البنك الإسلامي للتنمية: الفاعلية والمعوقات داخل وبين الدول الإسلامية

مقدمة:

يُعد البنك الإسلامي للتنمية إحدى المؤسسات المالية متعددة الأطراف التي تهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأعضاء، وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية. وقد تأسس قبل نحو خمسة عقود، ويهدف للمساهمة في دعم مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أرجاء العالم الإسلامي، حتى إن البنك سارع لدعم خطة الأمم المتحدة المتعلقة بالتنمية المستدامة بعد الإعلان عنها في عام 2015 لاتساقها مع مقاصد الشريعة الإسلامية والمفهوم الواسع للتنمية غير القاصرة على البعد المادي البحت.

يتمثل الهدف الرئيسي للبنك في تعزيز التنمية البشرية الشاملة باعتبارها متسقة مع مقاصد الشريعة الإسلامية، مع التركيز على تخفيف حدة الفقر وتحسين الصحة وتعزيز التعليم والحوكمة وتحقيق الازدهار للمجتمعات.

في هذا الإطار، يهدف التقرير إلى التعريف بآليات عمل البنك الإسلامي للتنمية وتطوره، وكيف تفاعل مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، مع رصد ملامح أنشطة البنك التمويلية ودلالات ذلك بالنسبة لمشروعات التنمية، بالإضافة لمبادرات دعم التكامل الإسلامي والمعوقات التي تواجهها سواء داخل الدول الإسلامية أو فيما بينها والتي تؤثر على مجمل أنشطة البنك.

أولًا- البنك الإسلامي للتنمية: نبذة تعريفية:

يُعد البنك الإسلامي للتنمية بنك تنمية متعدد الأطراف، يهدف إلى تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية في 57 دولة عضو، بالإضافة إلى المجتمعات المسلمة في الدول غير الأعضاء، أي أن أنشطة البنك تمتد إلى نحو 20٪ من إجمالي سكان العالم.

بدأت أولى خطوات تأسيس البنك عام 1974، وانطلق نشاطه فعليًا من خلال كيان واحد في العام التالي ثم تطور إلى مجموعة تضم 6 كيانات حاليًّا، هي البنك الإسلامي للتنمية، ومعهد البنك الإسلامي للتنمية (المعروف سابقًا باسم المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب)، والمؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص، والمؤسسة الإسلامية لتأمين الاستثمار وائتمان الصادرات، والمؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة، وصندوق التضامن الإسلامي للتنمية. يقع المقر الرئيسي للبنك في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، ويعمل بنموذج لامركزي من خلال عشرة مراكز إقليمية رئيسية في المغرب، وكازاخستان، والسنغال، ومصر، وتركيا، وإندونيسيا، وبنجلاديش، ونيجيريا، وأوغندا، وسورينام، بالإضافة إلى مركز امتياز في كوالالمبور بماليزيا.

تستحوذ المملكة العربية السعودية على الحصة الأكبر من رأس المال التراكمي للبنك الإسلامي للتنمية بواقع 13.2 مليار دينار إسلامي تمثل 22.5٪ من المبلغ الإجمالي، وجاءت دولة ليبيا في المركز الثاني بقيمة 5.3 مليار وبحصة 9.03٪، ثم جمهورية إندونيسيا التي بلغت مساهمتها 4.7 مليار بنسبة 7.94٪، وجاءت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المركز الرابع بقيمة 4.6 مليار بنسبة 7.9٪، وتبعتها جمهورية نيجيريا الاتحادية التي بلغت مساهمتها 4.3 مليار بنسبة 7.33٪.

ساهمت دولة قطر بنحو 4 مليارات تمثل 6.87٪ من إجمالي رأس المال لتكون سادس أكبر دولة مشاركة في رأسمال الصندوق، وتبعتها جمهورية مصر العربية بقيمة 4 مليارات تقريبًا تمثل 6.77٪، ثم دولة الكويت بقيمة 3.9 مليار بنسبة 6.62٪، ثم الإمارات العربية المتحدة بنحو 3.8 مليار بنسبة 6.48٪، وجمهورية تركيا بقيمة 3.6 مليار بحصة 6.17٪ التي حلت عاشرًا.

جاءت مساهمة جمهورية باكستان الإسلامية بواقع 1.4 مليار بنسبة 2.43٪ ثم الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية بالحصة نفسها، وتبعتها ماليزيا بمساهمة 868 مليونًا بنسبة 1.48٪ من راس المال.

يُلاحظ من هيكل الملكية أن مساهمة كافة الدول الأخرى لا تتجاوز 0.5٪ باستثناء الجمهورية بنجلاديش الشعبية التي بلغت نسبتها 0.96٪ بواقع 566 مليونًا[1].

وينعكس هذا التوزيع في حصص رأس المال مباشرةً على قوة التصويت لكل دولة عضو، حيث تُمنح الحصص الأعلى تأثيرًا أكبر في القرارات المتخذة داخل البنك؛ لأن الدول التي تساهم بهذه الحصص تحصل على عدد أكبر من الأصوات، مما يمنحها المزيد من التأثير في عمليات صنع القرار.

يقوم البنك بمهمته في دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالتنسيق الكامل مع الحكومات، كما يدعم التعاون بين الدول الأعضاء، ويُشارك المعرفة والخدمات، ويُقدم حلولًا لمواجهة تحديات التنمية المستدامة. ووفقًا للبنك، فإنه يتميز بأنه البنك التنموي الوحيد الذي لا يوجد فيه علاقة مانح -متلقٍ، حيث تساهم جميع الدول الأعضاء في موارده وتستفيد من تمويله، ويعمل على المستوى العالمي في مجال تنمية التمويل الإسلامي، وتقديم هياكل تمويلية مستدامة وأخلاقية لدعم مشاريعه الاستثمارية.

يركز البنك على محورين أساسيين هما البنية التحتية الخضراء، المرنة والمستدامة، وتشمل: الطاقة المتجددة، والنقل المستدام، والزراعة والتنمية الريفية، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبنية التحتية الاجتماعية، والتنمية الحضرية والمياه والصرف الصحي، إلى جانب تنمية رأس المال البشري الشامل، وتتضمن: الرعاية الصحية الشاملة، والتعليم الجيد والمرن، والتغذية والأمن الغذائي، والحماية الاجتماعية، ودعم المشاريع الصغيرة وخلق فرص العمل.

ويشمل دعم المجتمعات المسلمة في الدول غير الأعضاء إتاحة برامج المنح الدراسية والمساعدات الإنسانية، كما يدعم البنك المجتمعات المتضررة من الكوارث الطبيعية حول العالم[2].

ثانيًا- البنك الإسلامي للتنمية وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة:

أعلن البنك الإسلامي للتنمية الالتزام الكامل بأهداف التنمية المستدامة الصادرة عن الأمم المتحدة، مع التأكيد على التباينات بين الدول الأعضاء فيما يتعلق بأهداف التنمية وفق احتياجات كل منها، كما أكد البنك على أدواتٍ عدة لدعم تنفيذ هذه الأهداف في الدول الأعضاء من خلال النهج التعاوني والشراكة مع المؤسسات التمويلية الإنمائية والقطاع الخاص والمجتمع المدني.

والجدير بالذكر أن 193 دولة، بما في ذلك الدول الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية، وقعت على أجندة التنمية المستدامة 2030، في سبتمبر 2015، وتسعى هذه الأجندة إلى تحقيق 17 هدفًا عالميًا و169 هدفًا محددًا تفصيليًا، بما يشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للتنمية. ويؤكد البنك الإسلامي للتنمية أن هذه الأهداف تتماشى مع مبادئ التنمية من منظور إسلامي (مقاصد الشريعة)[3].

والتزامًا بهذه الأهداف أطلق البنك الإسلامي للتنمية العديد من المبادرات المتخصصة، ومنها:

  • صندوق التضامن الإسلامي للتنمية: يهدف إلى مكافحة الفقر، وتحسين القدرات الإنتاجية للدول الأعضاء، ومكافحة الأمية، والقضاء على الأمراض.
  • صندوق استثمار العقارات الوقفية: يُساهم في تمويل مشاريع الأوقاف لتعزيز الاستدامة المالية.
  • صندوق الحياة وسبل العيش: أكبر مبادرة تنموية في الشرق الأوسط لدعم الفقراء.
  • صندوق التمكين الاقتصادي للشعب الفلسطيني: يهدف إلى تحسين الدخل وسبل العيش لأكثر من 300 ألف أسرة فلسطينية خلال العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
  • الصكوك الخضراء: أطلق البنك الإسلامي للتنمية أداة تمويلية تُعرف باسم الصكوك الخضراء لدعم المشاريع البيئية والمناخية المستدامة. وقد أصدر البنك صكوكًا خضراء بقيمة 1 مليار يورو في 2019، وصكوك استدامة بقيمة 2.5 مليار دولار في 2021، وهي الأكبر من نوعها.

وفي مارس 2025، وافق مجلس المديرين التنفيذيين للبنك على تخصيص أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم أهداف التنمية المستدامة في ثماني دول أعضاء. تُغطي المشاريع المتضمنة قطاعات حيوية مثل الأمن الغذائي، والصحة، والتعليم، والنقل، والصرف الصحي، والتنمية الحضرية، مما يعكس التزام البنك بتعزيز التنمية الشاملة والمستدامة[4].​

علاوة على ذلك، قام البنك بمواءمة استراتيجيته مع خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وخطة عمل منظمة التعاون الإسلامي 2025. تهدف هذه المواءمة إلى دعم الدول الأعضاء في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مع التركيز على التعافي المستدام والتكيف مع التغيرات المناخية[5].

بالإضافة إلى ذلك، أنشأ البنك إطارًا للتمويل المستدام، مما مكنه من إصدار صكوك خضراء وصكوك الاستدامة -كما سلف الذكر- لتعبئة الموارد من أسواق المال العالمية. في عام 2021، تمكن البنك من تعبئة أكثر من 2.5 مليار دولار عبر هذه الصكوك، مما يعزز قدرته على تمويل مشاريع التنمية المستدامة في الدول الأعضاء[6].

ورغم هذه الجهود، فإن البنك الإسلامي للتنمية يواجه تحديات في تنفيذ أجندته للتعامل مع أهداف التنمية المستدامة؛ ومن أبرزها التباين في مستويات التنمية بين الدول الأعضاء إذ يؤدي تفاوت مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بين الدول إلى صعوبة في تحديد الأولويات وتخصيص الموارد بشكلٍ عادل وفعال.​ كما تؤثر مشكلات البيئة القانونية والتنظيمية على عمل البنك بسبب عدم توافق الأطر القانونية والتنظيمية ببعض الدول مع مبادئ التمويل الإسلامي، مما قد يُعيق تنفيذ المشاريع التنموية.

كما تتأثر قدرة البنك والدول الأعضاء على تمويل وتنفيذ المشاريع التنموية المخططة بالتحديات المالية والاقتصادية، التي تتعقد مع تعدد بيئات العمل، وهو ما يفرض ضرورة العمل على تعزيز التعاون مع الدول الأعضاء والمؤسسات الدولية، وتطوير استراتيجيات مبتكرة لضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة بفعاليةٍ وكفاءة.​

ثالثًا- تمويلات البنك الإسلامي للتنمية: خريطة الانتشار والدلالات

يلعب البنك الإسلامي للتنمية دورًا مهمًا في تعزيز التنمية من خلال عدة محاور:

المحور الأول- تمويل المشاريع والبنية التحتية: يُعد تمويل المشاريع التنموية من المهام الأساسية للبنك. يشمل هذا التمويل مشروعات في مجالاتٍ مثل: الطاقة المتجددة (حيث تمويل مشاريع الطاقة الشمسية والرياح لتعزيز الاستدامة البيئية)، والزراعة والأمن الغذائي (دعم مشاريع تحسين الإنتاج الزراعي لضمان الأمن الغذائي)، والنقل والبنية التحتية (توفير القروض لبناء الطرق والجسور وتطوير الموانئ).

المحور الثاني- دعم التنمية البشرية: ويشمل ذلك التعليم (تمويل برامج المنح الدراسية، والمشاريع التعليمية في الدول الأعضاء)، والصحة (دعم مبادرات مكافحة الأمراض، وتطوير البنية التحتية الصحية)، والحد من الفقر (توفير التمويل لبرامج الحد من الفقر وتعزيز الشمول المالي).

المحور الثالث- تعزيز التكامل الاقتصادي: وذلك من خلال تشجيع التبادل التجاري بين الدول الأعضاء، عبر تقديم تمويل للتجارة ودعم المشاريع المشتركة بين الدول لتعزيز التكامل الإقليمي والاقتصادي.

ويوضح تحليل خريطة التمويلات التي منحها البنك منذ تأسيسه وحتى نهاية عام 2024 وجود تفاوتات كبيرة بين الدول الأعضاء في الحصول على التمويلات، فضلًا عن التباين الشديد بين حصة كل قطاع والآخر من المبلغ الإجمالي، ويمكن توضيح ذلك على هذا النحو:

بلغ إجمالي موافقات التمويل التي منحتها مجموعة البنك الإسلامي للتنمية منذ التأسيس حتى عام 2024 نحو 194.8 مليار دولار أمريكي، وارتفعت الموافقات الصافية من 4.4 مليار دولار في العقد الأول (1975-1984) إلى 93.4 مليار دولار في العقد الأخير (2015-2024)، بزيادة تتجاوز 20 ضعفًا بما يعكس تنامي أنشطة البنك ومؤسساته. خلال هذه العقود الخمسة تم أيضًا تمويل 1,113عملية في 76 دولة غير عضو عبر خمس قارات.

وتتنوع مصادر التمويل الذي يمنحه البنك لتشمل تمويلات المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة بواقع 42٪ من جملة التمويلات، والموارد الرأسمالية العادية للبنك بنسبة 34.3٪، والمؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص بنحو 3.9٪، في حين جاءت 19.8٪ من التمويلات من مصادر أخرى مثل صندوق تثمير ممتلكات الأوقاف، وصندوق التضامن الإسلامي للتنمية، والصناديق الوقفية.

على المستوى الجغرافي، تتوزع تمويلات البنك الإسلامي للتنمية بين آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا بقيمة 87.7 مليار دولار بحصة 45٪، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا بواقع  36.6 مليار دولار بنسبة 32.6٪ وأفريقيا جنوب الصحراء بمبلغ 35.5 مليار دولار بما يُعادل 18.2٪ من جملة التمويلات، والدول الأخرى بـ 8,1  مليار دولار تمثل 4.1٪ من المبلغ الإجمالي[7].

جدول (1)

الدولة المبلغ بالمليار دولار النسبة المئوية من جملة تمويلات البنك
بنجلاديش 27.7 14.2
مصر 23.1 11.9
باكستان 15.8 8.1
تركيا 14 7.2
المغرب 7.5 3.9
إندونيسيا 7.2 3.7
إيران 6.2 3.2
تونس 6 3.1
السنغال 5.6 2.9
السعودية 5.6 2.9

الدول العشر الأكثر حصولًا على التمويلات من البنك الإسلامي للتنمية

المصدر: البنك الإسلامي للتنمية[8]

تُظهر البيانات أن بنجلاديش جاءت في مقدمة الدول التي حظيت بحصةٍ كبيرة من التمويلات التراكمية للبنك الإسلامي للتنمية. ويعود ذلك إلى عدة عوامل أبرزها الكثافة السكانية العالية إذ تُعتبر واحدة من أكثر الدول كثافة سكانية في العالم، مما يزيد من احتياجاتها التنموية في مجالاتٍ متعددة، مثل الإسكان، والصحة، والتعليم، إلى جانب الحاجة الملحة للتمويلات نظرًا لمستوى التنمية الاقتصادية والتحديات التي تواجهها والتي تتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية والخدمات الأساسية لتحسين مستوى معيشة السكان. هذا إلى جانب حرص السلطات هناك على استمرارية التعاون مع البنك إذ أقامت شراكة قوية مع البنك الإسلامي للتنمية، حيث تم تنفيذ العديد من المشاريع التنموية المشتركة. على سبيل المثال، في مايو 2023، اعتمد البنك تمويلًا بقيمة 296.37 مليون دولار لصالح المرحلة الثانية من مشروع تمويل الإسكان في المناطق الريفية وشبه الحضرية في بنجلاديش، بهدف تشييد 1989 مسكنًا مستدامًا يستفيد منها أكثر من 70 ألف شخص من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط[9].

كما احتلت مصر المركز الثاني بين أكبر الدول المستفيدة من تمويلات مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، بحصولها على موافقات بقيمة 23.1 مليار دولار تعادل 11.9٪ من جملة التمويلات التي منحها البنك بما يعكس الشراكة القوية بين القاهرة والبنك الإسلامي للتنمية، والتي تعززت بإنشاء مقر إقليمي لمجموعة البنك[10].

هنا تجدر الإشارة إلى أن البنك الإسلامي للتنمية يُقدم تمويلاته للدول الأعضاء بناءً على مجموعة من المعايير، أبرزها الآتي:

أولوية القطاعات التنموية؛ إذ يُركز على تمويل المشاريع التي تساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مثل البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والزراعة.

احتياجات الدول الأعضاء؛ إذ يأخذ البنك في الاعتبار مستوى التنمية والاحتياجات الملحّة لكل دولة عضو، مع التركيز على الدول الأقل نموًا لتعزيز قدراتها التنموية.

مدى التوافق مع استراتيجيات التنمية الوطنية، فالبنك يحرص أن تتماشى مشاريعه مع خطط التنمية الوطنية للدول الأعضاء لضمان تحقيق الأهداف المشتركة، مع الأخذ بعين الاعتبار الجدوى الاقتصادية والمالية للمشاريع لضمان استدامتها وقدرتها على تحقيق الأثر المرجو.

ذلك بجانب الامتثال للمعايير الشرعية؛ إذ يُشترط أن تتوافق جميع المشاريع المُمولة مع مبادئ الشريعة الإسلامية، حيث يمتنع البنك عن تمويل أي مشروع يتعارض معها.

رابعًا- تمويلات البنك: خريطة الأولويات والملاحظات

بتتبع توزيع تمويلات البنك الإسلامي للتنمية منذ تأسيسه وحتى نهاية عام 2024، حسب القطاعات التي تم تمويلها، يتضح هيمنة قطاع الطاقة على حصة كبرى تصل إلى 40٪ من جملة التمويلات بقيمة 78 مليار دولار، ويليه قطاع الزراعة بتمويلات 27.3 مليار دولار تعادل 14٪ من المبلغ الإجمالي، وسط تدني التمويلات الموجهة لقطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم اللتين استحوذتا على 4.1٪ و3٪ على التوالي من جملة التمويلات[11].

  • أسباب هيمنة قطاع الطاقة على الحصة الأكبر من التمويلات

قد تعود هيمنة قطاع الطاقة على تمويلات البنك الإسلامي

جدول (2)

مسلسل القطاع عدد عمليات التمويل المبلغ بالمليار دولار النسبة المئوية من جملة تمويلات البنك ٪
1 الطاقة 1584 78 40
2 الزراعة 1692 27.3 14
3 الصناعة والتعدين 2298 25.4 13
4 التمويل 1789 18.4 9.4
5 النقل 586 16.6 8.5
6 المياه والصرف الصحي والخدمات الحضرية 548 8 4.2
7 الصحة 1033 7.9 4.1
8 التعليم 1988 6 3
9 الإدارة العامة والتجارة 409 3.3 1.7
10 العقارات 65 3.1 1.6
11 الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات 132 1 0.5

تمويلات من البنك الإسلامي للتنمية حسب القطاع

المصدر: البنك الإسلامي للتنمية[12]

للتنمية لعدة أسباب رئيسية أبرزها ضرورة الطاقة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ إذ تُعتبر الطاقة عنصرًا أساسيًّا لتشغيل القطاعات الحيوية مثل الصناعة، والزراعة، والخدمات، مما يعزز النمو الاقتصادي ويوفر فرص العمل كما يُسهم توفير الكهرباء في تحسين الخدمات الصحية والتعليمية، بما يؤدي إلى رفع مستوى المعيشة.​

على سبيل المثال، يُخصص البنك موارد مالية كبيرة لمشاريع الطاقة لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء في الدول الأعضاء، ففي إفريقيا قدم البنك تمويلات تراكمية بقيمة 33.5 مليار دولار لـ 622 مشروعًا للطاقة في 25 دولة، الأمر الذي يعكس التزامه بتعزيز البنية التحتية للطاقة في القارة. وخلال يناير 2025 أعلن البنك بالتعاون مع مجموعة البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية وشركاء رئيسيين آخرين، عن تعهد بقيمة 4.65 مليارات دولار لدعم مبادرة Mission 300 التي تهف إلى توفير الكهرباء المستدامة لـ 300 مليون إفريقي بحلول 2030 من خلال القيادة الإفريقية والتمويل منخفض التكلفة والتعاون العالمي، وذلك انطلاقًا من أن الوصول إلى الطاقة ليس مجرد هدف إنمائي بل هو حق أساسي من حقوق الإنسان وضرورة أخلاقية، هذا في وقتٍ لا يزال ما يقرب من 600 مليون شخص في إفريقيا يعيشون دون كهرباء؛ ما يُعيق التقدم في التعليم والرعاية الصحية والنمو الاقتصادي[13].

في الوقت نفسه، يُركز البنك على الطاقة المتجددة والمستدامة مثل محطات الطاقة الكهرومائية بالضخ والتخزين، لتعزيز الاستدامة وتقليل الانبعاثات الكربونية. على سبيل المثال، في أكتوبر 2024، وافق مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الإسلامي للتنمية على تمويل 20 مشروعًا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في 17 بلد عضو بأكثر من 3 مليارات دولار. وترمي هذه المشاريع إلى تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية والنهوض بالقدرة على الصمود والاستدامة في قطاعاتٍ أساسية، كالنقل، والطاقة، والزراعة، والموارد المائية، والأمن الغذائي، والصحة، والتنمية الاجتماعية.

وبالنظر لقائمة البلدان التي شملها هذا التمويل، يتضح أنها تضم بلدانًا من أقاليم وقاراتٍ متنوعة، فضلًا عن تنوع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية. وارتبطت هذه التمويلات بمشروعات تتصل بأهداف التنمية المستدامة، علمًا أن الدولة التي استحوذت على أكبر حصة من التمويلات هي كازاخستان بتمويل قدره 1.1 مليار دولار لصالح مشروع تنمية موارد المياه لمواجهة تغير المناخ وتعزيز الإمكانات الزراعية والأمن الغذائي. وفي الأردن ارتبطت التمويلات بزيادة احتياطي البلاد الاستراتيجي من السلع الأساسية وتعزيز الأمن الغذائي، وفي قرغيزستان هدف التمويل لدعم الأحوال المعيشية لصغار المزارعين من خلال دعم الميكنة الزراعية وتوفير إمدادات الطاقة، أما في السنغال فقد هدف التمويل لتسريع عمليات التصنيع للإنتاج الزراعي[14].

بالتوازي مع ذلك، يعمل البنك على تمويل برامج كفاءة استخدام الطاقة في المباني للتخفيف من آثار التغير المناخي وتحقيق التنمية المستدامة. في المنطقة العربية على سبيل المثال، دشن البنك الإسلامي للتنمية بالتعاون مع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) تعاونًا لتقديم المشورة للدول العربية فيما يتعلق بكيفية تمويل تحولات مجال استدامة الطاقة، والسبل المناسبة لزيادة الاستفادة من وسائل التمويل الدولية المتاحة لقطاع البناء، وبناء القدرات لتأمين التمويل لتوسيع نطاق كفاءة استخدام الطاقة للتخفيف من آثار تغيّر المناخ وتحقيق التنمية المستدامة[15].​

  • تضاؤل تمويلات الصحة والتعليم:

في المقابل، تتضاءل تمويلات البنك لقطاعي الصحة والتعليم مقارنةً بقطاع مثل الطاقة؛ إذ بلغت مخصصات الأول 7.9 مليار دولار تُقارب 4.1٪ من جملة تمويلات البنك منذ تأسيسه، في حين بلغت مخصصات الصحة 6 مليار دولار تُعادل 3٪ من الرقم الإجمالي.

وقد يرجع ذلك بشكلٍ أساسي لخضوع تمويلات البنك للأولويات التي تُحددها الدول الأعضاء التي ترغب في الحصول على التمويل، والتي يُركز العديد منها بشكلٍ أساسي على المجالات التي قد تعدها محركات أساسية (مباشرة وسريعة) للتنمية الاقتصادية، مثل الطاقة والبنية التحتية. ومع ذلك، يجب ملاحظة أن هذه النسب قد تتغير بمرور الوقت وفقًا للأولويات والاحتياجات التنموية للدول الأعضاء.​ وفي تصريح له عام 2023، علق الدكتور محمد الجاسر، رئيس مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، على تفاوت توزيع التمويل بين القطاعات المختلفة بأن “أولويات التنمية تُحددها كل دولة وفق احتياجاتها التنموية”[16].

لكن هذا الخلل بحاجةٍ إلى تصحيح لأن التعليم والصحة، كما أنهما ركنان في النهوض بالتنمية الاجتماعية للسكان في نطاق العالم الإسلامي، لهما الأثر الأكبر أيضًا في التمكين الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال خلق فرص جديدة للابتكار والتطوير، خاصةً في ظل التحول الرقمي الذي يعيشه العالم وزيادة الإنتاجية. إذ يُسهم التعليم في تحسين مهارات ومعارف الأفراد، مما يؤدي إلى زيادة إنتاجيتهم وقدرتهم على الابتكار، فرغم نقص الموارد الطبيعية، استطاعت اليابان على سبيل المثال تحقيق معدلات نمو مرتفعة بفضل الاستثمار في التعليم وتطوير رأس المال البشري، كما يدفع التعليم صوب تعزيز الابتكار والتطور التكنولوجي ودعم مشروعات البحث والتطوير، على نحوٍ يدعم النمو الاقتصادي[17].

ولا يقل قطاع الصحة أهمية عن التعليم بمنظار النمو الاقتصادي -وليس فقط البعد الاجتماعي- إذ تؤدي الصحة الجيدة إلى تقليل معدلات التغيب عن العمل وزيادة كفاءة الأفراد، مما يُعزز الإنتاجية الاقتصادية. هذا كما أن الاستثمار في الصحة العامة يُقلل من انتشار الأمراض، الأمر الذي يُخفف العبء عن نظم الرعاية الصحية ويوفر الموارد لاستخدامات أخرى تدعم الاقتصاد[18]. ومن ثم، فإن تحسين الصحة يؤدي إلى تعزيز النمو الاقتصادي والحد من الفقر[19].

ولا يعني ذلك بطبيعة الحال تجاهل مبادرات دعم النمو الاقتصادي المباشر، فالأمر يتجاوز الثنائية ويتطلب مدخلًا متكاملًا يُراعي كافة أبعاد التنمية البشرية التي تتشابك ومختلف المجالات.

خامسًا- جهود البنك في تعزيز التكامل الاقتصادي: المبادرات والمعوقات

يسعى البنك الإسلامي للتنمية إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء من خلال مجموعة من المبادرات والبرامج التي تهدف إلى دعم التعاون الاقتصادي والتجاري. ودعمًا لذلك، أطلق البنك مؤشر تكامل البنك الإسلامي للتنمية في عام 2022، حيث طورت المؤسسة مؤشرًا إحصائيًا شاملًا يُقسم إلى خمسة قطاعات رئيسة: تكامل التجارة والاستثمار، تكامل الأسواق المالية، شبكات الإنتاج، الاتصال والخدمات اللوجستية، تنقل الأفراد، بالإضافة إلى التكامل المؤسسي. يهدف هذا المؤشر إلى قياس مستوى التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وتحديد المجالات التي تحتاج إلى تعزيز[20].

وبناءً على هذا المؤشر، أطلقت مجموعة البنك الإسلامي للتنمية عام 2023 تقريرًا لقياس التكامل العربي الاقتصادي. ويعتمد التقرير على قياس التقدم المحرز فيما يتعلق بتعزيز التكامل الاقتصادي بين دول العالم العربي، والعمل على توفير آلية عملٍ تُمكن المجموعة من تحقيق أهدافها الأساسية، بما في ذلك تعزيز التجارة بين البلدان الأعضاء، ودعم معدلات النمو، ورفع مستوى الاستثمار الثنائي، وتحسين معيشة الناس على أساس مبادئ التضامن والمصالح المشتركة. وتضمنت عملية إطلاق التقرير الإشارة إلى أن تكاليف التجارة الثنائية بين بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أعلى بمرتين من تكاليفها في الاتحاد الأوروبي، ما يؤكد الحاجة إلى تعزيز التكامل الاقتصادي ومعايير القياس بين الدول العربية. وللوصول لهذا الهدف أكدت مجموعة البنك السعي إلى تعزيز التعاون والتنسيق بين المؤسسات الإقليمية، وتسهيل تفعيل الاتفاقات متعددة الأطراف، وإتاحة تسهيلات تمويلية لدعم مشروعات الربط بين البلدان ودعم القدرات الإنتاجية[21].

كما تعمل المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة، التابعة لمجموعة البنك، على تنمية وتمويل التجارة بين الدول الأعضاء وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية، مما يُسهم في تعزيز التكامل الاقتصادي. وتشمل أنشطة المؤسسة تمويل التجارة، وتعزيز الأثر التنموي لعمليات التمويل، وتطوير قدرات الدول الأعضاء في مجال الصادرات[22]. وبشكلٍ عام، يُساهم البنك في تعزيز التعاون المالي بين الدول الأعضاء من خلال دعم الاستثمارات المشتركة وتطوير الأسواق المالية الإسلامية، مما يُعزز فرص التكامل الاقتصادي، ويدعم مشاريع البنية التحتية التي تربط بين الدول الأعضاء، مثل شبكات النقل والطاقة، مما يُسهّل حركة السلع والخدمات.

من الأمثلة على ذلك، أنه في يونيو 2022، وافق البنك على تمويل بقيمة 15.8 مليون دولار أمريكي لمشروع ممر طريق بيساو -داكار، بهدف تحسين الاتصال بين غينيا بيساو والسنغال، وتعزيز التكامل والتجارة الإقليمية في غرب إفريقيا[23].

وفي سبتمبر 2022، وافق البنك على تمويل بقيمة 100 مليون دولار أمريكي لدعم إنشاء خط أنابيب نفط يمتد على طول 1,443 كيلومترًا، يربط أوغندا بالساحل الشرقي لتنزانيا. ويهدف المشروع إلى تمكين أوغندا من تصدير نفطها إلى الأسواق الدولية، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين[24].

لكن ما يجب الالتفات إليه أنه رغم أهمية المشروعات التي يُشارك البنك في تمويلها لأغراض تعزيز التكامل والتعاون بين الدول الإسلامية، فإن العديد منها يواجه تحديات. تتعلق العقبات بتدبير التمويل الكافي من مصادر متنوعة لاستكمال الخطط والمشروعات، فضلًا عن ضعف التنسيق بين الدول المعنية والتأثير على المجتمعات المحلية مما يؤدي إلى تأخر عمليات التنفيذ.​ وتضم هذه التحديات أيضًا المعوقات داخل الدول الإسلامية وبين بعضها، وبطبيعة الحال تؤثر هذه العوامل على فرص نجاح سياسات البنك. ويمكن توضيح ذلك من خلال النقاط التالية:

  • التباين في السياسات الاقتصادية والتجارية: تتبنى الدول الإسلامية سياسات اقتصادية وتجارية متنوعة، مما يؤدي إلى غياب التنسيق والتكامل بينها، وبما يفرض مزيدًا من التحديات على إمكانية إقامة سوق إسلامية مشتركة ويحد من فعالية التعاون الاقتصادي[25].

إذ يواجه البنك الإسلامي للتنمية تحديًا في التعامل مع تنوع الأولويات التنموية والاقتصادية بين الدول الأعضاء مع تركيز بعضها على تطوير البنية التحتية، بينما يُعطي البعض الآخر الأولوية لتحسين قطاعي التعليم والصحة، وهكذا، وهو ما يتطلب من البنك التعامل مع احتياجات كل دولة على حدة وبما يحد من فرص التنسيق والتعاون الجماعي. على سبيل المثال، في عام 2022، وافق البنك على تمويل بقيمة 297.67 مليون يورو لثلاث دول أعضاء تحت إشراف المكتب الإقليمي في داكار، فتم توزيع المبلغ لأجزاءٍ ثلاثة تعبر عن حاجة كل دولة على حدة، وذلك بواقع 35.14 مليون يورو لصالح مشروع للتنمية الزراعية في كوت ديفوار، و24.30 مليون يورو لمشروع خاص بتطوير التعليم التقني والمهني في غينيا، و238.23 مليون يورو لإنشاء طريق في السنغال[26]، وذلك على نحو يعكس تنوع الاحتياجات وتفتيت التمويل المتاح على قطاعاتٍ متعددة، ليس من بينها تعزيز التعاون بين هذه الدول. ورغم ذلك، تعكس هذه السياسة مرونةً من قبل البنك في التعاطي مع الاحتياجات.

  • ضعف البنية التحتية: تعاني العديد من الدول الإسلامية نقصًا في البنية التحتية المتطورة في مجالات النقل والاتصالات، مما يُعرقل حركة السلع والخدمات بينها لأن ذلك يؤدي إلى زيادة تكاليف النقل وصعوبة التنقل، وبالتالي يُقلل من فرص التكامل الاقتصادي.
  • العوائق الجمركية وغير الجمركية: تواجه حركة السلع بين الدول الإسلامية وجود تعريفات جمركية مرتفعة وإجراءات غير جمركية معقدة؛ مما يُعيق تدفق التجارة البينية بين الدول الإسلامية، الأمر الذي يرفع تكلفة السلع ويحد من تنافسية المنتجات في الأسواق المحلية والإقليمية[27]. يُشير تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تطبق تدابير غير جمركية أكثر وأشد تقييدًا مقارنةً بأي منطقة أخرى. فقد ازدادت هذه التدابير بمقدار الضعف تقريبًا بين عامي 2000 و2020[28].
  • ضعف التنسيق المؤسسي: وذلك بسبب غياب مؤسسات فعّالة للتنسيق والمتابعة، بما يُقلل من فرص تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية، ويؤدي إلى تشتت الجهود وعدم الاستفادة المثلى من الموارد المتاحة[29].
  • التحديات السياسية: تُعد الخلافات السياسية وعدم الاستقرار في بعض الدول الإسلامية أبرز العوامل المؤثرة سلبًا على جهود التكامل الاقتصادي؛ إذ تخلق هذه التحديات بيئةً غير مستقرة تعوق تنفيذ المشاريع المشتركة وتُثني المستثمرين عن المشاركة[30]. يُشير تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي إلى تدني التجارة البينية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (فيما عدا دول مجلس التعاون الخليجي)، مُرجعًا ذلك إلى عدم جدوى الاتفاقيات الإقليمية للتجارة والاستثمار. “فقد ظلت حصة الصادرات داخل المجموعة في المنطقة العربية، ما عدا دول مجلس التعاون الخليجي، أقل من 2٪ من تدفقاتها التجارية، وهو ما يعكس جزئيًا التشتت الإقليمي والعنف والحروب منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وعقب الربيع العربي في عام 2011. وتضم المنطقة مجموعةً من البلدان التي توجد بينها خلافات سياسية كبيرة، وهو ما ينعكس في أنماط التجارة أيضًا. على سبيل المثال، تبنت بلدان المغرب العربي في شمال إفريقيا توجهًا نحو أوروبا، من خلال برنامج الشراكة الأورومتوسطية والاتفاقات المنبثقة عنه الداعمة لهذه الروابط”[31].
  • التبعية الاقتصادية للخارج: تعتمد بعض الدول الإسلامية بشكلٍ كبير على الاقتصادات الخارجية، مما يُقلل من حافزها للتكامل مع الدول الإسلامية الأخرى، وتجعل هذه التبعية القرارات الاقتصادية مرتبطة بمصالح دول خارجية، الأمر الذي يُعرقل التعاون الإقليمي[32].
  • ضعف القطاع الصناعي: يُعاني العديد من الدول الإسلامية من ضعفٍ في القطاع الصناعي، الأمر الذي يُقلل من قدرتها على إنتاج سلع قابلة للتبادل التجاري، ومن ثم يؤدي إلى انخفاض حجم التجارة البينية والاعتماد على استيراد السلع من خارج الدول الإسلامية.
  • الفقر والديون: تعاني بعض الدول الإسلامية من مستوياتٍ عالية من الفقر والديون، مما يحد من قدرتها على المشاركة الفعّالة في مشاريع التكامل الاقتصادي، ويجعل التركيز منصبًا على القضايا الداخلية بدلًا من التعاون الإقليمي.
  • الفساد الإداري: يؤدي الفساد الإداري إلى إهدار الموارد وتقويض الثقة بين الدول، مما يحول دون تنفيذ المشاريع المشتركة على الوجه المطلوب، ويُقلل من فعالية السياسات الاقتصادية ويزيد من تكلفة الأعمال. يقول صندوق النقد الدولي “يؤدي الافتقار إلى المعايير الموحدة والتنسيق، وانتشار البيروقراطية والفساد إلى تفاقم آثار هذه الحواجز (غير الجمركية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا). ومن الحواجز التي تعوق ممارسة الأعمال والاستثمار الإجراءات المرهقة لإصدار التراخيص، واللوائح المعقدة، والإجراءات غير الواضحة المتعلقة بالمشتريات وتقديم العطاءات”[33].

ولمواجهة هذه المعوقات، دشن البنك الإسلامي للتنمية العديد من المبادرات والتي سبق ذكر بعضها لتعزيز التعاون والتنسيق فيما بين الدول الإسلامية، وتطوير البنية التحتية، وتبسيط الإجراءات الجمركية، وإنشاء مؤسسات فعّالة لدعم التكامل الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، يُعد العمل على تحقيق الاستقرار السياسي وتبني سياسات اقتصادية مشتركة ضروريان لتعزيز التعاون والازدهار المشترك.

  • الدينار الإسلامي نموذجًا لضعف مشروعات التكامل:

من المفاجآت أن البنك الإسلامي للتنمية يعتمد عملةً موحدةً تُسمى “الدينار الإسلامي”، وهي العملة المعتمدة في التقرير السنوي لعام 2023، إذ جاء فيه على سبيل المثال “وافق مجلس محافظي البنك الإسلامي للتنمية.. على قرار الزيادة العامة السادسة في رأس المال بمبلغ قدره 5.5 مليار دينار إسلامي. وفي نهاية سنة 2023، بلغ رأس مال البنك المكتتب فيه 55.3 مليار دينار إسلامي”.

إن سوق هذا الخبر على هذا النحو ربما يكون مبهمًا لكثيرٍ حتى من المتخصصين، فيما يتعلق بتصوراتهم لقيمة رأس المال الخاص بالبنك الإسلامي للتنمية، وما هي القيمية الحقيقية للدينار الإسلامي؟ وكيف يمكن أن يُقيمها كل مواطن في دولة مسلمة بعملة بلده؟ ربما يحتاج الأمر لبحثٍ وحسابات ليكون قادرًا على التقييم، بخلاف ما سيرد للذهن والتصور إذا قيل مثلًا إن رأس مال البنك يُعادل 55.3 مليار دولار أمريكي (أو يورو أو ريال سعودي..).

هذا الاختلاف يعكس ضعف وزن العملة الإسلامية الموحدة في التعاملات التجارية والمعتمدة من جانب الدول الإسلامية بما ينعكس على تصورها في ذهن أبناء العالم الإسلامي بشكلٍ عام، وإن كانت هناك مبادرات ومطالبات بتفعيلها كما في ماليزيا. أضف إلى ذلك أن البنك نفسه بعد أن بدأ التقرير المشار إليه باستخدام العملة الإسلامية الموحدة مقرونة بالدولار الأمريكي للتعريف بالبيانات المالية التي يتناولها، فإنه انتقل بعد ذلك لاستخدام الدولار الأمريكي فقط في التعريف بهذه البيانات دون الدينار الإسلامي، في مؤشرٍ آخر على ضعف استخدامه حتى داخل المؤسسة التي تتبناه.

بل إن البنك الإسلامي للتنمية حين أراد أن يُعرف في تقريره بالعملة الإسلامية الموحدة فإنه عرفها بأنها: “الدينار الإسلامي (ID)، وهو ما يُعادل حقوق السحب الخاصة (SDR) لصندوق النقد الدولي”. وحق السحب الخاص هو أصل احتياطي دولي وليس عملة، وتتحدد قيمته بناءً على سلة من 5 عملات هي الدولار الأمريكي، واليورو، واليوان الصيني، والين الياباني، والجنيه الإسترليني[34].

وهنا تجدر الإشارة لملاحظاتٍ مهمة، أولها أن البنك لجأ إلى تعريف وحدته الحسابية بوحدة حسابية أخرى تتبناها إحدى مؤسسات التمويل الدولية التي تُمثل واحدةً من أدوات الهيمنة الغربية -وخاصةً الأمريكية- على العالم بما في ذلك العالم الإسلامي، وفي ذلك علامات استفهام بشأن موقع مبدأ التحرر من أعمال وأنشطة البنك. هل يُقدم بديلًا إسلاميًّا لأدوات الهيمنة الغربية أم يكتفي بالعمل في إطارها، رغم تأكيده على مرجعيته الإسلامية، وثانيها أن الوحدة الحسابية المسماة حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي التي قُوم على أساسها الدينار الإسلامي تتحدد قيمتها بسلة عملات تخص 5 دول غير إسلامية. وهنا أيضًا يمكن التساؤل عن مسألة الهوية في هذا السياق، أما الملاحظة الأخيرة فهي تتعلق بالتأكيد على أن قضيتي التحرر والهوية ضروريتان لنجاح البنك في تحقيق مشروعاته المتصلة باستعادة كرامة العالم الإسلامي، وأن فاعلية هذه العملة في النهاية تتصل بواقع العالم الإسلامي ووزنه بين مختلف تكتلات العالم.

خاتمة:

يُعد البنك الإسلامي للتنمية بنكًا تنمويًا متعدد الأطراف، يهدف إلى توفير الموارد المالية لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وتقديم المساعدة الفنية والاستشارية في مجالات التنمية، ودعم المشاريع التي تُحقق أهداف التنمية المستدامة.

وبالفعل، نجح البنك في تحقيق نجاحاتٍ ملحوظة في تمويل المشاريع التنموية في العالم الإسلامي، مثل مشروع الربط الكهربائي بين الدول الأعضاء الذي ساهم في تعزيز أمن الطاقة، مع تقديم منح دراسية لأكثر من 20 ألف طالب من الدول الأعضاء.

وعلى الرغم من أن البنك الإسلامي للتنمية يتميز بتقديم تمويل متوافق مع الشريعة الإسلامية، إلا أنه يواجه تحدياتٍ في المنافسة مع مؤسسات كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مجالات الابتكار المالي وسرعة تنفيذ المشاريع، إلى جانب التحديات التمويلية التي يُواجهها البنك حيث الاعتماد على موارد محدودة في ظل زيادة الطلب على التمويل.

لكن التحديات الكبرى التي تقلل من فعالية مشروعات البنك ومؤسسات التكامل الإسلامي بشكلٍ عام تتعلق بالمعوقات داخل الدول الإسلامية التي تتصل بالبيروقراطية، والتشريعات التي تؤخر تنفيذ المشروعات التنموية أو تحد من التعاون مع البنك أو الدول الإسلامية الأخرى.

يُضاف إلى ذلك العديد من التحديات بين الدول الإسلامية نفسها؛ حيث ضعف التعاون بين الدول الأعضاء بما يؤثر على تنفيذ المشاريع المشتركة ويحد من فاعليتها، بالإضافة إلى اختلاف الأولويات الاقتصادية التي تعيق تنسيق الجهود المشتركة، فضلًا عن التأثير السلبي للتفاوت الاقتصادي ووجود فروق كبيرة بين الدول الغنية والفقيرة. ولا يخفى بطبيعة الحال التداعيات الناجمة عن النزاعات السياسية التي تؤثر على تنفيذ البرامج التنموية من جهةٍ، وتؤدي إلى مزيدٍ من الانقسام وفشل مشروعات التكامل أو ضعفها من جهةٍ أخرى.

إن تعزيز فاعلية البنك الإسلامي للتنمية تتطلب مزيدًا من الدعم لمشروعات تعزيز التكامل الإقليمي من خلال إنشاء آليات جديدة لدعم المشاريع المشتركة، وتطوير برامج متخصصة لتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء. وهناك ضرورة ملحة لتحسين آليات التمويل من خلال تنويع المصادر عبر الشراكات مع المؤسسات المالية الدولية، وزيادة الاعتماد على الأدوات المالية الجديدة (مثل الصكوك) لتعزيز التمويل الإسلامي، مع الالتزام بتطوير آليات المساءلة والتقييم المستمر ونشر التقارير الدورية لتعزيز الشفافية والحوكمة.

يبقى من المهم في النهاية التأكيد على أن تجربة البنك الإسلامي للتنمية هي في حد ذاتها رائدة من حيث أنشطتها، لكنها لا تزال بحاجةٍ لمزيدٍ من الجهد والفعل للنهوض بها، كما أن تجربة البنك هي في الواقع انعكاس لطبيعة التحديات التي تواجهها نماذج التنمية في العالم الإسلامي خاصةً مشروعات التكامل.

—————————————

الهوامش:

[1] للتفاصيل: العضوية، البنك الإسلامي للتنمية، الاطلاع: 26/3/2025، متاح عبر الرابط التالي:  https://www.isdb.org/ar/aldwyt

[2]  Frequently Asked Questions, Islamic Development Bank, July 2023, Available at: https://2u.pw/HGa4k

[3] أهداف التنمية المستدامة، البنك الإسلامي للتنمية، متاح عبر الرابط التالي:  https://2u.pw/iBK0N

[4] البنك الإسلامي للتنمية يخصص أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم أهداف التنمية في 8 دول أعضاء، CNBC عربي، 17/3/2025، متاح عبر الرابط التالي: https://minilink.pro/UGMa

[5] إعادة مواءمة استراتيجية البنك الإسلامي للتنمية 2023- 2025، البنك الإسلامي للتنمية، يونيو 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/BOAex

[6] صبري ناجح، مجموعة البنك الإسلامي للتنمية تقر استراتيجية محدثة لمجابهة الفقر وتعزيز النمو الأخضر، الشرق الأوسط، 4/6/2022، متاح عبر الرابط التالي:  https://2h.ae/XuUF

[7] IsDB Group in Breif, Islamic Development Bank, p iii, Available at: https://2u.pw/029WS

[8] Ibid.

[9] محسن عبد الرازق، «البنك الإسلامي للتنمية» يعتمد تمويلات 6 مشاريع لدعم التنمية المستدامة والبنى التحتية بأكثر من 558 مليون دولار، المصري اليوم، 11/5/2023، متاح عبر الرابط التالي:  https://2u.pw/bBHZL

[10] أسماء أمين، مصر فى صدارة الدول المستفيدة من البنك الإسلامي للتنمية بتمويلات 13 مليار دولار، اليوم السابع، 8/9/2021، متاح عبر الرابط التالي:  https://2h.ae/xhkM

[11]IsDB Group in Breif, Islamic Development Bank, p ii, Available at: https://2u.pw/029WS

[12] Ibid.

[13] 33.5 مليار دولار تمويلات “البنك الإسلامي” لـ 622 مشروعا للطاقة في 25 دولة إفريقية، الاقتصادية، 28/1/2025، متاح عبر الرابط التالي:  https://2u.pw/vzSDR

[14] مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الإسلامي للتنمية يوافق على تمويل مشاريع كبرى للتنمية والبنى التحتية بأكثر من 3 مليارات دولار أمريكي، البنك الإسلامي للتنمية، 14/10/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/kPZrv

[15] تمويل توسيع نطاق برامج كفاءة استخدام الطاقة في المباني للتخفيف من آثار تغيّر المناخ وتحقيق التنمية المستدامة في المنطقة العربية، الأمم المتحدة: اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، 3/12/2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://2h.ae/moRg

[16] محسن عبد الرازق، رئيس «البنك الإسلامي للتنمية»: حجم تمويلاتنا 170 مليار دولار.. 40% لقطاع الصناعة، المصري اليوم، 11/5/2023، متاح عبر الرابط التالي:  https://2u.pw/Wmafb

[17] حسين بن العارية، دور التعليم في النمو الاقتصادي، منظمة المجتمع العلمي العربي، 13/3/2012، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/xqOXO

[18] دانييل بلوم أنييس كوفينال سيرين أوزر، فرض ضرائب صحية ذكية: يفيد الصحة العامة ويدعم الاقتصاد، مدونات البنك الدولي، 7/10/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/L2p51

[19] علي محمود الخوري، تحديّات الصحة العامة في الاقتصادات العربية، الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي، 29/1/2025، متاح عبر الرابط التالي:

https://arab-digital-economy.org/10981

[20] مجموعة البنك الإسلامي للتنمية تطلق تقرير التكامل الاقتصادي العربي خلال الاجتماعات السنوية 2023 المنعقدة في جدة، البنك الإسلامي للتنمية، 10/5/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/o0NAd

[21] المرجع السابق.

[22] مصطفى محمود محمد عبد العال عبد السلام، التجارة البينية للدول الإسلامية ودورها في قيام تكتل اقتصادي إسلامي، مجلة الكلمة، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، السنة 17، عدد 66، شتاء 2010- 1431هـ، ص ص 19- 48.

[23] In Egypt, IsDB Board of Executive Directors Approves US$176.12 Million Financing for Food Security, Health, Transport, and Water & Sanitation Projects in Four Member Countries, Islamic Development Bank (IsDB), 1/6/2022, Available at: https://minilink.pro/Y43M

[24] IsDB Board Approves US$ 1.12 billion in Development Financing and US$ 1.79 Million in Grants for Health, Transport, Food Security, Energy, Urban Development, Market Access, Education, and Water & Sanitation Projects, Islamic Development Bank (IsDB), 10/9/2022, Available at: https://m-r.pw/ukSE

[25] عبد الغني بلوط، التكامل الاقتصادي بين دول العالم الإسلامي.. فرص وتحديات، مجلة المجتمع، 12/5/2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2h.ae/rWiE

[26] The Islamic Development Bank (IsDB), during its 344 Board of Executive Director’s meeting of 13 February 2022, approved Projects for Cote d’Ivoire, Guinea, and Senegal, Islamic Development Bank (IsDB), 28/2/2022, Available at: https://2u.pw/Xy9wq

[27] أيمن صالح فاضل، السوق الإسلامية المشتركة، المعوقات والحلول، مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الاقتصاد الإسلامي، مجلد 24، عدد 1، 2011م- 1433هـ، ص ص 33-56.

[28] ناصر السعيدي، آثيرا براساد، شرق أوسط تجاري، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، سبتمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/iLIyb3Mp

[29]  للمزيد على سيد إسماعيل ، معوقات التكامل الاقتصادي بين البلاد الإسلامية،القاهرة، دار التعليم الجامعى، ٢٠١٩.

[30] عبد الغني بلوط، التكامل الاقتصادي بين دول العالم الإسلامي.. فرص وتحديات، مرجع سبق ذكره.

[31] ناصر السعيدي، آثيرا براساد، شرق أوسط تجاري، مرجع سبق ذكره.

[32] عبد الغني بلوط، التكامل الاقتصادي بين دول العالم الإسلامي.. فرص وتحديات، مرجع سبق ذكره.

[33] ناصر السعيدي، آثيرا براساد، شرق أوسط تجاري، مرجع سبق ذكره.

[34] حقوق السحب الخاصة (SDR)، صندوق النقد الدولي، متاح عبر الرابط التالي:  https://2u.pw/mUHR7d1J

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى