدأت المجموعات المذكورة أولا رحلة بحث طويلة في أدبيات بعض المفكرين والفلاسفة المحافظين الأميركان التاريخيين مثل ريتشارد ويفر وفرانك ميير وفريدريك هايك ورسل كيرك وجيمس بيرنهام. وشيئا فشيئا، ومن خلال قراءة انتقائية لأدبيات المحافظين التاريخية، تشكلت لدى مجموعات المحافظين الجدد تلك الرؤية المركزية الإستراتيجية التي يجب أن تعيد أميركا إلى ما يرون أنه المسار الصحيح. وقد ظهرت الرؤية في وثائق عديدة كان أشهرها وأكثرها شمولا (مشروع القرن الأميركي الجديد) الذي صدر في يونيو/ حزيران 1997 وتحته توقيع شخصيات معبرة منها للمفارقة ديك تشيني ودونالد رمسفيلد وبول وولفويتز وزلماي خليل زاده. رغم هذا، بقي المحافظون الجدد في انتظار لحظة تاريخية تسمح لهم بتنزيل رؤيتهم تلك على أرض الواقع، وكانت تلك اللحظة بطبيعة الحال لحظة انهيار برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر/أيلول 2001.”
رفض المحافظون الجدد إذًا كل التأثيرات الثقافية التي حصلت في البلاد خلال الفترة السابقة، والتي تأثرت بالمتغيرات الاجتماعية والديمغرافية وأثّرت فيها. وفي خضمّ محاولتهم لتصحيح المسار بالشكل الذي يرونه جاءت أحداث سبتمبر المذكورة، فوفرت لهم فرصة فريدة لتحقيق الهدف من خلال التركيز على المسلمين والإسلام في تلك العملية.
وعبر عملية تجييش سياسي وإعلامي ضخمة وغير مسبوقة قامت بها النخب السياسية والدينية[18]، تأثرت شريحةٌ تبلغ الملايين من الشعب الأميركي برؤية تلك النخب وتبنتها تدريجيًا. من هنا، بات المسلمون في أميركا عرضةً لأشكال متنوعة وعديدة من التحديات خلال السنوات الماضية. وخلال هذه الفترة، لم تظهر بشكلٍ واضح، خاصة لدى المسلمين داخل أميركا وخارجها، مفاصل التداخل بين صراعات ثقافية على هوية أميركا هي في أصلها محليةٌ وداخلية بحتة، ولا يكاد يكون للوجود الإسلامي علاقةٌ بها، وبين عملية توظيف هذا الوجود من قبل الأطراف المختلفة، وبوسائل مختلفة، للتعامل مع تلك الصراعات.
لكن التطورات الداخلية في أميركا خلال العامين الماضيين، وخصوصًا مع ترشيح ثم فوز باراك أوباما بالرئاسة أعادت إظهار جوانب الصورة بشكلٍ أكثر وضوحًا. وبما أن من وظيفة هذا البحث رصد الوقائع والبناء عليها، فإننا سنطرح فيما يلي بعض الوقائع التي تتعلق بفرضيتنا السابقة والتي يجب الحديث فيها بشيءٍ من التفصيل لفهم الواقع.
في شهر مارس من العام الماضي 2010م، كانت مجموعةٌ من الأعضاء الديمقراطيين تحاول دخول قاعة الاجتماعات في مبنى الكونغرس الأمريكي للنقاش في خطة إصلاح نظام الضمان الصحي. وفجأةً أحاطت بهم جموعٌ من اليمينيين الغاضبين تحمل شعارات بأنهم شيوعيون وقتلة أطفال ويريدون اختطاف أمريكا. ثم تطور الأمر إلى إطلاق كلمات نابية عنصرية وإلى البصق عليهم. وبعد أن وقّع الرئيس الأمريكي باراك أوباما قانون إصلاح نظام الضمان الصحي، تلقّى أكثر من عشرة أعضاء ديمقراطيين في الكونغرس تهديدات بالقتل وتعرضت منازل بعضهم لمحاولات تخريب.
لم تأتِ هذه الأحداث وليدة الصدفة أو التطورات العادية لتلك الأيام، وإنما جاءت مع حملة تصعيدٍ غير مسبوقة سياسيًا وإعلاميًا وتنظيميًا يقوم بها اليمين المتطرف في أمريكا منذ انتخاب باراك أوباما رئيسًا منذ أكثر من سنتين. وهي حملةٌ يبدو للمراقبين أنها مستعدةٌ لتجاوز جميع الحدود والمحرمات، إن لم تكن قد تجاوزتها فعلًا.
تبدو تلك الحملة وكأنها أوركسترا منظمة يتمّ فيها توزيع الأدوار وصياغة الخطاب بشكلٍ محترف. ففي موقع القيادة، تتربع قناة فوكس الإخبارية اليمينية التي يملكها الملياردير روبرت مردوخ، وهي توظّف جميع برامجها للتحريض على الديمقراطيين بشكلٍ عام، وعلى الرئيس أوباما على وجه الخصوص. حيث يُصرُّ مقدموا البرامج ليلًا ونهارًا على أن أوباما يقود حملةً لتحويل أمريكا إلى دولة اشتراكية، وعلى أن هناك مؤامرة كبرى لإقامة دولة دكتاتورية في البلاد. فيجري تشبيه أوباما بهتلر مرةً، وستالين مرة أخرى، وبالخميني مرةً ثالثة! كما أنه كثيرًا مايوضع، بالتحليلات وبالصور، في نفس خانة الرئيس الفنزويلي شافيز والرئيس الإيراني نجاد.. لهذا، يؤكد (إيريك بيرنز) الخبير الاستراتيجي في منظمة Media Matters التي تراقب الإعلام الأمريكي أن فوكس هي “آلة دعاية سياسية أيديولوجية وليست مؤسسة إعلامية”[19].
وفي الصف الثاني من جبهة الهجوم نجد مجموعةٌ من معلقي برامج الراديو المشهورين في الأوساط اليمينية، وهم يقومون ببث ألوانٍ من الكراهية والتشجيع على العنف والثورة، بشكلٍ غير مباشر غالبًا تجنبًا للمساءلة القانونية، وإن كانت الإشارات والإيحاءات والدلالات في غاية الإثارة والوضوح. ويمارس هؤلاء مع قناة فوكس كل مايمكن أن يتخيله المرء من عمليات الدعاية السوداء أو (البروباغاندا)، مع صياغة سياسة تخويفٍ إعلامية لم يسبق لها مثيل في تاريخ أمريكا. حيث يتم استخدام جميع مهارات الإعلام والاتصال البشري لانتقاء كلمات وشعارات ورموز وصور توحي بأن الاستسلام لسياسات أوباما سيهدم أمريكا التي يعرفها مواطنوها على رؤوسهم. وبأنها ستقود إلى الإفلاس الاقتصادي، والضعف على المستوى الدولي، وإلى دكتاتورية هي أقرب إلى النظام الشيوعي على الصعيد السياسي.
أما في ساحة الانترنت، فيجري بناء مئات وآلاف الصفحات الالكترونية التي تهاجم أوباما بشراسة غير مسبوقة. وبما أن تلك الساحة غير مضبوطة ولا يمكن التحكّم بها، فإنك تجد فيها تعبيراتٍ أكثر صراحة ووضوحًا بالكلمة والصوت والصورة عن حجم الكراهية والحقد على الرجل وسياساته في كل مجال وعلى كل مستوى.
ونتيجةَ حملة التحريض المنسَّقة تلك، نشأت عشرات المنظمات والجماعات التي تناهض أوباما وسياساته بأسماء مختلفة. والمعروف في أمريكا أن إنشاء تلك المنظمات، ولو كان كلٌ منها يتألف من شخصٍ أو اثنين، هو من أساليب الضغط السياسي والإعلامي. لكن من الواضح أن خطاب التحريض بدأ يضغط بشدة على الملايين من ذوي التوجه اليميني المتطرف ومن أتباع الفرق والكنائس الإنجيلية، وهم مستعدون أصلًا للتجاوب مع مثل هذا الخطاب. لهذا، قامت هذه الجماعات خلال الأشهر والأسابيع الماضية وتقوم الآن بتصرفات استفزازية بكل طريقة ممكنة في نشاطاتها ومظاهراتها وخطابها.
تتمحور أغلب تلك النشاطات حول مناهضة خطة إصلاح النظام الصحي وغيرها من سياسات الرئيس الأمريكي الداخلية، سواء منها التي أفلح في تمريرها أو يحاول القيام بها. وبما أن تأمين درجةٍ من الضمان الصحي لعشرات الملايين من المهمّشين أو الطلبة أو الفقراء أو أفراد الأقليات قد يخفف من سيطرة المنظومة الرأسمالية الضخمة على هذه الشرائح، ويجعلها أكثر اهتمامًا بتقرير مصيرها من خلال المشاركة السياسية، وأكثر قدرةً على الخروج من دوائر الجهل والضياع الاجتماعي، فإن أساطين المنظومة الرأسمالية ينفقون مليارات الدولارات على التنظيم والحشد وعمليات اللوبي والدعاية الإعلامية لمحاربة الخطة.
رغم هذا، يبدو واضحًا أن اليمينيين، ومن خلفهم الجمهوريين، يبدون في حالةٍ من الهلع لاسابق لها بخصوص مايمكن أن يحققه أوباما من إصلاحات داخل أمريكا، لهذا، يبدو السياسيون الجمهوريون في مأزق إلى درجة أنهم يتصرفون تصرفات رعناء. فمنذ أشهر، اصطدم طيار انتحاري بطائرته الصغيرة بمبنى الضرائب الفيدرالية في مدينة أوستن بولاية تكساس المحافظة. وبدلًا من إدانة العمل، صرح (ستيف كينغ) عضو الكونغرس الجمهوري أنه يتعاطف مع الطيار ويتفهم دوافعه..
يجب التذكير مرةً أخرى أن المشهد الأوروبي لايتضمن أي مشابهة من قريبٍ أو بعيد في مجال أزمته الذاتية حول موضوع الهوية مع الوقائع المذكورة أعلاه وغيرها كثير في المشهد الأميركي، وهذا عنصرٌ يجب الانتباه إليه وأخذه بعين الاعتبار مرارًا وتكرارًا عند البحث في موضوع العلاقة مع الغرب.
ومع كل التطورات السابقة، لاتبدو نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة (هاريس) في شهر مارس الماضي أيضًا حول آراء الجمهوريين غريبة، مع أنها مخيفة كما يجمع المراقبون في أمريكا. فقد عبّر 67% منهم عن اعتقادهم بأن أوباما اشتراكي، ويؤمن 57% منهم أنه مسلم، ويعتقد 45% أنه لم يولد في أمريكا أًصلًا بمعنى أنه رئيسٌ غير شرعي، ويرى 38% أن أوباما “يفعل كثيرًا من الأشياء التي فعلها هتلر”، أما 24% من الجمهوريين فيؤمنون أنه المسيح الدجال؟..
الملفت هنا خلال نفس الشهر الذي تصاعدت فيه حدة الهجوم على خطة إصلاح الضمان الصحي، هو تصريح المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس (سارة بالين) التي قالت: “لايمكن إلقاء اللوم عليّ، فقط لأنني قلت بأن الوقت حان للتصويب على مؤيدي خطة الإصلاح الإرهابيين، إذا قام بعض الوطنيين الأمريكان بممارسة حقهم في تفجير رؤوس هؤلاء الذين يؤيدون المُشّرعين النازيين المسلمين الشيوعيين الذين يريدون حشر خطة الإصلاح في حلوقنا”.
حيث تظهر بشكلٍ واضح جدًا محاولة إدخال المسلمين في عملية التخويف التي تقوم بها القوى المذكورة في إطار صراعها المرير على هوية المنظومة الأميركية، حتى لو افتقدت العملية المذكورة إلى حدٍ أدنى من المنطق يتمثل هنا في الجمع بين صفات النازية والشيوعية والإسلام لدمغ المشرّعين الديمقراطيين بها.
وتأتي في إطار مظاهر التحدي في هذا المجال وقائع لا يخفى إطلاقًا بُعدها الثقافي بمعناه الشامل مثل محاول قس أميركي حرق القرآن منذ شهور، والقضية المتعلقة ببناء مركز إسلامي ومسجد قرب موقع انهيار برجي مركز التجارة العالمي.
ولا تخفى هنا دلالات عقلية محاربة الآخر، المسلم في هذه الحالة، من خلال رفض رموزه ومحاولة إلغائها. فالمألوف في الممارسة البشرية لعملية الحرق أنه يمثل محاولةً قصوى لإزالة شيءٍ ما من هذا الوجود البشري بالكامل، لكن تلك المحاولة وما نتج عنها أثبتت على العكس من ذلك حضور القرآن المحلي والعالمي بطريقة غي مسبوقة من خلال المواقف المحلية والعالمية. أما قضية المركز الإسلامي فيمكن النظر إلى ملابساتها العديدة على أنها كانت نموذجًا مثاليًا يُظهر بأن الإسلام والمسلمين يصبحون جزءًا لايتجزأ من عملية بحث أميركا عن هويتها المستقبلية. فرغم الهجوم المتصاعد لليمين الأميركي على مشروع مركز قرطبة الإسلامي في مدينة نيويورك، كان واضحًا أن إدارة أوباما، ومعها شرائح الليبراليين من المثقفين والإعلاميين والنشطاء والأكاديميين يريدون خلق أجواء سياسية وإعلامية وقانونية داخل أميركا نفسها تساعد المسلمين والعرب على أن يُصبحوا تدريجيًا جزءًا من المنظومة الاجتماعية والثقافية للمجتمع الأميركي، أي جزءًا مما يُسمى بالتيار العام Mainstream بدل أن يكونوا على الهامش كما كان الحال حتى الآن.
فقد أصرّ الرئيس الأميركي أكثر من مرة على تأييده للمشروع[20]، وجعل مدخلَ هذا التأييد مبدأ المساواة بين جميع الأقليات في أميركا. ثم إن ثلةً من الإعلاميين الليبراليين البارزين أعلنوا مواقف تُظهر القناعة بضرورة أن تُصبح الجالية المسلمة والعربية جزءًا أصيلًا من المجتمع الأميركي مرةً واحدة وإلى الأبد كما يقول المثل الأميركي. والأمثلة في هذا أصعب من أن يتم تعدادها في هذا المقام، إلى درجة أن صحيفة عربية اعتبرت أن الموضوع أصبح جزءًا من العملية الانتخابية المتعلقة بالكونغرس في أميركا[21]، كما هو الحال مع وكالة رويترز للأنباء[22].
وللتوضيح مرة أخرى، فإن ردّ الفعل المذكور والمؤيد لبناء المركز قد يكون صادرًا من رؤيةٍ مبدئية للقضية، على الأقل بالنسبة لبعض من اتخذوا ذلك الموقف الإيجابي. فهذا أمرٌ من الجحود إنكاره. لكن من المؤكد أن الموضوع بأسره جاء في سياق صراعٍ على الهوية الثقافية والاجتماعية لأميركا لايزال محتدمًا هذه الأيام. ويأتي الفوز الكبير لشريحةٍ ضخمة من النواب المحافظين في الانتخابات النصفية الأخيرة للكونغرس الأميركي نهاية العام 2010م مظهرًا سياسيًا لذلك الصراع.
لا نغفل هنا أيضًا عن طبيعة المنظومة البيروقراطية العسكرية والأمنية خصوصًا، والتي من مصلحتها استمرار عمليات التخويف للشعب الأميركي، وذلك في كثيرٍ من الأحيان للحفاظ على ميزانياتها الضخمة ومصالحها المتشابكة مع مراكز القوى الاقتصادية والأيديولوجية داخل المجتمع. ومن هنا تظهر قضايا تمثل في حقيقتها قمّة السّخف والمهزلة، كما حصل مع اعتقال المنشد السوري أبو راتب مع مطلع عام 2010م، وذلك بشبهة التعامل المالي مع منظمة إرهابية. في حين اتضح أن الأمر يتعلق بأجر تقاضاه عن مشاركته منذ سنوات في حفل لمنظمة إغاثية وضعتها السلطات الأميركية في خانة المنظمات الإرهابية.
من المؤكد أن حجم التحديات الذي واجهته وتواجهه الجالية المسلمة والعربية في أميركا كبيرٌ جدًا وأن أشكاله متنوعة ووقائعه كثيرة، وأن الخلفية الثقافية تبدو هنا أيضًا بشكلٍ صارخ أكثر مما كان عليه الحال سابقًا. لكننا نكتفي بالأمثلة المذكورة أعلاه على تلك الوقائع لأن الهدف الرئيس هو إظهار أن هذه التحديات، إلى درجة كبيرة، يأتي في سياق واقعٍ محليٍ أميركي مغاير للواقع الأوروبي. وهو واقعٌ مفعمٌ بتحديات ذاتية ثقافية تتعلق كما ذكرنا سابقًا بقضايا الدين والعرق والمرجعية الثقافية، وهي التي تشكل عناصر رئيسة في مسألة تحديد هوية أميركا خلال المرحلة القادمة، وهي مسألة ثقافية بامتياز.
وختامًا، تجدر الإشارة إلى أن التحديات الثقافية المتعلقة بالهوية والدين والمرجعية لا تتعلق بالمجتمعين الأوروبي أو الأميركي وحدهما. فهي من جهة إفرازٌ لعناصر ذاتية تاريخية وسياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية في تلك المجتمعات، لكن جزءًا كبيرًا منها يُعتبر أيضًا استجابة لتحديات ثقافية تتعلق أيضًا بالهوية والدين والمرجعية التي تعاني منها الجالية المسلمة في الغرب. ولئن كان التركيز في الصفحات السابقة على الجانب الأول من الصورة، فإننا سنشير بتفصيلٍ أكثر إلى أنماط التحدي الذاتي التي تواجه تلك الجالية في سياق حديثنا لاحقًا عن أنماط الاستجابة داخلها، وذلك بحثًا من درجة من التكامل والانسجام في التحليل تساعد على فهم الظاهرة قدر الإمكان.

2. تحدي فهم الآخر: الغرب في هذه الحالة

لايزال التحدي السائد في أوساط الأمة، عندما يتعلق الأمر بفهم الغرب بشكلٍ موضوعيٍ وشامل ودقيق، واحدًا من التحديات الكبرى التي تعيق الوصول إلى إيجاد إطارٍ متوازنٍ لتلك العلاقة. ذلك أن قاعدة (الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره) لا تسري في دائرة علوم الشريعة وأصول الفقه فقط، وإنما يمكن القول أنها تشكل ركيزةً منهجية للتعامل مع الظواهر في كل مجالات الحياة. والتحدي المذكور يبرز في أكثر من اتجاه عند الحديث عن “الثقافي” بجميع مكوناته في هذا الجانب الحساس من جوانب حياة الأمة وواقعها.
ورغم تكرار استعمالنا في هذه الورقة لمصطلح (التحدي)، فإن من الضرورة بمكان التوضيح بأن مقاربة الكثيرين للعلاقة مع الغرب اصطلاحيًا من مدخل (التحدي) نفسه، مع كل مايحمله من دلالات يطرح أسئلة تحتاج إلى تفكير وإجابة[23]. إذ أن ثمة فارقًا هامًا ومنهجيًا بين استعماله كمفهوم مفتاحي يتحكم بمفاصله منذ اللحظة الأولى معنى الصراع مع الآخر بجميع أنواعه، وكأداة وحيدة لتفسير جوانب وملابسات ذلك الصراع، وبين استخدامه كمفهوم يعمل على تفكيك وتحليل البنية الثقافية التي تُسبب إشكالياتٍ في العلاقة مع الغرب، ويحمل في طياته فوق ذلك إشارات إلى معطيات سنة التدافع البشري والمداولة الحضارية، وهذا هو الاستخدام الذي نعتمده في هذه الدراسة.
ومن هذا المنطلق تحديدًا، يمكن الحديث في مستويين من مستويات تحدي فهم الغرب على الشكل التالي:

أ‌. عدم القدرة على فهم طبيعة المنظومة الثقافية العامة
يتجلى هذا التحدي خصوصًا عند محاولة كثير من أبناء الأمة فهم الظواهر السلبية التي تنشأ في الغرب، وعدم القدرة على وضعها في سياقها الثقافي والحضاري العام. وعودة إلى منهجنا في محاولة رصد الوقائع العملية ذات الدلالات الثقافية، والمضي في عملية التحليل انطلاقًا منها. يمكن النظر على سبيل المثال فقط، وأيضًا لصعوبة الإحاطة الشاملة، إلى قضيتين احتلتا في السنوات القليلة الماضية حيزًا كبيرًا من فضاء الاهتمام الإعلامي، تتمثل أولاهما في قضية الرسوم الكرتونية الدانماركية، وتتمثل الثانية في الفيلم الذي أنتجه سياسي هولندي.
فقد أثارت الأزمة مع الدانمارك مجموعة من القضايا الحساسة والمؤثرة في حاضر الأمة ومستقبلها، منها ماله طبيعة ثقافية واضحة مثل طبيعة التدين ودَوره في المنطقة، إلى دَور وسائل الاتصال الحديثة في مجتمعاتها. لكن البحث في هذه القضايا يجب أن يكون شموليًا ومن وجهة نظرٍ منهجية، بعيدًا عن ضغط اللحظة الراهنة وعقلية (الحشد) النفسي والعاطفي التي تعوَّدنا أن تقودَ الواقع في مثل تلك الأحداث.
لقد كانت الإساءة المذكورة ولاتزال مرفوضةٌ بشكلٍ قاطع. وهي تُعتبرُ قبل أي شيئ شاهدًا من شواهد الأزمة الحضارية في الغرب، حين اختلطت المقاييس والموازين في بعض جوانب منظومته الثقافية. بحيث لم يعد ممكنًا معرفة الحدود بين حرية التعبير والمسؤولية، وبين الفن والإسفاف، وبين حق الفرد وحق الجماعة. إلى غير ذلك من الجوانب التي تعبر عن الأزمة الحضارية الذاتية التي يعاني منها داخليًا.
لكن مالايدركه الكثيرون هو أن الأزمة الحضارية المذكورة ألقت وتلقي بظلالها على كثير من مجالات الحياة في الغرب. فهي التي أدّت مثلًا إلى سقوط كل مايُعتبر في نظر الكثيرين مقدّسات أو محرّمات. والإعلام الغربي الذي انتبه العربُ والمسلمون فجأةً إلى قيامه بالسخرية من نبي الإسلام، هو الإعلام نفسُهُ الذي تجد فيه دائمًا، ومنذ عقود، سخريةً من نبي المسيحية وكل نبيٍ آخر. وهو الإعلام الذي يوجدُ فيه على الدوام من لا يعرف حدودًا للهزء والسخرية من جميع الأديان والمذاهب والنظريات والأفكار والشعوب والأشخاص أيًا ماكانت وكانوا.
بل إن الواقع الثقافي والأكاديمي والفني في الغرب هو ذلك الواقع الذي طرح فيه البعض فكرة (موت الإله). وكتبوا عنها كتبًا طُبعت وتُطبع في المطابع. وبنوا عليها نظريات اجتماعية دُرِّست وتُدرّسُ في المعاهد والجامعات والمدارس. وهو طبعًا الواقع الذي بات (الإلحاد) و (الملحدون) جزءًا أساسيًا لايتجزأ منه.
من هنا، فإن إدراك هذه الحقائق، بغضّ النظر عن رفضها أو قبولها، يجعلنا ندرك على الأقل أن مثل هذه الظاهرة لم تحدث كمؤامرة تم التخطيط لها والإجماع عليها داخل المجتمع الدانماركي بأسره، بحيث يؤدي الأمر إلى ردة فعل حادّة وشاملة على ذلك المجتمع بأسره.
لقد ذكرنا أن هناك أزمة داخلية في المجتمع الغربي، لكن ثمة فارقًا حساسًا يجب تمييزه فيما يتعلق بمفرزات تلك الأزمة. فإصدار قانون منع النقاب أو قانون منع المآذن لا يوضع على نفس السوية مع قيام صحيفة بإيراد رسومات مسيئة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. لأن الممارسة الأولى تأتي قانونيًا عكس السياق الثقافي المعلن في أوروبا في مجالها، في حين أن الممارسة الفردية الثانية لاتخرج عن السياق الثقافي الأوروبي في مجالها، وكما أوضحنا أعلاه.
وعلى مستوى آخر، في حين أظهرت القضية عُمق الانتماء الديني في أوساط الأمة. وهو انتماءٌ لا يمكن لأحد أن ينكره. هناك إغفالٌ لجانب آخر من جوانب طبيعة التدين أظهرَتهُ الأحداث ويستحق الانتباه والدراسة والمناقشة بصراحةٍ ووضوح.
يتعلق هذا الجانب بطريقة تعبير الشارع عن تديّنه. فهذا الشارع الذي استنفر للمشاركة في حملة المقاطعة بسبب الإساءة إلى (صورة) النبي، هو نفسُهُ الشارع الذي استمرأَ، في واقعه وحتى النخاع، كثيرًا من الممارسات التي تشكّل مخالفةً صريحة لجوهر تعاليم النبي وتعاليم الرسالة الحضارية الكبرى التي جاء بها. ويظهر هذا (الاستمراء) الذي نتحدث عنه بأشكال لاحصر لها. من القيام بممارسة تلك المخالفات، مرورًا بالسكوت عنها، وصولًا إلى درجة عدم الإحساس بها من قريب أو بعيد. رغم أن تلك التعاليم تمثل حقيقة (الرسالة) التي أُرسِلَ بها ولأجلها النبي. ولولا ذلك، لكان حضوره عليه الصلاة والسلام مطلوبًا إلى يوم الدين، بصورته الحسيّة الملموسة، ولكان ذلك الحضور هو الضمانة لبقاء الرسالة.
أما المثال الآخر المتعلق بفيلم (فتنة)، الذي يهدف للإساءة إلى الإسلام فعلًا وعن سابق تصميمٍ وإصرار، فإنه يُظهر دلالات أخرى حول آليات معرفة الواقع وفهمه والتحقق من تفاصيله عندما يتعلق الأمر بالغرب. فالأغلب أن الأفكار التالية خطرت في بال الغالبية العظمى من المسلمين عند ظهور القصة: أن الفيلم هو فيلمٌ حقيقي، وأنّ من عَملَ على إنتاجه هو من أهل الفن السابع، وأن الفيلم عُرض في التلفزيونات أو دور السينما الهولندية، وأن هولندا الشعب والحكومة دعمت الفيلم ماديًا أو معنويًا أو احتفت به بشكلٍ من الأشكال. وهو مايفسر الاحتجاج الشعبي والرسمي الصاخب في العالم الإسلامي على ذلك الفيلم.
والحقيقةُ أن كل هذا ليس صحيحًا على الإطلاق!..
فالفيلم الذي حاز على تلك الضجة هو مجردُ مَشاهد قديمة ومُجتزأة، بعضها لقصاصات جرائد، جُمعت بطريقةٍ فجّة لا علاقة لها بعالم الأفلام ولا بأهلها، لدرجة أن صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية الكبرى أوردت مقالًا وصفت فيه الفيلم بأنه جَلفٌ وغير مثقف، وبأنه مملّ إلى درجة أنه لم يحقق شيئًا سوى أنه أعطى مفهومَ حرية التعبير اسمًا سيئًا[24]. والذي قام بعملية القصّ واللصق هو نائبٌ يمينيٌ متطرف في البرلمان الهولندي. والمكان الوحيد الذي عُرض عليه الفيلم العتيد كان موقع النائب على شبكة الانترنت. أما الفيلم نفسه فلم ينل أي دعمٍ معنوي ومادي من هولندا حكومةً وشعبًا.
لكن من شبه المؤكد أن الغالبية العظمى ممن تظاهروا واحتجّوا، وصرخوا وهتفوا، وطالبوا بمقاطعة هولندا في العالمين العربي والإسلامي لايعرفون شيئًا عن الحقائق المذكورة. وأنهم لم يسمعوا عن الموضوع بأسره إلا عبر عنوانٍ يتيم جرى اختزال القضية من خلاله في ستّ كلمات انتشرت كالحريق من مشرق العالم الإسلامي إلى مغرب العالم العربي: (عرضُ فيلم يسيء للرسول في هولندا)، وهو اختزالٌ يخنق ثقافة المسلمين اليوم ويحاصرها من كل جانب.
لهذا، لم يكن غريبا أن يحصل ماحصل. ولم يعد غريبًا أن يتكرر هذا السيناريو المشؤوم الذي يبدو أنه أصبح فتنةً في طُرُق التفكير والتعامل مع العالم هي في حقيقتها أكبرُ بكثير من الفتنة المصطنعة التي تحدث عنها فيلم النائب اليميني المتطرف.
الأكثر إثارة للدهشة هو غياب ثقافة المتابعة والتحقق والتحري والمتابعة، بكل مقتضياتها، في ثقافة الأمة. ليس فقط في أوساط عامة الناس، وإنما أيضًا في أوساط الإعلاميين والمثقفين ممن يُفترض بهم أن يكونوا راسخين في تلك الثقافة أكثر من غيرهم بحكم دورهم وخلفيتهم. ولو صبر العرب والمسلمون قليلًا. ولو أنهم استخدموا منهجية القرآن التي تقول {ولايجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقربُ للتقوى}[25]. لعرفوا أن رئيس الوزراء الهولندي أصدر بنفسه وقتها بيانًا بأكثر من لغة يأسف فيه لعرض الفيلم قائلًا: “نعتقد أن الفيلم لايخدم أي هدف، سوى أنه يسبب إساءة” إلى حدّ دراسة منع الفيلم كما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية[26]، مع أن هذا يتناقض مع حرية التعبير في هولندا.. ولعرفوا أن عدة محطات تلفزيونية هولندية رفضت عرض الفيلم. وأن رئاسة الاتحاد الأوروبي أدانت عرض الفيلم واعتبرته عملًا يشجع على الكراهية. ولو أنهم حاولوا يومها الوصول إلى الموقع الرسمي للفيلم لوجدوا أن الشركة المسؤولة أوقفت عرضهُ مع توضيح بأنها تلقت احتجاجات عليه وأنها تدرس درجة توافقه مع شروط النشر.. ولم يعرفوا أخيرًا أن السياسي الهولندي منتج الفيلم مُنع من دخول بريطانيا وفقا لقوانين الاتحاد الأوروبي والتي تمكن دول الاتحاد من حرمان أي شخص قد يهدد حضوره السلم والأمن العام[27].
أكثر من هذا، سمع العرب والمسلمون بسهولة وسرعة عن فيلم فتنة وعن النائب المتطرف غيرت فيلدرز وأصابهم هذا بالغضب ودفعهم للاحتجاج. لكنهم لم يسمعوا يومها ولا قبل ذلك باسم إيللا فوغيلار ولم يعرفوا ما هو منصبها ولم يتابعوا آراءها. لم يسمعوا بأنها وزيرة الإسكان والاندماج في هولندا، ولم يعرفوا حقيقة دعمها الدائم والمُعلن لتقبّل الجالية والثقافة الإسلامية في إطار المجتمع الهولندي، وتأكيدها المتكرر بأن الثقافة الإسلامية يمكن أن تصبح جزءًا من الثقافة الهولندية.. ولهذا، لم تُضفِ تلك الحقائق لديهم شعورًا بالرضى والراحة، ولم تدفعهم للتصريح بمشاعر العرفان التي تنسجم، في أقل الدرجات، مع قول القرآن الكريم {وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}[28].. ولم يدركوا قبل هذا وبعده أن النائب المتطرف يبدو من تصريحاته بشأنها وكأنه يكرهها مثلما يكره المسلمين إن لم يكن أكثر، ويؤكد بأن آراءها في الموضوع تمثل أخطر مايمكن أن يقوله سياسي هولندي. ويطالبها في تصريحاته المعلنة بتغيير كل مايتعلق بسياسات الاندماج التي تضعها هي للدولة الهولندية، ولا يضعها غيرت فيلدرز.
وهذه كلها حقائقُ كبرى لايجوز القفز فوقها عند ممارسة عمليات الحكم على أفعال آحاد الناس والمجموعات. وهي حقائقُ ينبغي أن تُوقفَ مسألة تعميم الأحكام على المجتمعات والدول بهذا الشكل الفوضوي الذي نراه.
إن كل الأفكار المطروحة أعلاه تمثل تحديًا يتعلق بثقافة الأمة في موضوع التعامل مع الغرب ويظهر جانبًا من إشكالياتها. لكن هناك جانبًا آخر يتمثل في الغفلة عن التصور القرآني الأصيل فيما يتعلق بمثل هذه المواضيع، وكيف تعاملَ معها النص القرآني بشكلٍ فريد ينبغي استحضاره من جديد ليعود مكونًا أصيلًا من مكونات تلك الثقافة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتعامل الشعوري والعملي حتى مع (الآخر) المُسيء باللفظ والصورة والكلمة. يمكن في هذا الإطار الإشارة إلى آيات عديدة مثل: {وقالوا يا أيها الذي أُنزل إليه الذكر إنك لمجنون}[29]، {وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذاب}[30]، {ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون}[31]، {قال الكافرون إن هذا لساحرٌ مبين}[32]، ومثلها كثير.
مجنون، ساحر، كذاب، مسكونٌ بالجنّ.. هذه إذًا بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، وكان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يطوي التاريخ هذه الأوصاف ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات. خاصةً وأن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى. ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.
مع هذا. لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ماتحمله من تحدٍ وهجوم. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب. لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعنًا جوهريًا في شخص الرسول الكريم، ولا مَسًا حقيقيًا بكرامته وسمعته.
لم يحصل ذلك كله وإنما حصل العكس. خطَّ القرآن في موقفه من المسألة درسًا في الممارسة الحضارية كان لابدّ أن يُسجّلَ في تاريخ الإنسانية. وذلك حين ضَمِنَ لتلك الاتهامات الحفظَ إلى يوم القيامة من خلال خلوده. وتَركَ المجال مفتوحًا لقراءتها واستعراضها ومعرفة خلفياتها وأبعادها ودلالاتها. بل تجاوز القرآن كل ماسبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل مافيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئًا عن اللغة العربية، مسلمًا كان أو غير مسلم.
لم يحدث هذا عبثًا.. ولم تأتِ هذه المعالجة للموضوع خطأً أو سهوًا!
كان القرآن فيما نحسب يريد أن يضبط التصورات والمفاهيم في قضيةٍ حساسة وخطيرة تؤثر على الوجود البشري في هذه الأرض على الدوام. كان ولايزال يهدف إلى تحرير الإنسان من تقديس الإنسان. حتى لو كان الأمرُ يتعلق بصاحب الرسالة الأخيرة. وبالرجل الذي تعتبرهُ الرسالةُ نفسها خيرَ بني البشر. الرجل الذي يؤكدُ القرآنُ أن الله وملائكته يُصلّون عليه، وهي منزلةٌ ليس كمثلها منزلة في مقاييس الرسالة.
كان القرآن ولايزال يهدف عندما عالج الموضوع بتلك الطريقة إلى ضبط التوازنات في العلاقة بين الإنسان والفكرة. وإلى التأكيد بأن الهدف النهائي والأكبر يتمثل في ربط الناس بفكرةٍ ترمي لتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال في حياة البشرية على هذه الأرض. من هنا، لم يرَ القرآنُ أن مكمن الخطر على الفكرة يتمثل في تحدّي حاملها، ولا في الإساءة إلى شخصه، ولا في التهجم عليه، ولا في توجيه الاتهامات عليه.. حتى ولو كان يرى في مثل تلك التصرفات درجةً من الافتراء.
لكن المشكلة تظهر في ثقافة الأمة حين يصرُّ البعض على أن التعامل مع القضية بالمقلوب.
قد ترضى قلةٌ قليلةٌ فقط من المسلمين القول بأنها (تُقدّس) شخص الرسول، لكن لسانَ الحال أبلغُ من لسان المقال كما قالت العرب قديمًا. فالملايين من (المسلمين) التي تهجر الإسلام في تجلياته الإنسانية، وتتجاهلُ دلالاته الحضارية الكبرى، وتُعرض عن الالتزام بتعاليمه الأصيلة، وتتجاوز مالايُحصى من مقتضياته الحساسة، هي نفسها الملايين التي تُشهر أمضى سيوف الغضب المعنوي والمادي حين يتعرض شخصُ من أتى بالفكرة للهجوم والاتهام.. والتناقضُ في المسألة واضحٌ بشكلٍ صارخ.
لا يدعو هذا الكلام بطبيعة الحال لفتح أبواب الإساءة لرسول الإسلام، ولا لغيره من الرسل والأنبياء، ولا لمخلوقٍ على هذه الأرض. وربطُ الأمور بهذه الطريقة مدخلٌ للتسطيح والانتقائية لايستحق النقاش. ولئن كان الكثيرون ينظرون إلى الموضوع على أنه ازدراءٌ بالإسلام أو على أنه هجومٌ على رسوله من قبل من قام بتلك الممارسات[33]، فإننا لانعترض على هذا التوصيف. كما أننا نقرّ بتخبّط النظام السياسي الغربي وأهله في التعامل مع المشكلة. لكننا نحاول أن ننظر إلى القضية بأسرها من مستوىً مغاير.
فالحقيقة أن قصة رسوم الكارتون الدانمركية والفيلم الهولندي باتا نموذجًا مثاليًا يُعبّر عن أزمةٍ إنسانية لا تختص بالإسلام ولا بالمسلمين، ولا بالعرب، ولابشعبٍ من الشعوب أو بديانةٍ من الديانات.
وتلك هي الأزمة التي كان القرآن يحرص على ألا تقع فيها البشرية.
فحين يخرقُ البشر التوازنات المطلوبة في العلاقة بين الإنسان والفكرة، يُصبح من السهل حشرُهم في نفق التعصب والكراهية والعدوان. ويُصبح التافهون والهامشيون قادرين على جرّ مئات الملايين إلى الكوارث. لافرق أن يتسبب هؤلاء في المأزق عن غباءٍ وجهل أو عن سوء نيةٍ وطويّة. فالنتيجة في النهاية واحدة. وهذا يجعلنا نستحضر حديث الدكتورة منى أبو الفضل عن ” القلق التاريخي الذي يمكن أن نتفهمه عند ذكر الهوية الإسلامية في أوربا، وهذا يفرض تحديًا معينًا على مثقفي الأمة ومثقفي أوربا اليوم والذي يشكل مساحةً مشتركة للالتقاء… وإن لم ننتبه إلى الفرصة الرائعة المتاحة أمام المثقف في الفترة الراهنة، سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، أوربيًا أو عربيًا، للتعامل على مستوى مسؤول لمحاولة تأطير وفتح مجالات جديدة للتفكير في هذه القضايا، وإن لم نفعل ذلك نصبح أمام لحظة خيانة أمانة..”[34].
من أجل هذا، يبقى مطلوبًا أن يُبنى ما يمكن أن نسميه نمط الاستجابة لـ (الإساءات) وفق منظور حضاري واستراتيجي، يضع الحدث الراهن في إطارٍ من الفهم الأشمل للواقع العالمي. وهو ما يساعد بعد ذلك على التعامل معه بفعالية حقيقية. فالإنسان العربي والمسلم الذي يستصعبُ أداء الأدوار الحضارية التي تعيد إليه كرامته وكرامة ثقافته وحضارته يمكن أن يلجأ إلى (الاستسهال) لإشعار نفسه بالرضا والطمأنينة.. وإذا كانت مقاطعةُ الزبدة والحليب من الدانمارك وهولندا، واللجوءُ إلى ألف نوعٍ آخر من الزبدة والحليب تملأ رفوف المتاجر العربية، بطولةً في نظر المجتمع، فإن هذا يحتاج إلى وقفةٍ كبرى للمراجعة والتأمل..
إننا لاننكر أن القضية التي نتحدث عنها أظهرت مرةً أخرى درجة الانتماء الموجود في أعماق الإنسان العادي العربي والمسلم لهويته وثقافته وحضارته. وهو انتماءٌ يحمل كمونًا إيجابيًا هائلًا لو أمكن استثماره على الوجه الأمثل. لكننا نرى أن ماجرى سيقودنا إلى تحديات أخرى أكبر. وأن تلك التحديات (هي) التي قد تُظهر مدى (بطولة) أفراد المجتمع العربي والإسلامي، فيما إذا اضطروا إلى الاعتماد الكامل على أنفسهم. ليس فقط من خلال صناعة زبدتهم وحليبهم، وإنما بتدبير شؤون حياتهم دون آلاف الحاجات الاستهلاكية التي لاتزال مجتمعاتهم (تعيش) على (استيرادها) من الغرب على وجه الخصوص، مع كل مغرب شمس ومطلع نهار.

ب‌. التركيز على الأحداث السلبية دون الإيجابية
ثمة ظاهرة ثقافية يمكن أن نعتبرها وجهًا آخر للتحدي الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة. وتساهم بشكلٍ كبير في فهم الواقع الغربي فهمًا مشوشًا وبعيدًا عن الدقة. وهي دقةٌ لايأتي البحث عنها من باب الترف الفكري، لأنها حساسةٌ في إفراز منطلقات صحيحة تساعد على رسم علاقة موضوعية مع الغرب.
واستمرارًا لعملية رصد الوقائع واستقراء دلالاتها، فسنتابع هذه الممارسة بالنسبة لهذا الموضوع، لكننا سنحاول تقديمه هذه المرة بطريقة خاصة.
لنا أن نتخيل مثلًا ماسيحدث لو أن مجلةً أمريكية كبرى صدرت وعلى غلافها الموضوع الرئيس للعدد يتحدث عن فشل الإسلام والمسلمين في أوروبا. أو لو أن كبير أساقفة الكنيسة البريطانية هاجم الشريعة الإسلامية ودعا إلى عدم تطبيقها في أي مكانٍ من العالم. أو لو أن باحثًا مشهورًا في الشؤون الاستراتيجية والأمنية نشر دراسةً تؤكد بأن العالمَ سيكون أفضل مما هو عليه اليوم لو لم يكن الإسلام موجودًا في تاريخ البشرية أصلًا.
ليس من الصعب توقّعُ ردّة فعل المسلمين، أو شرائحَ واسعة منهم على الأقل، لو أن أيًا من الأحداث السابقة جرت فعليًا في الواقع المعاصر. فالتجارب القريبة الماضية تؤكد أن العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه يهتزّ غضبًا بسبب هذا النوع من (الأخبار السيئة). وتبدو النتيجةُ نفسها سواء تعلّقَ الأمر بتصريحاتٍ لبابا الكنيسة الكاثوليكية أو برسومٍ كرتونية نُشرت في جريدةٍ أوربية هامشيةٍ أو بخبرٍ سيئٍ آخر يقع مابين هذين الخبرين. فالقضية في النهاية قضيةُ ثقافةٍ سائدة في العالم الإسلامي بشكلٍ عام، وفي العالم العربي خصوصًا. وهي ثقافةٌ دفاعيةٌ تلبّست في أغلب الأحوال صورة (الضحية)، وأصبحت ترى ذاتها وترى العالم، وتتعامل مع ذاتها ومع العالم، من خلال تلك الصورة. من هنا، باتَ من النادر أن تجد محركًا للفعل البشري في هذه الثقافة يستطيع كسر ذلك التلبّس، والخروج من حصاره الخانق. بل ربما نلمح أحيانًا أننا بإزاء روحٍ قلقةٍ مسكونةٍ بهاجس البحث في أحداث العالم الواسع عن كل مايؤكد الشعور بأنها ضحية، لأن تلك الروح تحتاج إلى مثل هذه المؤشرات التي يُمكن لها، ولها وحدها، أن تؤكد إحساسها بالهوية والانتماء..
لانريد ممارسة التعميم الشامل في هذا المجال، ولكن تتابعَ الوقائع وتكرارها يُظهر وجود مشكلةٍ هي أعمق مما يعتقد الكثيرون، ويجب تسليط الضوء عليها بكل ما يمكن من الصراحة والوضوح. نعترف أن إثبات الظاهرة المذكورة علميًا يحتاج إلى دراساتٍ إحصائية، لكننا نطرح فرضيتنا هنا من مدخل الاستقراء الكثيف للظاهرة. وعبر متابعة مقصودة لوقائع مُعبّرة وذات علاقة بهذا الموضوع حصلت في نفس الفترة، وذلك خلال شهري يناير وفبراير من العام 2008م.
وما نريد قوله هنا أن الأحداث أو (الأخبار السيئة) المذكورة أعلاه لم تحدث قطّ، وإنما حدث في الواقع ماهو نقيضُها تمامًا. ففي آخر شهر يناير صدرت مجلة (التايم) الأمريكية الواسعة الانتشار وعلى غلافها صور رجال ونساء على درجةٍ من الأناقة، منها صورة امرأتين ترتديان الزي الإسلامي، مع عنوان موضوع الغلاف التالي (قصة نجاح المسلمين في أوروبا)[35]. وداخل العدد، يعرض التقرير مجموعةً من قصص نجاح المسلمين والمسلمات في تلك القارة، مع التأكيد على وجود شرائح واسعة من مسلمين يُبدعون في إيجاد أنماط للحياة والتميز والنجاح لايتضارب فيها الالتزامُ بتعاليم الدين مع حياتهم في الواقع الأوروبي.
وفي الأسبوع نفسه تقريبًا، صدرت تصريحات القسّ الدكتور روان ويليامز كبير أساقفة كانتربري (الكنيسة الإنجليكانية البريطانية) لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، والتي قال فيها أن على الناس التعامل بذهنٍ منفتح مع الشريعة الاسلامية[36]. حيث اعتبر الرجل أن تبنّي بعض أوجه الشريعة الإسلامية في بريطانيا “أمرٌ لا مفر منه”، مذكرًا بأن الآراء المسيحية المناهضة للإجهاض مثلًا “أَخَذها القانونُ في الاعتبار”. ولتوضيح رأيه قال ويليامز: “إن تطبيقًا جزئيًا لبعض قواعد الشريعة الإسلامية قد يساعد على بلوغ انسجامٍ اجتماعي”. وضرب مثلًا على ذلك بتمكين المسلمين من فضّ نزاعاتهم العائلية والمالية أمام محاكم شرعية. مؤكدًا بأنه: “لا ينبغي أن يُفرض على المسلمين الخيار الصعب بين الولاء الثقافي والولاء السياسي”. وموضحًا أخيرًا بأن هذا يحتاج لتفهمٍ عميقٍ لقوانين الشريعة الإسلامية، بعيدًا عن هيمنة بعض التقارير الإعلامية “المغرضة” التي قال أن الرأي العام لا يزال متأثرًا بها.
تعرض الرجل بعدها لهجومٍ من قبل شريحةٍ واسعةٍ من السياسيين والإعلاميين وبعض رجال الدين إلى حدّ دعوته للاستقالة. مع هذا، تمسّك ويليامز بتصريحاته وأكد بيان صدر عن مكتبه أنه لا يفكر في الاستقالة، وأن رؤيته جاءت بناءً على “دراسة معمقة” اشترك فيها خبراء قانونيون على درايةٍ عالية بنظم القضاء الإسلامي واليهودي.
وقبلها بأسبوع، نشر غراهام فوللر أستاذ التاريخ والمسؤول السابق في الاستخبارات الأمريكية دراسةً بعنوان (عالم بدون الإسلام) في مجلة (شؤون خارجية) المرموقة، خلُص فيها إلى أن الإسلام ليس مسؤولًا عن الاضطرابات الدولية الراهنة[37]. فبعد وضع سيناريو لا يوجد فيه الإسلام في الشرق الأوسط ومتابعة تطورات ذلك السيناريو يصل الكاتب إلى النتيجة التالية: “من دون الإسلام، لكان وجه الشرق الأوسط لايزال معقدًا ومتضاربًا. فالصراعات حول السلطة والأراضي والنفوذ والتجارة كانت موجودة قبل فترة طويلة من مجيء الإسلام… إنه شرق أوسط تسيطر عليه المسيحية الأرثوذكسية الشرقية وهي كنيسةٌ لطالما كانت تاريخيًا ونفسيًا مرتابةً من الغرب وحتى معاديةً له… وقد غزته الجيوش الإمبريالية الغربية مرارًا واغتصبت موارده، وأعاد الغرب رسم حدوده بالقوة لتراعي مصالحه المتعددة، وأرسيت أنظمة تطيع الأوامر الغربية. كانت فلسطين ستحترق رغم ذلك. ولبقيت إيران قوميةً بشدة. ولكنا رأينا الفلسطينيين يقاومون اليهود، والشيشانيين يقاومون الروس، والإيرانيين يقاومون البريطانيين والأمريكيين”. مؤكدًا بالمقابل أن الإسلام “أدى إلى نشوء حضارةٍ واسعة تتشارك [مع غيرها] الكثير من المبادئ الفلسفية والفنية والاجتماعية، ونظرةً أخلاقية، وحسّ العدالة والشريعة والحكم السليم، وكلها في ثقافة سامية عميقة الجذور”. ثم يختم الباحث دراسته قائلًا: “الأوربيون هم الذين فرضوا على بقية العالم حربين عالميتين. وهما نزاعان عالميان مدمران لامثيل لهما في التاريخ الإسلامي. قد يتمنى البعض أن يكون (العالم دون إسلام)، حيث من المفترض ألا توجد هذه المشاكل. لكن في الحقيقة، فإن النزاعات والخصومات والأزمات في عالمٍ كهذا لن تكون مختلفةً جدًا عن تلك التي نعانيها اليوم”.
ما من حاجةٍ فيما نعتقد لشرح الدلالات الإيجابية للآراء والتصريحات السابقة بالنسبة للمسلمين ودينهم. لكن هذه الوقائع المهمّة، التي حصلت متزامنة تقريبًا وخلال أقل من شهر واحد، مرّت وكأنها لم تحدث على الإطلاق في العالم الإسلامي.. ليس من المتوقع طبعًا خروج مظاهرات ابتهاج لمثل تلك الأحداث، لكنه ليس كثيرًا أن نتوقع فعلًا إيجابيًا بخصوصها يأتي من عشرات الهيئات والمنظمات والجمعيات والأحزاب والمؤسسات التي تتسابق لاصطياد الأخبار والأحداث السلبية، وعلى تعريف ملايين المسلمين بها، وعلى تحريضهم لاستنكارها بجميع الوسائل والأساليب.
ليس ثمة تناقض بين الحديث عن هذه الوقائع والتعرض في بداية هذه الدراسة للتحديات التي تواجه المسلمين في أوروبا وأميركا. هذا إذا نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر شمولية وموضوعية. بل إن مثل هذه الأمثلة تؤكد حقيقة سبق الحديث عنها. فقد ذكرنا أن هناك تحديًا ذاتيًا يعتمل في الغرب حول مسائل الهوية والدين. وهذا يعني أن هناك أطرافًا وجهاتٍ فيه تحمل وجهات نظر مختلفة، وأحيانًا متناقضة، فيما يتعلق بتلك المسائل. وأن هناك حراكًا ثقافيًا بخصوصها يعبّر عن نفسه بوسائل متنوعة، وهو مايحيل أيضًا إلى ملاحظة الباحث احميدة النيفر الواردة أعلاه.
والأمثلة ذاتها وغيرها كثير[38]، تؤكد أيضًا ماذكرناه عن ضرورة معرفة واقع الغرب بشكلٍ شمولي ودقيق. ذلك أن ثمة موقفًا نفسيًا مختلفًا سيتشكل بالضرورة بناء على تلك المعرفة، وهو موقف سيُفرز رؤية مختلفة يترتبُ عليها بعد ذلك موقفٌ عمليٌ مُغاير. فالمواقف العملية لاتنشأ من فراغ، وإنما تنبثق من الرؤية الفكرية التي يمتلكها المرء. كما أن العلاقة وثيقةٌ ولايمكن إنكارها بين الرؤية الفكرية وبين المشاعر والأحاسيس. والثقافة التي لاتتعامل مع هذه العناصر بوعيٍ وتوازن يستصحب معاني الوسطية والعدل يمكن أن تحاصر نفسها وتوقع أصحابها في المشكلات قبل أن يفعل الآخرون ذلك.
إن فهم الواقع كما هو عليه بشكل مجردٍ وشمولي عمليةٌ عقليةٌ صعبةٌ تحتاج إلى نوعٍ من الصبر والتجرد، لأنها تحمل في طيّاتها محاولةً لاستيعاب جملةٍ من المعلومات والمواقف والحقائق والمعتقدات والآراء التي تتعلق بالطرف الآخر، والتي ربما لا تنسجم في قليلٍ أو كثير مع معتقدات الإنسان الذي يحاول فهم الحدث. لكن غياب هذه الممارسة في ثقافة الأمة يتناقض على المستوى النظري مع كل منطلقاتها الحضاري، ثم إنه عمليًا يؤدي إلى تعقيد العلاقة مع الغرب وصعوبة الوصول إلى أنماط استجابة تتعامل مع التحديات المتنوعة في معرض العلاقة معه على جميع المستويات.
ثمة مثالٌ آخر صارخٌ لايمكن المرور عليه عرضًا في هذا المجال. ففي في منتصف عام 2010م، ألقى ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز كلمة بمناسبة مرور 25 عامًا على تأسيس مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد العريقة. والذي يقرأ تلك الكلمة التي استمر إلقاؤها ساعة كاملة، والموجودة بنصّها في موقعه على الانترنت، يشعر أن الرجل الذي سيصبح رئيس الكنيسة القادم في بريطانيا عندما يصبح ملكًا عليها، يعرف عن جوهر الإسلام أكثر مما تعرف شرائح مقدّرة من المسلمين.
يبدأ الأمير الحديث عن الإسلام على المستوى الفلسفي فيقول[39]: “إن جهودنا في العالم الصناعي اليوم لاتنبثق حتمًا من حبنا للبحث عن الحكمة، وإنما تتركز في الرغبة بتحصيل أكبر عائد مادي ممكن. وهذه الحقيقة تتجاهل تعاليم روحية مثل تعاليم الإسلام الذي يؤكد على أن الجانب الحيواني من حاجاتنا كبشر لايشكل حقيقة من نحن عليه… ومما أعرفه عن القرآن أنه يصف مرارًا وتكرارًا العالم الطبيعي على أنه صناعة أنتجتها قوةٌ توحيدية راعية… والقرآن يقدم رؤية تكاملية للكون تشمل الدين والعلم والعقل والمادة جميعًا…”.
بعد هذا يقدم الأمير طرحًا متميزًا يعيد إلى الأذهان درجة الرقيّ الكامنة في المنظومة الحضارية الإسلامية حين تقدم للإنسان قواعد التعامل مع الكون من حوله. وهي قواعد لاتكاد تجد مصداقًا عمليًا لها في واقع المسلمين المعاصر. من هنا، يذكّر الأمير تشارلز مستمعيه وقرَّاءه بقيمة تلك المنظومة قائلًا: “إن العالم الإسلامي يحوي واحدة من أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية الموجودة لدى البشرية. وهي تشكل في نفس الوقت تراث الإسلام النبيل وهدية لاتُقدّرُ بثمن لباقي البشرية. رغم هذا، كثيرًا ما يتم استصغار تلك الحكمة الآن بسبب التوجه السائد لتبنّي المادية الغربية، أي الشعور بأنه لتكون معاصرًا وحداثيًا فإن عليك أن تقلّد الغرب…”.
وفي الكلمة المذكورة من المعاني المعبّرة مايغري بنقلها كاملة إلى هذا المقام، لكن العودة إليها ممكنة على موقع الأمير الرسمي على الإنترنت والمذكور في الهامش.
من المفارقات أن يقول هذا الكلام إنسانٌ يمثل معقلًا رئيسًا من معاقل الغرب والحضارة التي صنعها، ويحتل مركزًا مرموقًا في منظومتها السياسية والحضارية، فلا يمكن اتهامهُ بأنه رجعيٌ أو ماضوي. لكن من المفارقات أيضًا أن مثل هذا الطرح يمثل يدًا ممدودةً من قبل أهل تلك الحضارة لايبدو أنها تجد من يقابلها بشكلٍ مدروس. فالعرب والمسلمون يشكون على الدوام من التيارات الانعزالية الموجودة في أوروبا وأمريكا، إلا أنهم يبدون غائبين عن الساحة عندما تظهر مثل هذه الطروحات الهامة. وأغلب الظن أن من سمع عن هذه الكلمة في الأمة قلائل، فضلًا عن وجود أي مشروع عملي للبناء على ما ورد فيها.
وقد يجدر بهذه المناسبة الحديث عن الإعلام كأحد العناصر التي تُشكلُ “الثقافي” الذي نحاول التركيز عليه في هذه الدراسة. ففي حين نرى كيف يعطي إعلام الأمة أولوية غريبة لكل تصريحٍ فيه إساءة للإسلام مهما كانت صغيرة، ولو صدر عن جهةٍ هامشية في الغرب. يلحظ المراقب غيابًا كبيرًا عندما يتعلق الأمر بالجانب الآخر من الصورة. المفارقة هنا أننا نقع ثقافيًا في نفس مانشكو منه بالنسبة للغرب في هذا المجال. ذلك أن الشكوى شائعة في أوساط المسلمين من التركيز على الجوانب السلبية المتعلقة بهم في الإعلام الغربي، ويبدو أن إعلامنا بشكلٍ عام، وحتى الذي يسمي نفسه إسلاميًا أو هادفًا، يقع في نفس المصيدة الثقافية وإن كان بشكلٍ مختلف.
قد يحتّم هذا علينا العودة إلى فقرةٍ أخيرة من كلمة الأمير تشارلز. فالمؤلم أن الرجل يطالب المسلمين في خطابه مباشرة بأن يقوموا بواجبهم وأن يقدموا للبشرية مساهمةً تنبثق من دينهم. وذلك حين يختم كلمته بقوله: “وبكل هذا في أذهاننا، فإنني أحب أن أضع أمامكم،لو أمكن، تحديًا آمل أن يصل إلى ماوراء هذا الحضور اليوم. وهذا التحدي يكمن في تحفيز العلماء والشعراء والفنانين والمهندسين والحرفيين المسلمين لتحديد الأفكار العامة، ومعها التعاليم والتقنيات الكامنة في الإسلام، والتي تشجعنا على العمل بالانسجام مع الطبيعة وليس ضدها أو في تضاربٍ معها. إنني أدعوكم لاعتبار مايمكن أن نتعلمه من ثقافة الإسلام التي تمتلك فهمًا عميقًا للعالم الطبيعي لمساعدتنا جميعًا في التعامل مع التحديات المخيفة التي تواجهنا”.
من المؤكد أن هناك كثيرًا من الأخبار السيئة بالنسبة للمسلمين في هذا العالم. لكن نظرةً أكثر شمولًا للعالم نفسهِ تُظهر أن فيه كثيرًا من الأخبار الجيدة أيضًا. وإذا ماقصّرت النُّخب الفكرية والإعلامية في أداء دورها من خلال التعريف بتلك الأخبار وإيضاح دلالاتها وأخذ زمام المبادرة في التعامل الإيجابي معها، فإن هذا يعني أن النخب بحدّ ذاتها هي جزءٌ من المشكلة.
لابد من الإشارة هنا إلى أن النمطين المذكورين أعلاه من أنماط التحدي في العلاقة مع الغرب، واللذان يتعلقان بقضية فهم الغرب بشكلٍ شمولي ودقيق يتجليان بشكلٍ أكبر بين مئات الملايين في العالم الإسلامي أكثر منهما داخل الجالية المسلمة في الغرب. فالممارسات التي تُعبّر عنهما تُرصد في أوساط الأمة داخل بلادها بطرق وأشكال تتجاوز بمراحل ما يشبهها في أوساط الجالية. يحدث هذا رغم أن أغلب تجليات التحدي، خاصة في جانبها الثقافي الذي نركز عليه هنا تمسُّ الجالية وأبناءها بشكلٍ مباشر أكثر من غيرهم.
رغم هذا، فإن الطبيعة الثقافية للتحديات تُفسّر بحدّ ذاتها هذه الظاهرة، خاصة مع دلالاتها الرمزية التي تستلهما تلك الملايين، حتى ولو لم تؤثر فيها الممارسات بشكل مباشر. وهذه حقيقة تُظهر تعقيد الموضوع بأسره ودرجة التداخل بين عناصر العلاقة بين الأمة والغرب على جميع المستويات. الأمر الذي يؤكد على الأقل الحاجة إلى استمرار رصدها وبحثها ودراستها على الدوام.

ثانيًا- في أنماط الاستجابة

انسجامًا مع السياق العام لهذه الدراسة، فإن البحث في أنماط الاستجابة للتحديات المطروحة أعلاه سيركز أيضًا على الجانب الثقافي للموضوع. لكننا ننوه من البداية أن عرض التحديات كان يحمل في حناياه كثيرًا من الإشارات إلى بعض مايتعلق بأنماط الاستجابة عليها. إذ لا يمكن الفصل بشكلٍ حادٍ عند الحديث عن النشاط البشري بين التحدي والاستجابة حتى في معرض بحث الظاهرة نظريًا، لأن التداخل بين الأمرين عميقٌ ومستمر بحيث تصبح محاولة الفصل القسري بينهما سبيلًا لسوء فهم الظاهرة وتفسيرها.
من هنا، سنحاول في الصفحات القادمة استكمال بعض الأفكار المتعلقة بأنماط الاستجابة للتحديات، وتنظيمها تحت عناوين ثلاثة يتعلق أولها بقضية حوار الحضارات والثقافات، ويتعلق الثاني بثورة الاتصالات والمعلومات، أما الثالث فإنه يتناول المُعطيات الثقافية للجالية المسلمة في الغرب، وذلك بحكم كونها في جبهة التماس المباشر على خط العلاقة معه.

1. حوار الحضارات والثقافات
إن استقراء دلالات جميع التحديات المطروحة أعلاه يوحي بأن الحوار بكل أنواعه ومستوياته يجب أن يكون نمطًا هامًا من أنماط الاستجابة لتلك لتحديات. يأتي هذا التأكيد لأن الوقائع العملية تُظهر أن غياب الحوار يكون دائمًا مدعاةً لتأكيد كل معاني الجهل بالآخر. والجهل المذكور مقدمةٌ رئيسةٌ للخوف من ذلك الآخر، فالإنسان يخاف مايجهل كما بات معروفًا في الاجتماع البشري. ويتضح الأمر أكثر عندما نعلم أن غياب الحوار، وماينبني عليه من معرفة بالآخر، سيشكل فرصةً ذهبيةً لأولئك الذين يريدون إشاعة المعلومات النمطية عن الآخر، واختزال ثقافته في رموز محددة وألفاظ معينة يجري التلاعب بها وتعريف تلك الثقافة بأكملها من خلالها.
فضلًا عن هذا، فإن مسألة الحوار بكل مقتضياتها تُعتبر منطلقًا معرفيًا أساسيًا من منطلقات المنظور الحضاري الإسلامي، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الآخر، والتي يمكن النظر إليها من مفهوم (التعارف). فقد اقتضت مشيئة الله وحكمته أن يوجد الناس على هذه الأرض على شكل وحدات اجتماعية مختلفة في ألوانها ولهجاتها ومواقع عيشها. وقد يكون من حِكم هذا التنوع تهيئة الظروف المناسبة لتطور الجنس البشري من خلال التفاعل وتبادل التجارب وصولا إلى تحقيق الكمون الكبير الذي يعبر عنه وجود نفخة الروح فيه، ولتحقيق التكريم الذي اختص الله هذا المخلوق به من دون المخلوقات جميعا.
لكن التفاعل وتبادل التجارب لايكون ممكنا في معزل عن سيادة مفهوم (التعارف) بين الأمم والشعوب {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.. الآية}[40]. وقد أثبت التاريخ أن غياب ذلك المفهوم كقاعدة للعلاقات بين شرائح البشر المختلفة غالبا ما يؤدي إلى الصراع والنزاعات والحروب. وإذا كان التعارف إلى ما قبل قرن من الزمان محصورًا إلى درجة كبيرة بانتقال البشر شخصيًا من مكان إلى آخر، وفي أحسن الأحوال بالقراءة عن أحوال الآخرين، فإن ظهور وسائل الإعلام وثورة المواصلات والاتصالات العالمية ألغت جميع أنواع الحدود وقرّبت المسافات حتى ساد المفهوم الذي يؤكد بأن العالم بات قرية صغيرة.
وقد شعرت البشرية بأسرها خاصة خلال العقدين الأخيرين بالحاجة إلى وجود الحوار بجميع أشكاله فتعددت المبادرات الرسمية والشعبية لإقامة منظمات ومؤتمرات وفعاليات تحت عنوان الحوار بين الحضارات و الحوار بين الأديان والحوار بين الثقافات. ليست وظيفة هذه الدراسة تقديم إحصاء لهذه المبادرات لكن من الممكن على الأقل الإشارة إلى بعضها في العالم الإسلامي ثم محاولة تحليل دورها كنمطٍ من أنماط الاستجابة للتحديات التي تواجهه في مجال العلاقة مع الغرب.
فقد رصد مركز حوار الحضارات في جامعة القاهرة مثلا المبادرات التي قامت بها الأمم المتحدة عبر اقتراح عام حوار الحضارات، مرورًا بملتقيات البعد الثقافي في الشراكة الأوروبية – المتوسطية، وبمساعي الجامعة العربية في حوار الحضارات، ومعها جهود المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة[41]. ثم إن المبادرات تتالت في الأعوام القليلة الماضية وكان من أبرزها مبادرة تحالف الحضارات التركية الاسبانية المشتركة، ومبادرة حوار الحضارات ثم الحوار بين الأديان التي قدمتها السعودية، ومبادرة مركز محمد بن راشد للتواصل الحضاري، وصولًا إلى إقامة مركز حوار الأديان في قطر، وغير ذلك من المبادرات.
ورغم الحجم الكبير من النشاطات والمؤتمرات والفعاليات التي أقيمت في إطار جميع المبادرات المذكورة أعلاه، إلا أن رصد الواقع يُظهر أن هذا النمط من أنماط الاستجابة لم يُنتج نجاحات يشهد بها الواقع المذكور. من المفارقة مثلًا أن مركز حوار الحضارات المذكور أعلاه، والذي يُعتبر الجهة الوحيدة التي ترصد هذا الموضوع علميًا وأكاديميًا وبحثيًا في العالم العربي على الأقل، كان ولايزال يعقد ندوة سنوية تتعلق بالموضوع. لكنه انتقل تدريجيًا في تركيز مواضيعه من البحث في خبرات الحوار وقراءة نماذجه ليصل في إصداره الأخير العام الماضي 2010م إلى الحديث حصرًا عن أزمات ذلك الحوار، وهذا انسجامًا فيما يبدو مع ما آلت إليه عمليًا نتائج الحوار[42]. وقد تساءلت الدكتور نادية مصطفى في تقديمها للكتاب الأخير عما إذا كانت الأزمات المذكورة هي سبب فشل الحوار أم أنها نتائج لفشله. وهو تساؤلٌ في غاية الأهمية لأنه يُبين جانبًا من تعقيد الظاهرة، ويُظهر درجة الصعوبة في إيجاد أنماط استجابة فعّالة لأنماط التحدي في علاقة الأمة مع الغرب.
بل إن باحثًا مثل الدكتور حسن حنفي رفض ابتداءً النظر إلى موضوع حوار الحضارات على أنه من أنماط الاستجابة الإيجابية التي تساعد على إيجاد علاقة عادلة ومتوازنة مع الغرب. وعلى العكس من ذلك، رأى أنها “مفاهيم للتصدير وليس للاستهلاك المحلي…. فالمقصود منه في الغرب أن يخف التوتر بين الشعوب في حوارٍ على مستوى الثقافة بعيدًا عن السياسة ومشاكلها والاقتصاد وهمومه. االثقافة توحد الشعوب والاقتصاد يفرقها. فبدلًا من كل أشكال الصراع بين من يملكون ومن لايملكون، بين الأغنياء والفقراء، بين المستغلِّين والمستغلَّين، بين القاهرين والمقهورين، بين المركز والمحيط، يمكن عقد حوار بين الطرفين تآلفًا ومحبةً وإخاءً كما هو الحال في حوار الأديان”[43]. لهذا، يرى الباحث أنه لايوجد زخم لهذه المقولات في الثقافة الغربية التي خرجت منها وأنه لايوجد نقاش نظري حولها، في حين يؤكد بالمقابل أنه “لاتوجد ثقافة عقدت المؤتمرات وأقامت الندوات، وكتبت المقالات وأطلقت الأحاديث وحميت المناقشات حول صراع الحضارات أو حوار الثقافات كما حدث في الثقافة العربية المعاصرة وكأنها كانت على غير انتظار. وأصبح الموضوع وسيلة ليست فقط لإظهار اللاوعي التاريخي المكتوم بل أيضًا وسيلة لإظهار اطلاع المفكر على أحدث النظريات وأشهرها، وأنه أيضًا قادرٌ على الدخول في حوارٍ مع أشهر مفكري الغرب عامة والأمريكي خاصة حتى لايفوته الركب، ويبدو (متخلفا) غير قادر على التعامل مع أحداث الساعة”.
ورغم صعوبة تعميم التحليل السابق، خاصة على النخب العربية التي وجد الباحث أنه ينطبق عليها أكثر من غيرها، إلا أنه في الحقيقة يُظهر جانبًا ثقافيًا هامًا من جوانب الإشكالية التي صاحبت موضوع حوار الحضارات. بل إن حصر الحوار في النخب نفسها كان في رأينا أحد أسباب فشل أغلب المبادرات إن لم يكن جميعها. ذلك أن عزل الإنسان العادي عن فعاليات هذا الحوار كان هو الأمر السائد في معظم الأحوال. وفي حين أن الشرائح الاجتماعية المختلفة بكل أبعادها هي المُستهدفة بهذا الحوار الذي يجب أن يفضي إلى مزيد من التعارف، تصيب عملية العزل المذكورة ذلك الهدف في مقتلٍ من اللحظة الأولى.
ويمكن أن نستشفّ مشكلةً أخرى تتعلق بالموضوع في معرض الحديث عن النخب. فحين يكون الحوار مثلًا بين من يُسمون بالعلماء أو رجال الدين فإنه لايمثل غالبيةً عظمى من شرائح المجتمع أصلًا، خاصةً في المجتمع الغربي. ففي حين أن الحوار يجب أن يلامس جوانب وفعاليات الحياة الإنسانية المختلفة، وبشكلٍ شمولي، إلا أن رجل الدين الغربي غير قادر ولا مؤهل لأن يمثل مجتمعه في تلك المجالات بحكم دوره المحدد سلفًا فيه، وهو دورٌ محصورٌ إلى درجةٍ كبيرة داخل الكنيسة. بل إن هذا التحليل يمكن أن ينطبق أيضًا على واقع الأمة. فرغم التقدير المعنوي للعلماء ودورهم في المجتمعات الإسلامية، إلا أن هذا الدور يتفاوت من مجتمعٍ إلى آخر بدرجةٍ كبيرة. كما أن التطورات الثقافية المعاصرة تُقلّص تدريجيًا قدرة الغالبية الكبرى منهم على تقمّص دور من يمثل المجتمع ويعيش همومه وأسئلته.
ثمة مشكلة ثالثة تواجه حوار الحضارات والثقافات كمدخل لتصحيح العلاقة بين الأمة والغرب يتمثل في الرعاية الرسمية والحكومية لها. ذلك أن مثل تلك الرعاية يمكن أن تكون مجال شكٍ في الفضاءين الغربي والإسلامي على حدٍ سواء. حيث يمكن أن يُنظر إلى الرعاية الرسمية الغربية على أنها وسيلةٌ فقط لإلهاء الإنسان المسلم عن واقع الصراع الذي يحكم العلاقة بين الطرفين، كما ألمح الدكتور حنفي إلى ذلك أعلاه. أما الرعاية الرسمية في العالم الإسلامي فيمكن تفسيرها بأنها مجرد نوع من أنواع الدعاية (البروباغاندا) الموجهة إلى الغرب لنفي تهم التطرف ودعم العنف والإرهاب. ولهذا، يمكن لكثيرٍ من المبادرات أن تفقد مصداقيتها حتى قبل أن تنطلق أيٌ من فعالياتها، وهو مايضمن فشلها ويُظهر بأنها تولد ميتة في كثيرٍ من الأحوال.
وأخيرًا، فإن فكّ الاشتباك بين ماهو سياسي وماهو ثقافي قد يكون بحدّ ذاته أحد التحديات التي تواجع قضية حوار الحضارات. ونحن لانوافق الدكتور حنفي فيما ذهب إليه من تعميم بأن هذه القضية تُعتبر نوعًا من إلهاء الأمة عن “السياسي” بما هو “ثقافي”. يلفت النظر ويستحق مزيدًا من الدراسة في هذا المجال مثلًا طرح موضوع (تحالف الحضارات) بدلًا من حوار الحضارات فقط، وهي المبادرة الإسبانية التركية المشتركة. وهذا “لأن تحالف الحضارات يعطي الأولوية للجانب السياسي والاقتصادي، بينما حوار الحضارات يعطيها للجانب الثقافي والفكري والأكاديمي”[44]. ورغم أهمية الجانب الثقافي والفكري والأكاديمي إلا أن من غير الممكن إنكار عملية التداخل والتشابك المعقدة بين تلك الجوانب وبين الجانب السياسي.
وبشكلٍ عام، لانعتقد أن الواقع المعاصر يؤدي بالضرورة إلى الحكم بالفشل الكامل على مدخل حوار الحضارات كنمطٍ من أنماط الاستجابة للتحديات المطروحة في مسألة بين الأمة والغرب. ومامن جدوى تُذكر من عملية التشكيك المستمرة بهذا النمط، فتحقيق عملية (التعارف) كما تحدثنا عنها أعلاه واجبٌ حضاري وأخلاقي بالنسبة للأمة، وتجاوز هذا الواجب يُعتبر نكوصًا عن منطلقٍ رئيس من منطلقات المنظور الحضاري الإسلامي له تأثيره الكبير في واقع الأمة.
كما أن حوار الحضارات يبقى منطقيًا مدخلًا يحمل الكثير من الكمون إذا تحققت شروطه المطلوبة وظروفه المناسبة، وإذا تمّ تجاوز المشكلات التي تواجهه بإرادة إنسانية حقيقية. خاصة إذا انتقل الحوار من ساحات التنظير والحوار النخبوي إلى آفاق العمل الإنساني المشترك في كثير من المجالات، وعلى مستوى الأمم والشعوب.

2. تقنية الاتصالات والمعلومات
لايمكن في هذا الزمن الهرب من البحث عن أنماط استجابة للتحديات الموجودة في علاقة الأمة بالغرب في معزلٍ عن ثورة المعلومات والاتصالات العالمية المعاصرة. بل إن رصد الواقع نفسه يُظهر كيف أن هذه العلاقة بأسرها باتت محكومةً إلى حدٍ كبير بمعطيات تلك الثورة التقنية وبمضمونها الثقافي.
والواضح ابتداءً أن تلك الثورة باتت من الظواهر التي تحتاج إلى دراستها بشكلٍ شمولي وعميق، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الغرب في حالتنا هذه، وبالعلاقات بين الأمم والحضارات على وجه العموم. ذلك أن تلك الثورة أصبحت تفرز عناصر متناقضة باتت بدورها تخلق واقعًا ثقافيًا في غاية التعقيد[45].
من هنا، تظهر مرة أخرى أولوية استصحاب مفهوم التعارف كمنطلق أساسي من منطلقات العمل الإعلامي في الأمة. ورغم أن الشكوى شائعة ومعروف من أن الإعلام الغربي في أغلبه يُستعمل وسيلة لتنميط الثقافات وفق نمط واحد، ولفرض القيم والعادات وطرق التفكير والحياة السائدة في ثقافة معينة ولدى شعب محدد على ما سواهما من الثقافات والشعوب، إلا أن هذا لا يجب أن يدفع إلى رد فعلٍ مشابه. ومن هنا يعود دور مفهوم التعارف حين يصبح هذه المرة منطلق العمل الإعلامي ليصحح هذا التوجه، وليعيد للاختلاف دوره الأصيل في إثراء الحياة البشرية على كل صعيد. وليرفض التنميط الاجتماعي والثقافي ويُصرّ على استمرار التنوع والتعددية كسنة من سنن الوجود الإنساني على هذه الأرض. بل يصبح محرضًا على الانفتاح المتوازن المدروس على باقي الشعوب والحضارات، وعلى التعاون معها لما فيه خير البشرية جمعاء.
إن النص القرآني يؤكد على توضيح غايةٍ أساسية من خلق الجنس البشري تتمثل في (تعارف) شعوبه وقبائله. لكن الملاحظ أيضًا أن هذا النص لايخاطب المسلمين ليخبرهم بمضمون تلك القاعدة ويطلب منهم إبلاغها للآخرين، بل إنه بصيغته الواردة في الآية يتجاوز المسلمين ويوجه خطابه مباشرةً لعامة الناس، مبينًا تلك الغاية لهم بوضوح. وكأنه يرسم بنفسه من خلال تلك الممارسة الخطوةَ الأولى على طريق تحقيق الغاية المذكورة، ويقدم للمسلمين مثالًا عمليًا يُفترض أن يحميهم من إغلاق دوائر رسالة التعارف في مجتمعاتهم.
ورغم أن المسؤولية عامةٌ ومشتركةٌ كما يفرض المنطق وكما يُستخلص من توجيه الخطاب في النص القرآني للبشرية جمعاء، إلا أن مسؤولية المسلمين تكون مضاعفةً في هذا المجال بحكم كونهم أهل الرسالة الخاتمة، والمؤتمنين على تحقيق مقاصدها وغاياتها. وأهل الإعلام في الأمة هم أولى الناس بالانطلاق من هذه الرؤية في عملهم ونشاطهم، كي لاتكون العلاقة مع الغرب محكومة بردود الأفعال العاطفية والمصالح الشخصية والأهواء الغرائزية والتّبَعية والجمع بين مشاعر الحب والبغضاء بشكلٍ مَرَضي، وغيرها من المعاني التي لاعلاقة لها بالتعارف في تجلياته الأصيلة. وهي تجلياتٌ تحمل معاني المبادرة والندّية والرغبة الحقيقية في فهم الآخر بشكل شمولي والتعاون معه لما فيه خير الجميع. وهذه هي المعاني التي يجب على الإعلام المطلوب أن يغرس جذورها بجميع الوسائل والأساليب.
ومن جهةٍ أخرى، فإن من غير الممكن التفكير بقدرة أي ثقافة أو حضارة على بناء منظومةٍ للتعامل مع الآخر في غياب قدرة أصحاب تلك الثقافة والحضارة على تقديم نفسها إلى العالم وإلى الآخر في لبوسٍ رفيع المستوى من الوضوح والتحديد والتفصيل. وهو مايُمكن أن يكون مدلول مفهوم (البيان) الوارد في الآي الكريمة {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}[46]. والقدرة على صياغة خطابٍ يمكن تحقيق شروط البيان فيه يتطلب أول مايتطلب تمكنًا من لغة الناس قريبهم وبعيدهم. ومفهوم اللغة هنا يتضمن المعنى الحرفي للكلمة لكنه لايقف عنده. فهو يتضمن أيضًا الثقافة التي تُشكّلها تلك اللغة في مجتمعها. وإذا نظرنا إلى عدد وتنوع اللغات والثقافات التي يتشكل منها العالم المعاصر، ثم بحثنا في طبيعة ومحتوى برامج الإعلام التي تتعلق بالإسلام والتي ينتجها المسلمون ويقدمونها لشعوب العالم في الشرق والغرب، فإن بإمكاننا أن نرى حجم التحدي المطروح عليهم. وهو تحدٍ من المؤكد أن المسلمين لم يتمكنوا من مواجهته بشكلٍ فعال، حتى الآن على الأقل.
ورغم شكوى البعض من قلة الإمكانات، غير أن من الواضح أن المشكلة الأساسية تتمثل في غياب مفهوم البيان في الثقافة الشائعة في بلاد المسلمين. فبذل الجهد العلمي والتخصص والتحليل والتحقق والتقصي والاستقصاء والبحث ليست جميعًا من التقاليد السائدة في تلك الثقافة، رغم أنها من الشروط الأساسية لتشكيل خطابٍ يتصف بالبيان. بل ربما كان الأمر على العكس تمامًا. فالسائد هو التعميم والاستعجال والاختزال والسطحية والاجتزاء. سواء تعلق الأمر بفهم الإسلام نفسه أو في طريقة تقديمه للناس. وهو مايؤكد غياب مفهوم البيان كمقدمةٍ هامة من مقدمات صياغة خطاب إعلامي إسلامي معاصر. كما أنه يؤكد مدى الحاجة إلى جهودٍ مقدّرة تهدف إلى تقديم الإسلام كشريعةٍ تنبض بالحيوية والحركة والحياة، وتحمل قدرة كبيرة على استيعاب متغيرات العصر، وكمونًا هائلًا للإجابة على الأسئلة الكبرى التي تطرحها الحضارة العالمية المعاصرة في كل مجال.
ولا تكتمل شروط التعامل الحضاري الإسلامي مع الإعلام إلا باستصحاب قيم العدل والموضوعية كمنطلقات أساسية تحكم كل نشاط عملي يتعلق بهذا المجال. والمؤمنون بأسرهم مطالبون بهذا الأمر انطلاقا من قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.. الآية}[47]. فالأمر بالعدل وتحري القسط هنا مطلوب حتى تجاه من لا يريدون الخير للمسلمين. وحين نأخذ بعين الاعتبار الأفكار والمعلومات الواردة في الفقرات السابقة من جانب، ونرى الواقع المعاصر من جانب آخر، فإننا ندرك أهمية منطلق العدل في ضبط الخطاب الإعلامي الإسلامي المطلوب وتجنب سقوطه في عقلية ردود الأفعال والتشنج والمبالغات في وصف الواقع أو الآخر وفي التعامل معهما.
وإذا عدنا لنستخدم بعض الوقائع التي تحدثنا عنها، فقد تناقلت وكالات الأنباء على مدى أسابيع مثلًا أخبارًا تتعلق برفض شرائح كبرى من الساسة السويسريين والأوربيين لقرار منع المآذن في سويسرا. فقد فسرت وزيرة الخارجية السويسرية تصويت مواطنيها بأنه “رد فعل انطوائي ودفاعي في ظرف يتميز بالعولمة وأزمة اقتصادية وتنامي البطالة”. وأعربت عن أسفها لأن “حرية ممارسة الديانة الإسلامية تم التضييق عليها في مستوى تعبيراتها العلنية”. ولاحظت أنه “يعود إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (إذا ما تم اللجوء إليها) تقرير مدى ملاءمة الإجراء الدستوري السويسري الجديد مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”. وحرصت الوزيرة على تأكيد أن “هذا التصويت لا يغير في شيء أهداف السياسة الخارجية لسويسرا التي تقيم علاقات وثيقة في المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مع البلدان الإسلامية”. وفي جنيف، قالت نافي بيلاي المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة في بيان إن حظر أي هيكل معماري ينتمي إلى الإسلام أو أي ديانة أخرى يُعتبر “بوضوح عملا يقوم على التمييز البغيض”. وقالت بيلاي إن الحظر “تمييزي ومسبب للانقسامات وخطوة تدعو إلى الأسف من جانب سويسرا وتخاطر بوضع البلاد على مسار تصادمي مع التزاماتها الدولية بشأن حقوق الإنسان”. وأضافت: “أتردد عندما انتقد تصويتا ديمقراطيا لكني لم أتردد هذه المرة على الإطلاق في إدانة المتاجرة بالتخويف من الأجانب التي ظهرت في الحملات السياسية في عدد من الدول بينها سويسرا وساعدت في ظهور نتائج مثل هذه”[48].
وكان الرئيس السويسري نفسه وكذلك مجلسا النواب والشيوخ في سويسرا قد رفضا مبادرة حظر المآذن في البلاد حتى قبل إجراء الاستفتاء عليه “بسبب تعارضها مع مبدئي التسامح وحرية الاعتقاد الأساسيين” ورحب بالرفض مؤتمر الأساقفة في سويسرا. لكن مجلس الشيوخ الذي كان آخر الرافضين “أقر بان نص المبادرة، برغم ما يتخلله من سلبيات سياسية وقانونية، سيُعرض في إستفتاء عام، وسيتاح للشعب السويسري قول كلمته الفصل فيه”[49]. ذلك أن الدستور السويسري يسمح لأي مجموعة أن تتقدم بمبادرة شعبية، بمعنى عرض مشروع قانون ما على الجماهير، إذا حصلت تلك المجموعة على عدد معين من التوقيعات على اقتراحها. لكن، وكما يقول التقرير الذي ننقل عنه من الموقع الرسمي السويسري: “هذا النظام يواجه المزيد من التحديات من يوم إلى الآخر، مما يثير التساؤل حول مشروعية بعض المبادرات التي تتخطى الخطوط الحمر. فعلى هامش مناقشة المبادرة الداعية إلى حظر المآذن، تطرّق العديد من أعضاء مجلس الشيوخ بالمناسبة إلى العلاقة القائمة بين القانون السويسري والقانون الدولي، ولأي منها يجب أن تعطى الأولوية، مطالبين الحكومة الفدرالية بتقديم مقترحات محددة في هذا الإطار”.
والحقيقة أن هذا الموضوع يمثل نموذجًا هامًا على ماتحدثنا عنه سابقًا من التحدي الذاتي الذي يواجهه الغرب على أكثر من مستوى، وهو تحدٍ يُفرز مثل هذه الظواهر المعقّدة التي لا يمكن اختزالها في تفسيرٍ واحد. ولهذا، ينبغي البحث عن أنماط استجابة لها بشكلٍ شمولي يأخذ بعين الاعتبار تعقيدها وتعقيد الواقع الثقافي والقانوني الذي تظهر فيه.
وقد قدمنا في معرض الحديث عن قضية فيلم (فتنة) في هولندا عن الأجواء العامة من الرفض للفيلم في الأوساط الثقافية والسياسية. وحصل مثل هذا مع قضية حرق القرآن في أميركا. وهذه كلها وقائع ومعلومات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار حين نتحدث عن فهم الظاهرة بشكل متكامل وعن ضرورة تحري العدل والموضوعية في التعامل معها. لكن رصد الواقع يُظهر أن إعلام الأمة ركّز بشكلٍ كبيرٍ جدًا على الجانب السلبي من الصورة في حين أنه مارس نوعًا من التعتيم، المقصود أو غير المقصود، على جوانبها الأخرى التي أشرنا إليها قبل قليل.
إن الالتزام بقيم العدل والموضوعية لاينبغ من رقي الإسلام بشكل مجرد، وإنما له وظيفة عملية هامة. فتلك الممارسة تهدف إلى ترك المجال مفتوحا على الدوام لرؤيةٍ عاقلة متأنية واقعية شاملة للعالم وللناس يتحقق معها فقه الواقع بشكله الدقيق، وفي معزل عن هيجان العواطف والمشاعر التي تؤثر أحيانا على ذلك الفهم وتجعله مشوهًا أو سطحيا، خاصة حين تصبح المشاعر والعواطف الغالبة في ثقافة المسلمين لفهم العالم والتعامل معه.
بل إن غياب ثقافة التحرّي والتحقق من الأخبار والأنباء ظهرت بشكلٍ جلي في قصة أخرى لها علاقة بموضوع منع المآذن. فقد ظهر فجأة مع بداية العام 2010م خبر في الانترنت عنوانه (صاحب مبادرة منع المآذن في سويسرا يشهر إسلامه)، وقد انتشر الخبر كالنار في الهشيم وتناقلته ونشراته مئات المواقع العربية والإسلامية. ورغم ظهور أن الخبر ملفّق وأن اسم الرجل الموجود فيه لاعلاقة له بالمبادرة وأنه سياسي سويسري أسلم منذ عام 2004م، إلا أن الخبر ظلّ يُتداول إلى نهاية العام تقريبًا. وإذا وضعت العنوان المذكور أعلاه على محرك البحث (غوغل) فإنك ستجد حوالي 23700 نتيجة، كثيرٌ منها هو بمثابة وصلات إلى مواقع عربية نشرت الموضوع؟!.
ثمة ظاهرة أخرى في موضوع التعامل مع الغرب تتمثل في نمط من أنماط الاستجابة يتجلى في تأليف وانتشار بعض الكتب التي يرمي أصحابها من خلالها للمساهمة في الأخذ بيد العالم وبالذات الغرب (الحائر)، وهدايته من خلال تعريفه بدين الإسلام ودعوته للإيمان به. وهي ظاهرةٌ لا يمكن أن تكون مرفوضةً من ناحية المبدأ من باب حُسن النية وإرادة الخير للآخرين، ومن مدخل التعارف الإنساني الذي يُعتبر مقصدًا من مقاصد وجود البشر وتقسيمهم إلى (شعوب) و(قبائل).
لكن الأزمة تكمن في طبيعة الخطاب الذي يُقدّمُ في مثل تلك الكتب. لأنه في غالبيتها العظمى خطابٌ لايُدرك طريقة التفكير السائدة في الغرب. وخاصةً منها تلك التي يحملها من تُسمّيهم هذه الكتب بـ (الحائرين). ومن هذا التمييز تظهر المشكلة الأولى في الكتب التي نتحدث عنها والتي تتعلق بمدى معرفة الإنسان المُخاطَب، أو مايُسمى بلغة الاتصال البشري (المتلقي) للرسالة الواردة في تلك الكتب.
فالغرب على سبيل المثال يضم الملايين من (المتدينين) والملايين ممن لا يؤمنون بأي دين. والذي يتعرف إلى نماذج من هؤلاء وأولئك لايشعر بالضرورة بأنهم (حائرون) بالطريقة التي يفكر بها بعض المسلمين. من هنا، فإن أغلب من يكتب تلك الكتب ينطلق من خلفيةٍ ثقافيةٍ، ومن طريقةٍ في رؤية الأمور، ومن منهجٍ في الحكم على الظواهر، لاعلاقة له من قريب أو بعيد بثقافة الغرب. وبالتالي فإنه حين يطرح الأمثلة والشواهد والأدلة التي يعتقد أنها (مقنعةٌ) و (مفحمةُ) فإنه يكون في مقام ممارسة خطاب داخلي مع نفسه، ولو كان يعتقد أنه يمارس خطابًا مع (الحائرين).
إن ثورة الاتصالات والمعلومات توفر فرصة نادرة لأمةٍ تعتبر أن ثقافتها تتمحور حول كلمة {اقرأ} بكل دلالاتها لكي تقوم بممارسة عملية البلاغ المبين، ولكي تكون {رحمةً للعالمين} جميعًا، وليس فقط لوضع العلاقة مع الغرب في إطار متوازن يحقق مصالحها. لكن هذا لا يمكن أن يحصل في معزلٍ عن الالتزام بالمنطلقات الرئيسة التي تنبثق من المنظور الحضاري الإسلامي، والتي يجب أن تحكم طريقة التعامل مع تلك الثورة وصولًا إلى أنماط استجابة لا تساعدها فقط على تحقيق المصالح وإنما على تحقيق المقاصد الحضارية الكبرى من الوجود البشري على هذه الأرض، والكامنة في ذلك المنظور.

3. الجالية المسلمة في الغرب وأنماط الاستجابة
إن وجود الجالية المسلمة في قلب الغرب الأوروبي والأميركي ديمغرافيًا يضعها بالضرورة في موقع القلب من أي محاولات لتشكيل أنماط استجابة للتحديات المتنوعة التي تصبغ العلاقة معه في هذا العصر. وربما لا يكون من المبالغة القول بأن ماتعيشه تلك الجالية من تحديات، وما تقدمه من استجابات، سيبقى عنصرًا رئيسًا من عناصر أي معادلة ستتبلور على طريق صياغة تلك العلاقة.
ثمة ظاهرة أخرى تستدعي الإشارة في هذا المقام. ذلك أن أنماط الاستجابة المذكور أعلاه، والتي يتبين من رصد الواقع أن فعاليتها لاتزال قليلة في صياغة علاقة متوازنة مع الغرب تتعلق بالمجتمعات الإسلامية خارج الغرب أكثر منها بالجالية الإسلامية فيه. وقد يدعونا هذا للتأكيد مرة أخرى على أن أنماط الاستجابة التي تظهر ويمكن أن تزهر في أوساط الجالية ستكون، على الأقل على المستوى الثقافي، مفرق طريق عند تحديد مصير تلك العلاقة.
تحاول الجالية المسلمة إذًا أن تتعامل في نفس الوقت مع تحديات الهوية والدين والمرجعية النابعة ذاتيًا من ظروف الغرب، ومع التحديات الذاتية لها، والتي تعتمل داخل أوساطها على كثير من المستويات. فتحدي الهوية مثلًا ليس تحديًا ذاتيًا غربيًا فقط، وإنما هو تحدٍ أساسي تعيش الجالية هاجسه باستمرار منذ اللحظة الأولى لوجودها في الغرب. فكما أن الثقافة التاريخية لأي شريحة بشرية تُشكّل جزءًا رئيسًا من هويتها، إلا أن الثقافة السائدة للموقع الجغرافي الذي تعيش فيه تلك الشريحة لايمكن إلا أن تُصبح تدريجيًا جزءًا من تلك الهوية.
لكن إنتاج هويةٍ جديدة يمتزج فيها العنصران بنسب متوازنة يُعتبر عملية معقّدة لا يمكن أن تحصل بسهولة وسرعة. ويتأكد هذا حين نتحدث عن هويتين تحملان في نفس الوقت قيمًا مشتركة وأخرى مختلفة. وهذا ما حصل ولا يزال بالنسبة لوجود الجالية في الغرب. فالأمر يتعلق من جانب بطريقة فهم الإسلام نفسه، ومن جانب آخر بفهم الواقع الغربي بمنظوماته السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية والثقافية، ومن جانب ثالث بالقدرة على إيجاد أوعية للتعامل مع هذا الواقع تنسجم من ناحية مع إرادة الالتزام بالإسلام، ولاتتضارب من ناحية أخرى مع القوانين السائدة. والواضح أن الجالية، خاصة في بدايات وجودها في الغرب، لم تكن مهيأة في الغرب للتعامل مع الجوانب الثلاثة.
ونحن هنا لسنا في معرض النقد لأن الظاهرة المذكورة تُعتبر من أكثر ظواهر الحياة البشرية المعاصرة تعقيدًا وصعوبةً أيًا كانت الثقافة وأيًا كان الواقع الذي نتحدث عنه. تزيد صعوبة الأمر طبعًا حين نتحدث عن فوارق ثقافية تتعلق بالدين الذي ينطوي على (تعاليم) تتناقض ليس فقط مع القوانين السائدة أحيانًا، ولكن حتى مع مكونات الثقافة التي تأخذ في الفضاء العام درجة القوانين أيضًا إن لم تكن أكثر تأثيرًا في الإنسان منها[50].
والحقيقة أن الظروف الموضوعية لم تكن موجودة منذ البدايات للبحث عن هوية متوازنة للجالية المسلمة في الغرب الأوروبي والأميركي، فضلًا عن امتلاك القدرة على صياغة مثل تلك الهوية مكبرًا، بحيث لا يؤدي الأمر إلى أزمات تجعل التحدي أكبر وأشمل.
وكما يطرح صلاح الجفراوي، المنسق العام لاستراتيجية العمل الثقافي في الغرب للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فإن “في ألمانيا على سبيل المثال هناك أكثر من 2000 مسجد، وكذلك الحال في فرنسا وبريطانيا هناك أكثر من 1500 مسجد [هذه أرقام عام 2004] ولكن نسبة المؤهلين الذين يستطيعون أن يصلوا إلى أو يُوصّلوا فهم الإسلام الصحيح لاتصل إلى 20% تقريبًا، و80% غير مؤهلين يقومون على أمر بقية المراكز الإسلامية”[51].
نتج من هذا الواقع في أوروبا مثلًا وجودٌ إسلامي عشوائي في جانبه الثقافي عمومًا، وفيما له علاقة بفهمٍ متوازن للدين والهوية. ورغم تزايد أعداد المهاجرين وزيادة رقعة (الالتزام) الديني بين أبناء الجالية، إلا أن مسائل العلاقة مع الآخر، وحدود وطبيعة التعامل مع منظومات الواقع السياسية والاجتماعية، وكيفية فهم الإسلام وتنزيله في واقعٍ مختلف تمامًا عن الواقع القديم، بقيت مُحاطة بأسئلة لم تكن لها إجابات. ورغم بقائها أقلية، ظهرت جماعات تحمل معاني الغلوّ في كثير من المجالات، وترى أنها تعيش في مجتمعات كافرة. وتولّدت عنها أحيانًا جماعات تدعو للعنف أو تمارسه، كما حصل في تفجيرات لندن ثم مدريد خلال السنوات الماضية.
لكن الجالية من ناحية، والجهات الرسمية الغربية من ناحية أخرى، تحاول التعامل مع الموضوع من خلال إنشاء منظمات إسلامية، والبحث عن أساليب بناء كوادر مؤهلة لقيادة الجالية ثقافيًا ودينيًا. إلا أن هذا المسار يواجه مشكلات عديدة إن بسبب الظواهر السلبية المتزايدة ضد المسلمين في أوروبا، أو بسبب الشكّ في النوايا الحقيقة للجهات الرسمية في تلك الجهود.
رغم هذا، ثمة ظواهر تُبدي تطورًا فيما يتعلق بأطر استجابة المسلمين في أوروبا للتحديات التي تواجههم. وفيما يتعلق ببعض الوقائع التي تحدثنا عنها في هذه الدراسة فإن ثمة أدلة على ممارسات تسير في الإطار المطلوب. فعندما تعلق الأمر مثلًا بمبادرة منع المآذن في يويسرا، كان من الملاحظ أن أبناء الجالية قاموا بجهد ينسجم مع الثقافة السائدة للتعامل مع الموضوع قبل وبعد المبادرة.
فقبل إجراء الاستفتاء نظمت رابطة المسلمين في سويسرا ندوة في جامعة جنيف شارك فيها ممثلون عن الرابطة، وعلى الجانب الآخر ممثلون عن حزب الشعب صاحب المبادرة، بالإضافة الى عدد من المتحدثين الذين أعربوا بشدة عن معارضتهم للمبادرة، وهم من كبار المدافعين عن حقوق الإنسان في جنيف مثل تشارلز بونسيه ومارو بوجيا وكسافييه كارلو والقس فيليب ريموند ولوسيا داحلب وفيظ ورديري. كما قام المنظمون خلال الندوة بعرض للشرائح المصورة التي أظهرت كنائس دول منظمة المؤتمر الاسلامي والمدن التي تقف فيها المئذنة الى جانب قبة الكنيسة[52].
لجأ أبناء الجالية إذًا إلى التقاليد التي تنسجم مع رؤيتهم الحضارية ابتداءً في قضية الحوار، لكنها في نفس الوقت تنسجم مع الأعراف السائدة في تلك البقعة من العالم. الأكثر من هذا، أنهم استخدموا لغة العصر خلال هذه الممارسة. فالصورة في هذا الزمن أهمّ من آلاف الكلمات كما يقول المختصون، وحين عرض المسلمون السويسريون الصور التي تُظهر المآذن وقبب الكنائس في مدن العالم الإسلامي فقد كانوا يستخدمون الصورة لتخاطب بنفسها أهل سويسرا، كما فعل أصحاب المبادرة قبل ذلك. فضلًا عن هذا، قام المسلمون في ذلك البلد بفتح أبواب مساجدهم أمام السويسريين لزيارتها والتعرف عليها والحوار معهم فيها[53]. وفي هذا مافيه من تأكيدٍ عملي لمعاني الانفتاح على الآخر ووجود إرادة التعارف والحوار معه.
ورغم أن هذه النشاطات لم تمنع في النهاية حصول المبادرة على 57% من أصوات المشاركين ونجاح تمريرها، إلا أن من الواضح أن مثل تلك الممارسات تنبثق من وعي متقدم على ضرورة صياغة أنماط استجابة تنسجم مع ثقافة المجتمع المحلي وتستخدم نحويته ومفرداته ووسائله. والواضح أيضًا أن ثمة حاجة لمزيدٍ من التقدم في هذا المجال. ذلك أن استطلاعات الرأي في سويسرا كانت إلى بضعة أسابيع ترجح فشل المبادرة حيث أيدها فقط 37% من المواطنين. لكن من الجليّ أن قدرة أصحاب المبادرة كانت أكبر من قدرة المسلمين على استعمال الوسائل الدعائية وتصعيد حملة التخويف من المسلمين والإسلام في سويسرا بشكلٍ كثيف في حملة استمرت أكثر من سنتين للوصول إلى هدفها.
ثم إن المجلس الإسلامي المركزي في سويسرا أعلن بتاريخ 29/11/2010م عن عزمه طرح مبادرة منع المآذن- التي تم التصويت لصالحها في استفتاء عام في 2009- في استفتاء عام آخر للتصويت مرة أخرى عليها. واعتبر المجلس هذه المبادرة، التي جاءت في الذكرى السنوية الأولى لاستفتاء حظر المآذن، بمثابة المخرج الدستوري الوحيد لإلغاء قانون حظر المآذن، على اعتبار أنه يخالف الدستور السويسري الذي يدعو إلى المساواة بين الجميع في حرية العقيدة. وأضاف المجلس أن مبادرته ذات طبيعة شعبية وتهدف رفع هذه المادة من الدستور الاتحادي، مشيرا إلى أن المخرج الدستوري الوحيد في هذا الأمر، هو محاولة طرح استفتاء حول قانون حظر المآذن مرة أخرى للتصويت من قبل الشعب السويسري. وأعلن المجلس في بيانه تفاصيل خطة عملية متكاملة للقيام بالموضوع تبدأ بحملة مكثفة له خلال هذا العام 2011م[54]. ورغم الطبيعة القانونية والسياسية لهذا النشاط، إلا أنه يُظهر في خلفيته تطورًا نوعيًا ثقافيًا في مجال صياغة نمط استجابة متقدمٍ آخر للتعامل مع الموضوع، وهو ما يمثل في الحقيقة مثالًا معبرًا على نقلة تجري في أوساط الجالية في أوروبا للتعامل مع التحديات التي يواجهونها.
وفي إطار آخر، يحاول مسلمو أوروبا الموازنة في أنماط استجابتهم بين ممارسات ونشاطات تُعتبر بأسرها ضمن تقاليد وأعراف الثقافة الأوروبية. فقد أقامت جمعية الأئمة في أيرلندا حملة إعلامية لتفنيد دعاوى مناهضة الحجاب، وقامت شرائح من المسلمين في بروكسيل بمظاهرة احتجاج سلمية على قانون منع النقاب. وتتوالى الحوارات والتصريحات التي توضح موقف المسلمين في أوروبا من التحديات التي تواجههم. فقد نددت منظمات إسلامية بوجود “مناخ فاسد ومعاد للإسلام” في فرنسا حيث يزداد النظر إليهم بشكل سلبي. جاء ذلك في أثناء اللقاء الـ27 لمسلمي فرنسا الذي نظمه اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا خلال شهر مارس من العام الماضي 2010م. وندد فؤاد علوي رئيس الاتحاد، ثاني تنظيم تمثيلي لمسلمي فرنسا، “بتنامي مناخ معاد للإسلام”. وتطرق مسؤولو الاتحاد في افتتاح الاجتماع السنوي الذي جرى في مركز معارض باريس- لو بورجيه إلى “مناخ فاسد تغذيه نظرة سلبية متزايدة للمسلمين في بلادنا”. كما أدان رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية محمد موسوي “نوعًا من التشنج” غذته “النقاشات حول الهوية الوطنية، النقاب، وتصويت سويسرا على منع المآذن”. واعتبر موسوي أن “الأغلبية الساحقة من مسلمي فرنسا تطمح في ممارسة إيمانها وسط احترام كامل لقيم الجمهورية” وترغب في “أن ينظر إلى عقيدتها الدينية على أنها من مكونات الحرية الشخصية”[55].
وفي نفس الوقت “أصدرت حوالي أربعمائة منظمة إسلامية أوروبية في 11 يناير 2008م “ميثاق مسلمي أوروبا” في بروكسل، الذي يدعو إلى دعم قيم التفاهم وحسن الاعتدال وحوار الثقافات وهي محاولة لتوحيد 15 مليون مسلم يعيشون في أوروبا الغربية. ويركز على أن (مسلمي أوروبا مدعوون إلى الانخراط الإيجابي في مجتمعاتهم، على أساس توازن بين هويتهم المسلمة وواجباتهم بوصفهم مواطنين)”[56].
ومع بداية هذا العام 2011م عقد مجلس شورى “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا” اجتماعه الدوري الثاني في دورة الاتحاد التاسعة، في مدينة إستانبول، بحضور مسئولي الاتحاد وممثلي المؤسسات الأعضاء من عموم القارّة. وطالب المجلس مسلمي أوروبا، بتكاتف الجهود الخيِّرة وتطوير الأداء الإيجابي في شتى الجوانب، والنهوض بشتى المسئوليات المُلقاة على عاتقهم بمقتضى مواطنتهم الأوروبية. كما طالبهم بتقوية صلتهم بالله عزّ وجل، وأن يجسِّدوا في حياتهم اليومية، المواطنةَ الصالحة والأسوة الحسنة، وتنمية واقع الحضور المسلم الأوروبي، وخدمةً للصالح العام للمجتمعات الأوروبية، مع توجيه قسط وافر من الجهود لرعاية احتياجات الأجيال الصاعدة وما تتطلّبه من مشروعات وبرامج وجهود حثيثة.
وأعرب المجلس عن أسفه لبعض حالات الانتقاص من الحقوق الأساسية والحرِّيات الدينية والشخصية، في عدد من الدول الأوروبية، مبديًا قلقه لارتفاع أصوات الكراهية والتحريض ضد الإسلام والمسلمين، والتي تغذِّي ثقافة التعصّب وتضرّ بثقافة المجتمع وانسجامه ولا تخدم مصالح أيّ بلد كان. وندد المجلس بممارسات العنف والتطرّف بشتى صورها، وأعرب عن استنكاره الشديد لحوادث التفجير الآثمة التي شهدتها العاصمة السويدية استوكهولم مؤخرًا، أو أي محاولة لزعزعة الاستقرار أو سفك دماء الآمنين أو ترويعهم؛ مشيدًا بالأداء الحكيم والتصرّف المسؤول الذي أبدته الحكومة السويدية في تعاملها مع هذا الحدث المروِّع[57].
والحقيقة أن الجمع بين هذه النشاطات والتصريحات بأسرها يُعتبر أمرًا هامًا لأن المطالبة بالحقوق هي في حدّ ذاتها معلمٌ راسخٌ من معالم الثقافة السائدة في الغرب وأوروبا خصوصًا، حيث تسود الحركات الاحتجاجية في المجتمعات بشكلٍ متكرر للمطالب بحقوق شرائح اجتماعية مختلفة وفي جميع المجالات. ولاينفع المسلمين في أوروبا ولاغيرها الظهور بمظهر الاستكانة والرضا الكامل بكل مايُمارس في حقهم من تجاوزات اجتماعية أو قانونية أو سياسية أو اقتصادية.
لكن من الضرورة بمكان وجود رؤية ثقافية وفكرية علمية ومنهجية تطرحها النخب الأوروبية لتحرير كثيرٍ من المواضيع ذات العلاقة على المستوى الفكري بحيث لا يقتصر النشاط والعمل على النُشطاء والحركيين.ومن هذا مثلًا عملية الاجتهاد الجماعي فيما يتعلق بقضايا الوجود الإسلامي في الغرب كما يفعل أحيانًا المجلس الأوروبي للإفتاء.
هذا إضافة إلى مجالات العمل البحثي والأكاديمي حتى لو قام بها أفراد. وكمثالٍ فقط على مثل هذه الجهود نرى كيف برز الدكتور طارق رمضان خلال العقد الماضي كواحد من المفكرين المسلمين الأوروبيين الذين يحاولون القيام بعملية التحرير المذكورة. لسنا هنا في معرض دراسة آراء الرجل وطروحاته، ولافي مقام رفضها أو تبنّيها، فهذا أمرٌ يحتاج لدراسات مطولة. لكننا نعتقد أن جهوده تمثل خطوة على طريق صياغة هوية إسلامية متوازنة في أوروبا. غير أن هذا الأمر لايخلو من صعوبات، حيث تتراوح آراء المؤسسات الغربية والإسلامية وحتى الأفراد من الطرفين بعطائه بين الترحيب والاتهام[58].
ولا يجب أن تفوتنا هنا الإشارة إلى مشاريع عملية تتمحور حول الفعاليات الثقافية وتمارس عملية الحوار والتعارف عمليًا من خلال نشاطاتها. ومايلفت النظر أكثر أنها قامت وتستمر على جهود نساءٍ أوروبيات مسلمات من البوسنة من خلال مشروع مركز لدعم المرأة اسمه (نحلة)[59]. إذ يدرك فريق العمل أن الهدف النهائي هو خدمة أبناء المجتمع بكل مكوناته الثقافية والدينية، لهذا تجد أن الخدمات التي يقدّمها المركز شاملة بدرجة مدروسة. وهي خدمات تتضمن تعليم اللغات والمهارات، وتقديم الاستشارات النفسية والعائلية والتربوية والصحية، وتقديم تعاليم الدين الإسلامي وعلومه بطريقةٍ وسطية، وإقامة الدورات التدريبية لتأهيل النساء لكل مايستطعن القيام به، من إنشاء مشاريع صغيرة إلى إتقان بعض الحرف اليدوية إلى ممارسة الهوايات مرورًا بفنون تطوير الذات على أنواعها، ثم إقامة المؤتمرات وورش العمل وندوات الحوار حول كل ما يهم المجتمع من قضايا ومسائل، إضافة إلى إقامة الأمسيات الشعرية والمعارض والرحلات والنشاطات المشتركة المتعلقة بخدمة المجتمع والحفاظ على البيئة وتنمية روح المبادرة والتطوع والعمل العام. هذا فضلًا عن وجود مكتبة وقاعة رياضية ومختبر للحاسب الآلي وصالون تجميل. لكن مايجدر الانتباه إليه مرةً أخرى أنه مركز يستفيد منه آلاف النساء، ليس فقط من أفراد الجالية المسلمة في البوسنة والهرسك، وإنما من جميع سكان الدولة بمن فيهم الصرب والكروات دون أي تمييز. وهو ما جعل المركز رمزًا للتعايش في واقعٍ يعرف الجميع درجة حساسيته فيما يتعلق بهذه المسألة.
كما أن على العالم الإسلامي أن يسهم بشكلٍ فعال ومدروس في مجال تقديم المساعدة للمسلمين في أوروبا، وكمثال على هذا تأتي الدورة التي أقامتها لجنة التعريف بالإسلام في الكويت لتأهيل وإعداد الدعاة في أوكرانيا بداية هذا العام، بالتنسيق مع التجمع الأوروبي للعلماء والدعاة وشارك فيها أكثر من 100 إمام وداعية[60].
فوجود المؤهلين من قادة الجالية على المستوى الدعوي والفكري والثقافي يُعتبر مقدمةً أساسية من مقدمات صياغة أنماط استجابة صحيحة لتحديات المسلمين في أوروبا، وهو أمرٌ ينطبق على مسلمي أميركا كما سنرى في الصفحات التالية.
والملاحظ في هذا الإطار أن عنصرين يغلبان على الجالية الإسلامية في أميركا منذ البدايات، ونوردهما لعلاقتهما بمسألة التحديات والاستجابة في العلاقة مع الغرب. فالغالبية العظمى من أعداد المهاجرين إلى أميركا تنحدر من الطبقات المتعلمة والوسطى أو الطلبة في العالم الإسلامي، بعكس وضع الجالية الإسلامية في أوروبا. أما العنصر الآخر فإنه يتمثل في أن الجالية عملت منذ البدايات على تشكيل منظمات تجمع صوتها وتحفظ حقوقها. وربما جاء هذا انسجامًا مع طبيعة المجتمع الأميركي المؤلف ابتداءً من مهاجرين من جميع أنحاء الدنيا وتشيع فيه كثيرًا ظاهرة تشكيل منظمات تحفظ حقوق تلك الأقليات.
ورغم أن هذه العناصر ساعدت على اندماج أبناء الجالية على المستوى الفردي في المجتمع الأميركي منذ البداية، بل وتحقيق كثيرٍ من النجاحات الشخصية فيه. ورغم جهود القيادات الواعية التي أسست أغلب المنظمات والمؤسسات، إلا أن الخلفية الثقافية تحديدًا للمهاجرين، والتي جاؤوا بها من بلادهم الإسلامية أعاقت صياغة علاقة إيجابية متقدمة مع المجتمع الأميركي في تلك الفترة.
والمفارقة أن التركيز البالغ في الاهتمام بقضايا العالم الإسلامي داخل أوساط الجالية في مقابل الزهد الكبير في التعرض للقضايا الداخلية كان عنصرًا رئيسًا في سلبية العلاقة مع المجتمع الأمريكي على صعيد العمل العام. ثم إن هناك فرقًا ملحوظًا في التوجهات وبالتالي في الممارسات في أوساط الجالية فيما يتعلق بمسائل العلاقة مع المجتمع الأميركي. ففي حين غلبت على المنظمات الكبرى درجة من الانفتاح الفكري والفقهي، كانت الغالبية العظمى من المؤسسات الصغيرة غارقة في العزلة والتقليد. والمشكلة أن هذه المؤسسات انتشرت بشكلٍ كبير في أنحاء القارة الأميركية، بحيث باتت وبات تأثيرها السلبي يشكل جزءًا كبيرًا من صورة العلاقة مع المجتمع الأميركي إلى ماقبل أحداث سبتمبر من عام 2001م.
ويبدو من دراسة الظاهرة أن الجالية بقيت، ولاتزال في بعض المواقع، مطبوعةً إلى درجةٍ كبيرة بعقلية وطرق تفكير وعمل جيل المهاجرين الأول الذي بدأ ببناء تلك المؤسسات منذ ثلاثة عقود أو ينيف. فكثيرٌ من أولئك الأفراد الذين كانوا في ربيع العمر عند البدايات لايزالون يصرّون على البقاء في مواقع القيادة وهم في مراحل الخريف. لانريد التعميم هنا بشكلٍ كامل، فبعض القيادات التاريخية تمتلك وعيًا بطبيعة الواقع الأميركي وتركيبة منظوماته أكثر من غيرها بكثير، لكن هؤلاء يشكلون الأقلية في أحسن الأحوال.
ورغم أن بعض هؤلاء قام بتربية جيلٍ من القادة الذين وُلدوا في أمريكا أو هاجروا إليها صغارًا. وهم قادةٌ يُفترض أنهم أقدر على فهم المنظومة الأمريكية والعقدة، وعلى التعامل معها بلغتها واستعمال أدواتها بمهارة. غير أن غالبية أفراد هذه الشريحة تأثروا فيما يبدو بسلبيات طريقة التفكير التي حملها أساتذتهم من المشرق. أو أنهم على الأقل باتوا مع المعايشة الطويلة للأساتذة، ومع شعورهم المبالغ فيه بالاحترام والتبجيل لهم، محدودين بمحدودية معلّميهم، الذين كان منطلق حركتهم الحماس والإخلاص والتجربة، ومحاولة التعلم بشكل ذاتي من خلال الذكاء الفردي، ودرجة المعرفة والاطلاع التي يسمح بها وقت الإنسان الحركي وطبيعته.
من هنا، يمكن فهم القصور الكبير الموجود حاليًا في الجالية على الأقل في ثلاثة مجالات. مجال التخطيط الاستراتيجي لحاضر الجالية ومستقبلها على أسسٍ علميةٍ مؤسسيةٍ تخصصية. ومجال الشباب والأجيال الجديدة. ومجال المرجعية الثقافية والدينية.
فاستعراض واقع كثيرٍ من المؤسسات العاملة في الجالية يُظهر أنها تُدار بعقلية ردود الأفعال على المستجدات والطوارئ والحاجات المُفاجِئة، أو التي يَظهر للبعض أنها مُفاجِئة، في حين كان يمكن توقّعُها لو وُجد من يخطط للجالية بشكل منهجي من خلال خبرةٍ بعلوم الأقليات وتاريخها ومراحلها ومؤسساتها، وعلوم إدارة المنظمات وخاصةً الخيرية منها. وعلوم الاجتماع والاتصال البشري التي توفر بمجملها رؤيةً شمولية ومعرفةً أكثر دقةً بواقع الجالية، وبأساليب التعامل مع ذلك الواقع.
ولكن، أنى لهذا أن يحصل والجالية تكاد تفتقر إلى متخصصين في أي من تلك العلوم؟ وإذا وجد بعض هؤلاء فهم قلائل جدًا وفي حقلٍ أو حقلين من حقول المعرفة الضرورية لتطوير الجالية. وكيف يمكن إحداث النقلة التي نتحدث عنها وقيادات الجالية من صانعي القرار لايزالون في أغلبهم مزيجًا من الأطباء الأثرياء ورجال الأعمال؟![61]
نحن لانتحدث هنا عن مشكلة وجود (الإخلاص) وإنما عن إشكالية الافتقار للصواب في الرؤية وفي العمل والتخطيط والإدارة. فحجم ونوعية المهمات والوظائف التي يجب الإحاطة بها لخدمة وتطوير جاليةٍ ظهر جيلها الثالث إلى الوجود وباتت تُعدُّ بالملايين. يختلف جذريًا عن حجم ونوعية المهمات والوظائف التي كانت تحتاجها جاليةٌ ناشئة تُعدُّ بالآلاف وتبحث عن نادٍ يجمعها هنا أو مسجدٍ يحافظ على هويتها هناك. والاعتقاد بأن تلك الفئة من القيادات التي أدركت أولويات المرحلة الأولى وأنشأت مؤسساتها، تستطيع أن تُدرك أولويات هذه المرحلة وتُنشأ مؤسساتها وتديرها هو أبعد مايكون عن التفكير العلمي والمنهجي، بل عن أسس التفكير المنطقي السليم.
أما إشكاليات الشباب وإمكانية الانقطاع الممكن بين الأجيال فيمكن أن تتحدّثَ عنه بلا حرج حين تلتقي بالناشئة من الأجيال الجديدة وتسمع آراءهم ومواقفهم السلبية ليس فقط من الجالية ومؤسساتها وقادتها ومشاريعها، بل ومن الهوية والدين والثقافة الذاتية. والواضح أن جيل القادة المهاجرين والجيل الثاني الذي قاموا بتربيته لم ينتبهوا إلى التحوّل الثقافي الجذري الذي أحدثته ثورة الاتصالات والمعلومات خلال العقد الماضي. وهي ثورةٌ يعايشها الجيلان الأول والثاني من الهوامش والأطراف ويعرفون بعض مظاهرها. في حين يعايشها أبناؤهم وبناتهم إلى الجذور والأعماق، وبدرجةٍ تتشكّلُ معها في دهاليز عقولهم وقلوبهم قيمٌ وتقاليدُ وقدوات وطرق تفكير وحياة لايعرف عنها الآباء والأجداد سوى القليل.
لهذا، تصيغ المؤسسات الحالية في الجالية خطابًا يرفضه الأبناء في دواخلهم، ويتصّنعُ بعضهم بالاستماع إليه مجاراةً وحرجًا إلى حين.. كما أنها تُنتج مشاريع وبرامج لاتلقى من الأبناء سوى الإعراض والشكوى والتذمر. لأنها لاتستجيب لما يعتقد الآباء أنه حاجات الأبناء، وإنما لتلك الحاجات التي كانت لديهم هم في تلك المرحلة من العمر، وقبل حدوث ثورة الاتصالات والمعلومات[62].
لقد كان البعض يعتقد أن مستقبل الجالية العربية والمسلمة في أمريكا يعتمد على التحولات الفكرية التي سيشهدها أبناء الجيل الثاني من أفراد الجالية، وبالتالي طرق تفكير وحياة هؤلاء. لكن الواضح الآن أن تحولات الجيل الثالث هي التي ستقرر إلى حدٍ بعيد مستقبل تلك الجالية. فالجيل الثاني، الذي انخرط في العمل العام منذ بداية التسعينيات الميلادية الماضية، أفلح في استمرارية المؤسسات التي أنشأها الجيل الأول أو جيل المهاجرين. وهي استمراريةٌ من نوعٍ خاص اختلط فيها التقدم والتطوير في بعض المجالات بالإخفاق والتراجع في مجالات أخرى.
غير أن أدوات ووسائل الجيلين لم تكن مهيئةً للتعامل مع عالم ما بعد أحداث سبتمبر. خاصةً في الداخل الأمريكي. والمفارقة أن وعي الجيل الثالث بدأ يتكون بعد تلك الأحداث. والمفارقة الثانية أن ذلك الوعي تكوّنَ من خلال التعامل اليومي اللصيق والمباشر للجيل مع كل مفردات ثورة المعلومات والاتصالات التي مابرحت تتالى وتتسارع بشكل غير مسبوق نوعيًا وكميًا في السنوات الأخيرة.
من هنا فَتحت الأوضاع القانونية والسياسية والاجتماعية المستجدة في الساحة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر الباب واسعًا أمام تساؤلاتٍ هائلة طرحت نفسها على الجيل الثالث. بعضها يتعلق بتفاصيل الهوية العربية والإسلامية للجالية وطبيعة الممارسات الفكرية والعملية التي تعبّر عنها داخل أمريكا. وبعضها الآخر يتعلق بالحاجات الكبرى التي استجدّت فجأةً خلال السنوات الماضية، مع الظروف والقوانين والتقاليد والأعراف الإعلامية والثقافية والاجتماعية الجديدة التي أصبحت تُحيط بالوجود العربي والإسلامي في الولايات المتحدة.
فقد رفعت تلك التغيرات حجم التحدي أمام مؤسسات الجالية وقياداتها. وفي حين أن الجيل الثالث بدأ يشعر أكثر من غيره بحجم التحدي لأنه يعيشه ويلامسه مباشرةً في المدرسة والحي والسوق والنادي إلا أنه ليس في موقع صناعة القرار. وبالتالي فقد كان يَنتظرُ من تلك المؤسسات والقيادات أن تطرح الحلول والبرامج القادرة على التعامل مع التحدي. وهو مالم تستطع القيام به لأن مجمل ثقافتها وأساليبها كانت مصممةً للتعامل مع أمريكا كما كانت ما قبل أحداث سبتمبر.
قد يقول قائل أن بعض القيادات التاريخية تشعر بحجم التهديد والتحدي الذي تمثله الأوضاع الجديدة، وهذا صحيح. لكن مايغيب عن الأذهان هو أن طبيعة وحجم الشعور بالتحدي وطريقة الاستجابة له عمليًا تختلف بين إنسانين أحدهما جاوز الستين من العمر وآخر لم يبلغ العشرين.. ففي حين يغلب على الأول القلق الفكري والذهني على مستقبل الجالية، يشعر الثاني بأن الأمر يتعلق بوجوده وحياته ومستقبله الشخصي المباشر، وفي كل تفصيلٍ من تفاصيل الحياة.
لهذا، تُصبح الخيارات الشخصية أمام أفراد الجيل الثالث صعبةً ومعقدةً جدًا. وغالبًا ما يجد نفسه مضطرًا لاتخاذها فرديًا في غياب منظومةٍ مؤسساتيةٍ محترفة تساعده على ذلك. وبالتالي تتفاوت الخيارات من أقصى اليمين لأقصى اليسار في جميع مجالات الحياة[63]. وما لم تتدارك مؤسسات الجالية الأمر من خلال عملية انفتاحٍ ثوريةٍ على هموم الجيل الثالث، ومن خلال تواصلٍ كثيفٍ ومباشر معه، ومن خلال إشراكه في صناعة القرار بالطريقة المناسبة. فإن حجم الانقطاع الذي سيظهر فجأةً بين هذا الجيل ومَنْ سَبَقهُ سيكون مفاجئًا حتى لأكثر الناس تفاؤلًا أو اعتقادًا بأنهم يسيطرون على مجريات الأمور.
وفي هذا الإطار، فإن مصدر الخطر على مستقبل الجالية قد يتمثل في افتقار قيادات الجالية في مواقعها المختلفة للقدرة على تشكيل إطارٍ مرجعي ثقافي وديني جامع، يستجيب لحاجاتها المتغيرة والمتجددة في مجال الهوية، ويُفعّلُ وجودها على المستوى الحضاري داخل أمريكا. ينطبق هذا على الجالية بشكلٍ عام لكنه ينطبق على الشباب بدرجةٍ أكبر. وهو خطرٌ إما أن ينتج عنه فقدان المرجعية ثم الهوية والانتماء تدريجيًا، أو وجودُ مرجعيات متضاربة تُسببُ انقسامات كبرى في كل مجال. الأمر الذي يمكن أن يؤدي لاختفاء أي تأثير إيجابي ممكن للجالية.
وأخيرًا، فإننا لسنا هنا في معرض الانتقاص من الجهود والتضحيات الهائلة التي قامت بها قيادات الجيل الأول للجالية العربية والإسلامية في أمريكا. وهي جهودٌ يجب القيام بتسجيلها للتاريخ وبدراستها. خاصةً وأنها جهودٌ لم يكن للجالية أن توجد أو تستمر بدونها. فقصصُ البذل والجهد والعمل والتضحية الجسدية والنفسية والمادية التي صَبغت بدايات بعض شرائح الجالية في أغلب الولايات الأمريكية هي أقرب ماتكون لتلك القصص والمواقف الإنسانية النادرة التي حصلت في التاريخ العرب والمسلمين، والتي تكون مُفعمةً بالشعور بالمسؤولية العامة، وبروح المبادرة والبذل، وبإعطاء الأولوية لمصلحة الجماعة وتغليبها على المصالح الفردية.
لكن التحليل السابق لاينفي أن الجالية المسلمة في أميركا تشهد تطورًا نوعيًا يشابه إن لم يكن يسبق ذلك الذي تشهده الجالية في أوروبا. وهو تطورٌ يعبّر عن نفسه في كل مجال، ويقدم أنماطًا مبتكرة وفعالة للتعامل مع التحديات التي تواجهها الجالية. ولايمكن في هذا المقام سوى الإشارة إلى أمثلة منها للوقوف على دلالاتها ومعانيها.
فقد بادرت مراكز إسلامية كبرى مثل المركز الإسلامي لجنوب كاليفورنيا إلى الحديث مبكرًا عن هوية الإنسان (المسلم الأميركي)، وهي هوية لا تناقض فيها بين انتماء المسلم للإسلام كدين ولأمريكا كوطن. من هنا، كان هذا المركز من أوائل المراكز التي فتحت المجال في أنشطتها وإدارتها لجميع المسلمين، وبادر إلى اعتماد الإنجليزية كلغة رسمية، دون أن يعني هذا عدم الاهتمام بالعربية في مؤسساته التعليمية والدعوية. كما أنه كان من المبادرين إلى فتح حوارات مع أهل الأديان الأخرى وخاصة الأديان الإبراهيمية للتعاون على مافيه مصلحة البلاد وإنسانها. وفي حين كانت غالبية الجالية ومعها المساجد والمراكز منغلقة على نفسها في السابق، أصبح الانفتاح على شرائح المجتمع الأميركي منهجًا لمعظمها الآن.
وفي معرض نموّ الوعي الثقافي أدرك أبناء الجالية ضرورة بناء مؤسسات اجتماعية وسياسية وإعلامية تساعدهم على صياغة أنماط تفاعل صحيّة مع المجتمع الأميركي وأنماط استجابة فعالة للتحديات التي تواجههم فيه. وكان من أكبر هذه المنظمات منظمة (كير / CAIR) أو(مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية)، فرغم أن طبيعة عملها بشكل عام له صبغة سياسية، غير أن كثيرًا من نشاطاتها تُعتبر ثقافية بحتة، وهو ماقد يعبر عن أهمية “الثقافي”، وضرورة التعامل معه كمنطلق لتصحيح العلاقة مع المجتمع الذي تعيش فيه الجالية.
وكان من أمثلة هذا إطلاق حملة منذ سبتمبر عام 2002م لتزويد 16200 مكتبة أمريكية عامة بمجموعة مختارة من 18 كتاب وشريط تعليمي موضوعي عن الإسلام والمسلمين، وحملة لتوفير نسخ مجانية من الترجمة الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم للأمريكيين الراغبين في قراءة القرآن. أما أثناء أزمة الرسوم الدانمركية والفيلم الهولندي فقد أطلقت المنظمة حملة لتزويد الأمريكيين والكنديين بكتب وأشرطة وثائقية تتناول حياة وتعاليم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بصورة موضوعية، كما بنت موقعًا إلكترونيا خاصا بالحملة والتي تسمى “تعرف على حياة محمد (ص)”[64]. أما حين انتشرت قصة محاولة إحراق المصحف الشريف بمناسبة مرور ذكرى الحادي عشر من سبتمبر. فقد عملت على توزيع مليون نسخة من القرآن الكريم ضمن حملتها (اكتشف القرآن).
إن مثل هذه الممارسات تنسجم بشكلٍ كبير مع الثقافة السائدة في أميركا عند التعامل مع هذه القضايا. وهي ممارسات تقوم بها كثيرٌ من المؤسسات الأخرى على أكثر من صعيد. وانطلاقًا من إدراك أهمية “الثقافي” أيضًا، تقوم مثلًا منظمة (إمباك / MPAC[65]) أو (مجلس الشؤون العامة للمسلمين) منذ سنوات بإقامة حفلٍ ضخمٍ سنوي في مدينة لوس أنجلوس الأميركية وعلى بعد أميال قليلة من (هوليوود)، يهدف لتكريم شخصية فنية أو سينمائية ساهمت بشكلٍ فعال في جهود التعارف بين الأميركان المسلمين وغير المسلمين أو في الدفاع عن حقوق الأقليات في أميركا بشكلٍ عام وعن المسلمين بشكلٍ خاص.
لاتغفل الجالية أيضًا عن أهمية مسألة التعليم بجميع مستوياته. فمن النشاطات التي يقوم بها مثلًا المعهد العالمي للفكر الإسلامي[66] إنشاء كراسي دراسات إسلامية في بعض أهم الجامعات الأميركية لضمان تحقيق عملية التعليم عن الإسلام والمسلمين في مثل هذه المؤسسات من قبل علماء مختصين ومؤهلين. هذا فضلًا عن إنشاء معهد فيرفاكس الذي يقدم دروسًا ودورات متخصصة للطلبة والأكاديميين بالإضافة إلى المتخصصين في الحكومة وصناع القرار ورجال الأعمال وكل من يرغب في تزويد حصيلته العلمية. وبحيث تساعد الدروس في زيادة معرفة الطالب وخاصة في مجالات القوانين الإسلامية وحضارة وتقاليد المسلمين التي تعتبر أساسية في هذا الزمن لفهم الأحداث المعاصرة[67]. أضافة إلى رعاية (جمعية علماء الاجتماع المسلمين في أميركا الشمالية). كل هذا بغرض ترسيخ العمق الفكري والأكاديمي والبحثي الذي يُعتبر أساسيًا في عمليات صياغة أنماط الاستجابة مع التحديات التي تواجهها الجالية.
وتحاول الجالية الحفاظ على التوازنات في تعاملها مع المجتمع الأميركي فيما يبدو كمحاولة لاستحضار ماتحدثنا عنه سابقًا من الصراعات الذاتية التي يعانيها بخصوص مسألة الهوية. فقد تم تغيير الاسم من (قرطبة) إلى (بارك51)، وذلك تجنبًا لاتهامات اليمينيين بأن اختيار الاسم الأول مقصود وفيه دلالة على عودة المسلمين إلى الغرب بعد طردهم من إسبانيا منذ قرون. كما عينت المنظمة المشرفة على المسجد مسؤولًا جديدًا على المشروع بدلًا من المسؤول السابق الذي أثار بعض التحفظات في تصريحاته رغم كل محاولاته للتعامل مع الموضوع بشكلٍ حكيم. وقالت المنظمة في بيانٍ وضع على موقعها على الإنترنت: إنّها عينت الإمام عبد الله أدهمي بدلًا من الإمام فيصل عبد الرءوف الذي يقف وراء هذا المشروع”. وأوضحت المنظمة أنّ أدهمي أمريكي مسلم مولود في واشنطن ويعمل منذ عشرين عامًا في خدمة الإسلام في الولايات المتحدة، وهو مهندس معماري تخرج من معهد برات في بروكلين جنوب شرق نيويورك وشارك في عدد من مشاريع دمج المسلمين[68].
وتتسع نشاطات الجالية في أميركا لتشمل مجال المساعدات الإنسانية على مختلف المستويات. ففضلًا عن توزيع المساعدات والمعونات على الفقراء في المناطق المهمشة من المدن الأميركية، بادرت منظمات الجالية إلى جمع التبرعات لضحايا أحداث سبتمبر المعروفة، مرورًا بضحايا إعصار كاترينا، وصولًا إلى نماذج مبتكرة في المساعدة مثل فتح عيادة (النور) المجانية لعلاج الفقراء في شمال شرق ولاية أوهايو من قبل أطباء مسلمين يتعاونون مع منظمة تدعى (الرابطة الإسلامية الطبية). حدث هذا مع مطلع العام الماضي 2010م وهو يُعتبر امتدادًا لسلسلة مبادرات لمساعدات الأميركيين الذين لا يملكون تأمينا طبيًا قدمت منذ تأسيسها عام 1996م خدمات لأكثر من 16 ألف مريض أميركي مُحتاج بغض النظر عن دينه وعرقه[69].
وتُعتبر هذه الممارسات من أفضل أنماط الاستجابة العملية للتحديات التي تواجه المسلمين في أميركا، ليس فقط لحجم الأزمة الصحية التي يعاني منها المجتمع الأميركي حيث يعيش عشرات الملايين دون تأمين صحي، وإنما لأنها تؤكد عمليًا الشعارات النظرية التي تطلقها الجالية عن اندماجها المتوازن والفعال في المجتمع، وعن اهتمامها بقضاياه الملحة. وتظهر حساسية الممارسة حين نقرأ مثلا تصريح سعيدة ياسين، وهي إحدى الطبيبات المتطوعات في عيادة (النور): “إننا لا نريد الدعوة إلى الإسلام، فقط كل ما نريده هو أن نظهر للمجتمع أننا باعتبارنا مسلمين فإننا منتمون ومتحدون مع المجتمع الأمريكي، ونرغب في المساعدة”. فهذه الطريقة في التعبير تساهم بشكلٍ علني في تهدئة الهواجس الثقافية ذات العلاقة بهذا الموضوع.
وأخيرًا في هذا المجال، تظهر القناعة الثقافية بضرورة تحقيق الاندماج المتوازن مع شريحة لاتُستهان بها من أبناء الجيل الثالث تحديدًا، والتي باتت تشارك في جميع مفاصل وفعاليات ومجالات الحياة الأميركية. وقد التقيت العام الماضي 2010م شخصيًا في مدينة شيكاغو بالصغيرة (دانا). وهي فتاةٌ مسلمةٌ أميركية عربية الأصل لم تكد تبلغ السابعة عشرة من عمرها. رغم هذا، تُعتبر من الناشطات الواتي بدأ تأثيرهنّ يظهر في المجتمع وفي الجالية، إلى درجة أن إحدى كبريات صحف أميركا (شيكاغو تريبيون) كتبت عنها تقريرًا منشورًا بالإضافة إلى تقرير آخر مصور في القناة الخاصة بها والموجودة على صفحتها على الإنترنت. كما ورد اسمها وأخبارٌ عنها في تقرير لوكالة AP أو (الأسوشياتيد برس) نُشر في موقع Huffington Post الإخباري الواسع الانتشار.
فمنذ أكثر من سنتين، شاركت دانا وتشارك في الحملات الانتخابية للمرشحين السياسيين للمناصب المختلفة، وخدمت بمثابة قاضٍ في الانتخابات التمهيدية، وقامت بحملات توعية ومحاضرات ودورات تدريبية لتشجيع أبناء الجالية على المشاركة في العملية السياسية في مختلف مستوياتها، وشاركت في نشاطات الحوار بين أهل الأديان المختلفة، وساهمت في النشاط الطلابي الذي تقيمه الأمم المتحدة بعنوان (نموذج الأمم المتحدة) لتعريف الطلبة بقضايا الحقوق المدنية وبالشؤون الدولية وقضايا العولمة والدبلوماسية وغيرها من المواضيع. وقد أنهت خلال الصيف الماضي تدريبًا لمدة شهرين كاملين في مكتب (ماتي هنتر) السيناتورة الديمقراطية في مجلس شيوخ ولاية إلينوي، ثم أتبعتها بدورة مكثفة في التعرف على النظام القضائي الأميركي أقامتها إحدى المنظمات الحقوقية. قامت هذه الفتاة المتميزة بكل هذا وهي لم تكمل السابعة عشر من العمر! لهذا، قد لايكون غريبًا أن يتحقق حلمها الذي صرّحت به للوكالة المذكورة أعلاه قائلةً أنها “تطمح لأن تكون أول سيناتورة ترتدي الزي الإسلامي أو الحجاب”، بعد أن بررت هذا بقولها: “نحن نهتم بكل شؤون ومشكلات أميركا كما يهتم بها أي شخص آخر في هذه البلاد”.
ثمة رمزية كبيرة في عبارات الأميركية المسلمة اليافعة، وحتى لو كان الإطار العام لنشاطها سياسيًا، إلا أن من الواضح أن الشأن الثقافي يلعب دورًا كبيرًا ولايُخفي نفسه وراء الظاهرة السياسية هذه المرة. وكما يقول الدكتور لؤي صافي: “الجاليات الإسلامية المتنامية عددًا وقوة يمكن أن تشكل جسرًا بين الغرب والشرق، يمنع تزايد البون بين العالمين الإسلامي والغربي، وتحول دون الخطط الرامية إلى تأجيج الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني. لكن ذلك مرهون بقدرة القوى الإسلامية في العالم الإسلامي والغربي على تقديم رؤية حضارية، ومشروعٍ إنساني لايكتفي بالدفاع عن حقوق المسلمين، بل يعمل على نصرة الإنسان بغض النظر عن هويته ودينه، وتقديم الحلول للمشكلات الإنسانية المتزايدة”[70].
وقد يكون من المفارقات في إطار أنماط استجابة الجالية المسلمة في الغرب أن يطلب الأوربيون من المسؤولين الأميركان الاستعانة بتجربة (الاندماج) الإسلامي في أميركا. حيث قام مندوبون عن منظمة (إمباك) مثلًا باستقبال وإرسال مندوبين إلى كل من بلجيكا وإنجلترا لشرح وتبيان ومناقشة مختلف جوانب تجربة الوجود العربي والإسلامي في أميركا. وذلك بالتنسيق مع ممثلين رسميين وشعبيين من هذين البلدين. وقد عرض لي السيد (سلام المراياتي) مدير المنظمة المذكورة أمثلة يصعب إيرادها في هذا المقام توضح مدى التفاعل الذي وجدته المنظمة أثناء عملها في النشاط المذكور. حيث انتبه المسؤولون والنشطاء الأوروبيون المشاركون إلى جوانب من التجربة كانت غائبة عنهم إلى درجة كبيرة. لكن الدرس الأكبر الذي وصل إليه الجميع تمحور حول الأهمية القصوى لإشراك أصحاب العلاقة، العرب والمسلمين، فيما يتعلق بكل السياسات والقوانين والأنظمة والممارسات والأنشطة التي تؤثر في طبيعة وجود هذه الجماعة البشرية الضخمة في أمريكا. إذ ظهر جليًا من خلال الحوار والدراسة أن أي جانب من جوانب نجاح التجربة كان يتضمن مشاركة ممثلي الجالية بشكل أو بآخر. في حين كان غيابهم، على الدوام ومن دون استثناء، سببًا للإخفاق والفشل في صياغة عملية الاندماج بشكلها الإيجابي الذي يحمل فائدة مشتركة للجميع.
إن النشاط المذكور وغيره من الأنشطة المماثلة يثبت إمكانية تحقيق معادلة يحسب البعض أنها صعبة، بل ربما مستحيلة التحقيق. وهي المعادلة التي تجمع بين تعديل وتصحيح صورة الغرب ومنظومتها في العالم العربي والإسلامي، وبين تحقيق مصالح الوجود العربي والإسلامي في أمريكا. وهي معادلة متقدمة على طريق وجود علاقة إيجابية وفعالة مع الغرب تخدم مصالح الإنسانية جمعاء.

خاتمة

قد يكون ثمة خيرٌ في تبلور أنماط التحدي في وقائع يظهر بُعدها الثقافي بوضوح وجلاء وسهولة، لأن هذا يسمح للإنسان بأن يتعرف بشكلٍ مباشر على أسباب تلك التحديات ويدرك جذورها ومنطلقاتها الأصلية بدلًا من استغراقه في الأعراض الخارجية. وبالتالي قد تساعد هذه الخطوة على التعامل مع تلك التحديات بفعاليةٍ أكبر. ولئن كان هذا مطلوبًا من الإنسان في الفضاءين الحضاريين الذين نتكلم عنهما، فإن ثمة مسؤولية خاصة بالإنسان المسلم في هذا المجال لابد من التأكيد عليها.
“فقد حاول فريق المحافظين الجدد مثلًا كما ذكرنا استخدام كبسولة الحادي عشر من سبتمبر كأسلوب أمثل لكي تصبح هيكلا يسير تاريخ البشرية داخل إطاره، وبشكل يجري فيه تدريجيا ترسيخ أركان الرؤية المركزية الإستراتيجية اليمينية على أرض الواقع داخل أميركا وفي أرجاء العالم بأسره. حصل هذا من خلال استخدام “السياسي” و”العسكري” و”القانوني” ووضعها جميعًا واجهةً لصورة العلاقات العالمية.
ولكن هل معنى هذا أن ذلك التصور صار بالضرورة قدرا لا يمكن للبشرية الفكاك منه؟ إطلاقًا، بل وربما على العكس من ذلك، لأن التصور يحمل في أحشائه بذور دماره على المدى البعيد إذا استصحبنا في قراءتنا الإستراتيجية سنن وقوانين الاجتماع البشري على هذه الأرض.
لكن التحدي الذي يشكله هؤلاء في وجه البشرية جمعاء، بمن فيهم العرب والمسلمون والأوروبيون والشعب الأميركي نفسه، يبقى دون شك واحدا من أكبر التحديات التي واجهتها الإنسانية في تاريخها الطويل. والتعامل مع هذا التحدي المبني على التخطيط (وليس المؤامرة) يحتاج إلى تخطيط إستراتيجي مقابل يتجاوز الدائرة العربية والإسلامية، ويتجاوز كل ما يجري الحديث عنه من وسائل وأساليب تقليدية.
لا يمكن هنا بأي حال إغفال ضرورة حصول واستمرار المراجعات الكبرى لجميع مستويات وأنواع الخطاب الثقافي والسياسي والإعلامي السائدة داخليا في العالم العربي والإسلامي، لأن هذا العامل يعتبر شرطا لازما لا يمكن دون تحقيقه التقدم خطوة واحدة في مواجهة التحدي المذكور. غير أن المطلوب أيضا هو بناء تحالفات حضارية كبرى لا تقف عند بعض التحالفات السياسية التي تهدف إلى تحقيق توازنات معينة آنية وعرضة للتغيير السريع مع أي تغيير في الظروف والمعطيات.
لقد عولم اليمين الأميركي أزمة أميركا الحضارية، ولا يمكن مواجهة هذا التحدي إلا من خلال عولمةٍ حضارية إنسانية لا يستطيع العرب والمسلمون إلا أن يكونوا في قلبها الفاعل على جميع المستويات”[71]. حضارةٍ يلعب العامل الثقافي دورًا أساسيًا لها في جميع الأحوال.
وختاما، فإن من الواضح أن مايُراد لها أن تكون أنماط استجابة إيجابية على طريق الوصول إلى تعامل متوازن مع الغرب تصبح بذاتها أحيانًا نوعًا من أنواع التحدي، وبدلًا من أن تساعد الأمة على تحقيق مصالحها ومصالح البشرية، فإنها تنقلب جزءًا من المشكلة يزيد دوائر الأزمات اتساعًا وعمقًا. لهذا، فإننا مدعوون مرةً أخرى إلى قراءة ثقافتنا الذاتية قراءة نقدية لأن مانملك التحكم به في عملية التفاعل مع الغرب يتمثل في نهاية المطاف في خياراتنا ومواقفنا وممارساتنا العملية. وهذه بدورها تنبثق من ثقافتنا ومن عناصر رؤيتنا المعرفية وطريقة فهمنا للإسلام وللواقع البشري، ولكيفية تنزيل الأول على الثاني. من هنا، يأتي تركيز هذه الدراسة بشكلٍ واضح على النقد الذاتي فيما يتعلق بأنماط التحديات والاستجابة على حدٍ سواء، ورغم الإشارة إلى بعض الإشكاليات الكبرى الموجودة في الغرب إن ذاتيًا أو في إطار العلاقة مع المسلمين والإسلام، وهذا أمرٌ يجب العمل على فهمه وبحثه باستمرار، لكن الساحة الرئيسة للعمل تكمن في تصحيح ثقافتنا ورؤيتنا الحضارية، الأمر الذي سيُولّد أنماط استجابة فعالة لكل التحديات التي تنبع من تلك الإشكاليات.
*****

الهوامش:

[1] Earthwalk, Philip Slater, Garden City, New York: Anchor Books, 1974.
[2] نستخدم في هذا البحث على سبيل الاختصار مفهوم “الثقافي” للدلالة على مجموعة من العناصر التي تشكل العوامل الثقافية الكامنة وراء كثير من الأحداث والوقائع والظواهر. وهي تشمل “الدين، والفكر، والخطابات والحوارات، والانتماءات والهويات والمرجعيات، وأصول التكوين السياسي والاجتماعي وأسس بناء العلاقات بين البشر في داخل الأوطان وعبر العالم، ومايرافق هذا من تشييد المؤسسات، ونشاطات فكرية وثقافية من ندوات ومؤتمرات وإصدارات مقروءة ومسموعة ومرئية، وحركة الإعلام والاتصال المنفتحة على أقصاها، ودور المراكز الثقافية عبر الدول والأمم..إلخ” وهو تعريف من تعريفات “الثقافة” طرحه مركز الحضارة كتعريف شمولي للمصطلح ونوافق عليه بشكل عام.
[3] يتحدث الباحث الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه (القبيلة والقبائلية أو هويات مابعد الحداثة) (2009، ص8) عن وجود صورتين ثقافيتين متضاربتين تمثلان سويًا سمة بارزة من سمات المرحلة الراهنة، تتعلق أولاهما بالبروز القوي للهويات العرقية والطائفية والمذهبية بصورة عنيفة تبدو أقوى مما كانت عليه في مرحلة كمونها المؤقتة في الفترات الماضية، وتتعلق الثانية بافتراضٍ يقبله الناس بأننا في زمن العقلانية والعلم والانفتاح الكوني، مع تأكيده على أن اجتماع الظاهرتين (المتناقضتين) معًا يخلق معضلة معرفية وبحثية، خاصة حين يحدث هذا في بيئة مثل البيئة الأوروبية.
[4] المقصود بـ “السياسي” في هذا المقام هو التركيز المبالغ فيه في أوساط الأمة على الشأن السياسي خاصة فيما يتعلق بالسلطة والحكم. ورغم أهمية هذا العنصر إلا أننا نعتقد أنه إفرازٌ في نهاية المطاف لثقافة المجتمع وقوته المعنوية والمادية، وبالتالي قدرته على خلق ظروف موضوعية يتولد منها في الوقت المناسب نظام الحكم الرشيد الذي يبحث عنه. وهو مايعيدنا إلى أولوية الحالة الثقافية التي نتحدث عنها ودورها الحاسم في عمليات الإصلاح والتغيير.
[5] يطرح الدكتور عبد الحميد أبو سليمان هذه الرؤية بشكلٍ متكرر في معرض الحديث عن نشوء الدولة القومية، ومنها إشارته إليها في كتابه بعنوان (العنف وإدارة لصراع السياسي. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 2001م) ص: 98.
[6] (Ethnic Politics. Milton J. Esman, Cornell University Press, 1994). ص:198 – 205.
[7] انظر: تقرير بعنوان (أوروبا الإسلامية: قنبلة ديمغرافية زمنية تُحوّل قارتنا) للكاتب أيدريام مايكلز بتاريخ 8 أغسطس عام 2009 في صحيفة (التلغراف) البريطانية.
[8] انظر مثلا مجمل كتابات الدكتور عبد الوهاب المسيري عن مصطلح (الترشيد)، ومنها الإشارة إلى الإنسان ذو البعد الواحد (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، دار الشروق، 2008، ص 144).
[9] (الثقافة التلفزيونية: سقوط النخبة وبروز الشعبي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2005)، ص: 155 – 159.
[10] (مستقبل الإسلام في الغرب والشرق، مراد هوفمان، عبد المجيد الشرفي، دار الفكر، 2008)، ص: 164.
[11] (الإسلام الأوروبي: صراع الهوية والاندماج، مجموعة مؤلفين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2010)، ص: 94.
[12] انظر صحيفة The Brussels Journal، تقرير بعنوان “Crisis in Belgium: If Flanders Secedes Wallonia Disintegrates”. بتاريخ 9/9/2007.
[13] مرجع سابق: تقرير بعنوان (أوروبا الإسلامية: قنبلة ديمغرافية زمنية تُحوّل قارتنا).
[14] خبر من وكالات الأنباء العالمية. انظر مثلا: (جريدة الشروق الجديد، 12 سبتمبر، 2010).
[15] (مختارات من الفكر الأميركي، تحرير دايان رافيتش، دار الفارس للنشر والتوزيع، 1998). ص: 26 – 27.
[16] (البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي – الصهيوني، يوسف الحسن، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990). ص: 63 – 73.
[17] (كيف عولم اليمين المحافظ أزمة أمريكا). وائل مرزا، الجزيرة نت، 20/9/2006.
[18] انظر مثلا: (عالم بات روبرتسون، محمد السماك، الكتب وجهات نظر، مارس، 2008). وبات روبرتسون هو قسٌ من كبار رموز التيار الديني اليميني المتطرف في أميركا.
[19] مقابلة مع قناة MSNBC الأميركية بتاريخ 23 أكتوبر، 2009م. مع الإشارة إلى أن الخبير الإعلامي المذكور Eric Burns كان يعمل مع قناة أخبار فوكس التي تعبر عن أقصى اليمين الأميركي المحافظ، ثم إنه استقال منها، وأسس منظمة مستقلة اسمها Media Matters، وذلك حسب قوله لشدة إحساسه بالدور السلبي الذي لعبته وتلعبه قناة فوكس في الحياة السياسية والثقافية الأميركية.
[20] انظر التصريحات على شبكة ABC الأميركية المعروفة http://abcnews.go.com/WN/president-obama-supports-building-mosque-ground/story?id=11401964
[21] صحيفة الشرق الأوسط http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&article=582578&issueno=11584
[22] http://blogs.reuters.com/great-debate/2010/10/07/ground-zero-mosque-how-will-it-effect-midterms/
[23] نستشهد هنا بمقولةٍ يطرحها الباحث احميدة النيفر، ونوردها في هذا الهامش رغم طولها لأهميتها المنهجية: “ما يلفت النظر اليوم في غالب معالجات النخب المسلمة لقضايا المعرفة والقيم والاجتماع والسياسة مطروحةً من الجانب الغربي هو طغيان نسق ردّ الفعل عليها، وكأن أبرز جوانب تلك القضايا لا تنفك متداخلةً مع (كيد يهودي) أو (حقدٍ صليبي) أو (استعلاءٍ غربي شيطاني) أو ماشابه ذلك من الدواهي التي لاتهدأ. من ثم تبدو التحديات، وكأنه ليس لها من غاية إلا إظهار (ضعف الإسلام) قصد الإطاحة به وتجاوزه…. إن أول ماينصرف إليه الذهن عند طرح قضية مستقبل الإسلام والمسلمين اليوم هو ضرورة التمييز بين جملة مفاهيم وظواهر تبدو كتداخلة لكنها ليست سواء. وجود جهات لها مصالح مختلفة متناقضة مع مصالح العالم الإسلامي تؤدي بها إلى وضع مخططات تتناسب مع مصالحها أمر لاخلاف فيه، وهو يؤدي إلى وضع سياسات يسميها البعض كيدًا أو تآمرًا. ثم إن هذه البرامج والمصالح التي تدعمها هي شيء مغاير للتحولات العلمية والفكرية والمؤسساتية التي ميزت الحضارة الحديثة ومامهّد لها من نهضة وتنوير. ومن جهة ثالثة فإن هذا وذاك يختلف عن التحديات الحقيقية التي تواجه بها تلك التحولات كل ثقافات المجتمع القديمة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة… إن الخلط بين هذه المستويات المكونة للمشهد الحضاري الحالي والإعراض عن التمييز بينها لايمكن أن يساعد المسلم على الخروج من تخبط فكري وقيمي وسياسي يزداد حدة عندما يختزل الوضع في علاقة بين جهة قاهرة وطرفٍ مُستهانٍ به”. (مستقبل الإسلام، مجموعة من المؤلفين، دار الفكر، 2004). ص: 89 – 91.
[24] http://onfaith.washingtonpost.com/onfaith/guestvoices/2008/04/geert_wilders_film_a_flop_for.html
[25] (سورة المائدة، آية 8).
[26] http://www.guardian.co.uk/world/2008/mar/03/netherlands.islam
[27] هيئة الإذاعة البريطانية. http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/world_news/newsid_7884000/7884226.stm
[28] (سورة النساء، آية 86).
[29] (سورة الحجر، آية 6).
[30] (سورة ص، آية 4).
[31] (سورة الصافات، آية 36).
[32] (سورة يونس، آية 2).
[33] (أزمات حوار الثقافات والأديان، نادية محمود مصطفى وسيف الدين عبد الفتاح، برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2010). انظر تحديدا فصل (أزمة في مسار حوار الثقافات والأديان: قراءة في تداعيات وقائع الحالة الدنماركية)، وكذلك فصل (التأزيم المتكرر في حوار الثقافات: الحالتان الدنماركية والهولندية).
[34] (الهوية الإسلامية في أوروبا.. إشكاليات الاندماج: قراءة في المشهد الفرنسي، تحرير نادية مصطفى، برنامج حوار الحضارات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2005)، انظر (السياق الفكري والدولي للقضية: ملاحظات أولية) ص: 26 – 27.
[35] مجلة TIME الأميركية، عدد 30 يناير، 2008م.
[36] انظر موقع إسلام أون لاين نقلا عن وكالات الأنباء. http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout&cid=1201957719943
[37] مجلة Foreign Policy، النسخة العربية، عدد يناير/فبراير، 2008م.
[38] انظر مثلًا صفحة (الأقليات المسلمة: حصاد الأسبوع) على موقع (أون إسلام) www.onislam.net وستجد أخبارًا (سلبية) حتمًا، لكنك ستجد أيضًا مايوازيها من الأخبار الإيجابية عن الوجود الإسلامي في الغرب.
[39] النص الكامل للكلمة موجود على الموقع الرسمي للأمير تشارلز. http://www.princeofwales.gov.uk/newsandgallery/news/hrh_makes_a_speech_about_islam_and_the_environment_707124419.html
[40] (سورة الحجرات، آية 13).
[41] (من خبرات حوار الحضارات قراءة في نماذج على الصعيد العالمي والإقليمي والمصري، تحرير د. نادية محمود مصطفى و د. علا أبو زيد، برنامج حوار الحضارا، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2003).
[42] (أزمات حوار الثقافات والأديان، تنسيق علمي وإشراف نادية محمود مصطفى و سيف الدين عبد الفتاح، برنامج الدراسات الحضارية وحوار الحضارا، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2010).
[43] (خطابات عربية وغربية في حوار الحضارات، تحرير نادية محمود مصطفى وعلا أبو زيد، دار السلام، الطبعة الثانية، 2007)، ص: 53 – 57).
[44] (تحالف الحضارات بين التاريخ والأيديولوجيا: الخصوصية الإسبانية، عبد الواحد أكمير، مجلة المستقبل العربي، العدد 353، تموز/يوليو 2008)، ص: 30.
[45] يتحدث الدكتور محمد سبيلا عن وجود “آليتين موضوعيتين تعملان بشكلٍ متواز، أولهما تقنية تجارية تتمثل في اكتساح التقنية لكل ثنايا المعمورة، والتقريب بين أبعاده، وتقليص المسافات، والأزمنة، وتوحيد العالم في سوق تجارية واحدة ليصبح قرية تجارية ضخمة. وآلية موضوعية هي آلية النكوص إلى الحميميات الجماعية والمميزات والفوارق والخصوصيات وبخاصة على المستوى الثقافي. (حوار العرب، العدد 15، فبراير 2006). ص: 8.
[46] (سورة آل عمران، آية 138).
[47] (سورة المائدة، آية 8).
[48] صحيفة الشرق الأوسط. عدد 2/12/2009م.
[49] انظر الموقع الرسمي السويسري (سويس إنفو) على الرابط http://www.swissinfo.ch/ara/detail/content.html?cid=511658
[50] انظر مثلا (الاقتراب من الإسلام، هانز كونج، مجلة الكتب وجهات نظر، عدد نوفمبر، 2007م).
[51] فصل بعنوان (في إيجابيات وسلبيات وضع المسلمين في أوروبا: رؤية من الداخل) في كتاب (الهوية الإسلامية في أوروبا.. إشكاليات الاندماج، مجموعة من المؤلفين، تحرير نادية مصطفى، برنامج حوار الحضارات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2005).
[52] وكالة الأنباء الكويتية (كونا)، بتاريخ 7/11/2009، http://www.kuna.net.kw/NewsAgencyPublicSite/ArticleDetails.aspx?Language=ar&id=2038119

[53] موقع البي بي سي. http://www.bbc.co.uk/arabic/worldnews/2009/11/091107_als_switzerland_minarets_tc2.shtml
[54] موقع أون إسلام. http://www.onislam.net/arabic/newsanalysis/newsreports/muslim-minoritie/126849-switherland.html

[55] موقع مفكرة الإسلام. http://www.islammemo.cc/akhbar/Africa-we-Europe/2010/04/05/97769.html
[56] فصل بقلم الدكتور بومدين بوزيد بعنوان (مسلمو أوروبا بين الديني والعلماني) في مرجع سابق (الإسلام الأوروبي: صراع الهوية والاندماج).
[57] موقع أون إسلام. http://www.onislam.net/arabic/newsanalysis/newsreports/muslim-minoritie/127885–16-1-2011.html

[58] (الإسلام الأوروبي: إشكاليات مفاهيمية، الدكتور محمد الطيبي)، هذا إضافة إلى فصول أخرى عن جهود طارق رمضان في مرجع سابق (الإسلام الأوروبي: صراع الهوية والاندماج).
[59] http://english.nahla.ba/
[60] موقع أون إسلام. http://www.onislam.net/arabic/newsanalysis/newsreports/muslim-minoritie/127885–16-1-2011.html

[61] كانت الغالبية العظمى من المساجد والمراكز الإسلامية قد أقيمت بناء على مبادرات الأطباء ورجال الأعمال وأموالهم، ورغم أن هذه الظاهرة خفّت نسبيًا إلا أنها لاتزال موجودة ومؤثرة في أوساط الجالية في أميركا، وهي تلعب دورًا في رسم طبيعة العلاقة مع المجتمع الأميركي.
[62] من المفيد جدًا العودة إلى كتابي المسلم الأميركي الدكتور جيفري لانغ (حتى الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا، الطبعة العربية، ترجمة منذ العبسي، دار الفكر، 2001) و (ضياع ديني: صرخة المسلمين في الغرب، ترجمة إبراهيم يحيى الشهابي، دار الفكر، 2008) حيث أورد فيهما المؤلف تحليلًا مسهبًا عن الأوضاع المذكورة أعلاه.
[63] تتراوح التجارب المذكورة بين ترك الإسلام كمرجعية وهوية على الصعيد الفردي وبين المبادرة بتأسيس منظمات صغيرة شبابية أصبحت أعدادها بالمئات في أنحاء أميركا.
[64] http://www.cair.com/muhammad/
[65] http://www.mpac.org/
[66] http://www.iiit.org/
[67] http://fairfaxi.net/
[68] موقع أون إسلام http://www.onislam.net/arabic/newsanalysis/newsreports/muslim-minoritie/127885–16-1-2011.html
[69] موقع إسلام أون لاين http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout&cid=1262372362683

[70] مستقبل الإسلام، مجموعة من المؤلفين، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2004م. والنقل الوارد أعلاه من فصلٍ للدكتور صافي في الكتاب بعنوان (مستقبل الإسلام في رؤيته الحضارية، ص: 284 – 285).
[71] مرجع سابق: (كيف عولم اليمين الأميركي أزمة أميركا؟).

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2011

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى