الاقتصاد السياسي لمحاربة الفقر: بنجلاديش نموذجًا

مقدمة:
عُرفت بنجلاديش خلال العقود الأربعة الماضية، وتحديدًا منذ عام 1983، بتجربة “بنك الفقراء” في محاربة الفقر، وهذه التجربة قد تم تقييمها ودراستها والاهتمام بها على مستوى كبير ووصلت إلى حد معين من الإنجاز. وتُقدم هذه الدراسة الإطار الأوسع لقضية محاربة الفقر في بنجلاديش في سياق الأحداث الأخيرة التي أسفرت عن تغيير سياسي تبعته حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ما أسفر في النهاية عن مؤشرات فقر بدأت في التصاعد في ظل تلك المرحلة الانتقالية والصعبة التي تمر بها البلاد، خاصةً في ظل ما تواجهه وتعيشه بنجلاديش من تحدياتٍ داخلية وإقليمية ودولية انطلاقًا من مدخل تأثير الاقتصاد السياسي على قضية محاربة الفقر، وذلك منذ تأسيس “بنك الفقراء” وحتى الآن.
تقع جمهورية بنجلاديش الشعبية في جنوب شرق آسيا، وهي إحدى دول العالم الإسلامي بأغلبية إسلامية تصل إلى 89.5% من السكان، بالإضافة إلى 9.6% هندوس و0.9% ديانات أخرى، وتعد إحدى الدول النامية. ومنذ عام 1947 كانت بنجلاديش جزءًا من جمهورية باكستان إلى أن استقلت بمساعدة من الهند في يناير1972، وعاصمتها هي مدينة دكا. وقد عانت بنجلاديش منذ استقلالها من أزماتٍ وكوارث طبيعية وانقلابات متتالية وحالة من عدم الاستقرار السياسي لمدة عقدين، أسفرت عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ كبير ما جعلها تُصنف من بين أفقر دول العالم. ومع ذلك ولعوامل متعددة، استطاعت بنجلاديش تحقيق معدلات نمو اقتصادي متصاعدة. وقد شهدت معدلات ومؤشرات النمو الاقتصادي لجمهورية بنجلاديش تصاعدًا بشكلٍ شبه منتظم منذ الاستقلال عن باكستان، لكنها مثلها مثل باقي دول العالم -وخاصةً الدول النامية- عانت جراء جائحة كوفيد-19 عام 2020 من تداعياتٍ اقتصادية سلبية أسفرت عن ارتفاع معدلات البطالة والتضخم والفقر مع تصاعد إجمالي الدين العام. ومع ذلك، حقق نمو الناتج المحلي الإجمالي لبنجلاديش قفزة بنسبة 6.5٪ عام 2020، وهو ما يُعتبر تسجيلًا لحالة من الصعود الاقتصادي رغم الخسائر المصاحبة لأزمة كوفيد-19[1].
وتمتلك بنجلاديش نظامًا سياسيًّا برلمانيًّا ديمقراطيًّا شبه مستقر (حيث وجود علامات استفهام في العديد من المحطات)؛ حيث المشهد السياسي الذي يتسم بالتوازن بين العسكريين والعلمانيين والجماعات الإسلامية المعتدلة وبعض التيارات المتشددة والجماعات التابعة لها. وتعتبر طبيعة النظام السياسي البنجلاديشي من وجهة نظر فريق من كتابات التنمية السياسية الحديثة أحد عوامل النجاح الاقتصادي الكبير المقرون بمعدل نمو يتجاوز متوسطُه 6% منذ عام 1991 وحتى الأن، إلى جانب عوامل أخرى متعلقة بعدالة التوزيع والبرامج الحكومية التي تصب في صالح الفقراء والفئات المهمشة، مما ساعد على زيادة تدريجية في حجم الطبقة المتوسطة المؤيدة لنظام الحكم وتراجع ملحوظ في معدلات الفقر. ففي عام 1991 عاشت بنجلاديش تجربة ديمقراطية بعد فترة من حكم الدكتاتورية العسكرية استمرت من 1982 إلى 1991 إثر الانتفاضة الجماهيرية، التي نظمتها كل من الشيخة خالدة ضياء زعيمة الحزب الوطني البنجلاديشي والشيخة حسينة واجد زعيمة حزب رابطة عوامي، ضد النظام العسكري، وخاضت بنجلاديش أول تجربة انتخابية لها في هذا العام.
ومع ذلك، كان يشوب تلك التجربة الديمقراطية منافسات واضطرابات سياسية وتناحر على السلطة بين الحزبين لمدة عقدين من الزمن. ثم أُجريت أول انتخاباتٍ برلمانية في بنجلاديش في فبراير 1991 وأسفرت عن وصول الحزب الوطني البنجلاديشي الذي فاز بــ 140 مقعد. وفي فبراير 1996، أُجريت الدورة الانتخابية الثانية وأسفرت عن فوز الحزب الوطني الحاكم بـ 278 مقعدًا من أصل 300 مقعد مما أدى إلى اتهامات بعدم نزاهة الانتخابات واضطرابات واحتجاجات جماهيرية سيطر بعدها الحزب الوطني الحاكم على البرلمان وأجرى تعديلات دستورية ليُطبق نظام تصريف الأعمال[2].
ثم أُجريت انتخابات جديدة في يونيو 1996 أسفرت عن فوز حزب الرابطة الإسلامية بـ 146 صوت من أصل 300 في حين حصل حزب بنجلاديش الوطني على 116 صوت، ووصلت الشيخة حسينة لمنصب رئاسة الوزراء لأول مرة في هذا التوقيت. وفي أكتوبر 2001، عاد الحزب الوطني البنجلاديشي بقيادة الشيخة خالدة ضياء للسلطة وفاز بـ 193 مقعد، وشكل حكومة ائتلافية مع حزب بهاراتيا جاناتا. وخلال الفترة من 2006 إلى 2008، قامت حكومة الشيخة خالدة ضياء بتأجيل الانتخابات بسبب انتشار العنف على نطاقٍ واسع، حيث تدخل الجيش في يناير2007 لدعم الحكومة وتمت السيطرة الفعلية على النظام. وفي عام 2008، وُجهت اتهامات بالفساد ضد حكومة خالدة ضياء، وتم فرض إقامة جبرية عليها أثناء فترة التحقيق. وفي ديسمبر 2008، أُجريت انتخابات عامة في بنجلاديش بعد عامين من التأجيل حقق خلالها حزب رابطة عوامي أغلبية ساحقة وفاز بـ 230 مقعدًا مقابل 30 مقعدًا للحزب الوطني البنجلاديشي[3].
تجددت فيما بعد الاضطرابات والمشاهد الجدلية على المستويين الداخلي والخارجي، رغم محاولات الإصلاح والتعافي، الأمر الذي كان له العديد من المآلات والدلالات الاقتصادية السلبية والإيجابية، وهو ما سنتناوله في هذا التقرير.
أولًا- حول الأوضاع في بنجلاديش 2024: مسارات التأثير بين السياسي والاقتصادي
في يناير 2024، أجرت بنجلاديش انتخابات برلمانية فازت بها رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد بولاية حكم رابعة على التوالي بإجمالي 225 مقعدًا من إجمالي 300 مما أدى إلى مقاطعة حزب المعارضة الرئيسي (الحزب الوطني البنجلاديشي) الانتخابات، ونقلت مواقع إخبارية دولية أنباء عن اعتقالات جماعية لقادة الحزب الوطني البنجلاديشي والمؤيدين له. وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 40% من إجمالي الناخبين مقارنةً بالدورة الانتخابية السابقة لها عام 2018 والتي وصلت نسبة المشاركة فيها إلى 80%[4].
كان لهذا المشهد السياسي -الذي يتسم بغياب المعايير الديمقراطية وعدم مشاركة بعض الأحزاب السياسية والعزوف الشعبي عن المشاركة والإدلاء بالأصوات- تأثيرًا على درجة الرضاء الشعبي وأدى إلى بلورة حالة من الحراك الاجتماعي جمعت بين الدوافع السياسية والاقتصادية.
على سبيل المثال، في مطلع يوليو 2024، بدأت الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات التي نظمتها الحركات الطلابية اعتراضًا على قرار تخصيص حصص من الوظائف الحكومية لفئات معينة أو ما يُعرف بـــ “نظام الكوتا في التوظيف”. لأن هذا القرار كان يُخصص نسبة 30% من الوظائف لفئةٍ واحدة، وهي أبناء وأحفاد المقاتلين من أجل الحرية أي الذين شاركوا في حرب التحرير مع باكستان عام 1971. فقد كان هذا القرار بمثابة انعكاس لمدى هيمنة الحزب الحاكم على السلطة، وانعكاس لحالة من عدم عدالة التوزيع رغم ما تحققه بنجلاديش من تقدم في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي وتراجع معدلات الفقر. لاسيما وأن اقتصاد بنجلاديش عانى في تلك الفترة من عراقيل بسبب سوء الإدارة والفساد، وسلطوية الحكومة وسعيها نحو الاستمرار في الحكم، ناهيك عن البيروقراطية وتضاؤل فرص العمل والتوظيف في القطاع الخاص لأسباب متعلقة بطبيعة الاقتصاد وبانتشار الفساد في المؤسسات الرسمية للدولة والاستبداد السياسي[5].
فعلى الرغم من أن التقارير والمؤشرات الدولية تُشير إلى أن بنجلاديش حققت خلال العشر سنوات الماضية تضاعفًا في معدلات الدخل، فضلا عن تخطي خط الفقر وانتشال أكثر من 25 مليون مواطن من الفقر بفضل مشروعات التصنيع والسكك الحديدية وبناء الطرق والجسور والمصارف المالية والمبادرات المحلية والدولية وغيرها، إلا أن ذلك كله كان مصحوبًا بفساد الطبقة الحاكمة بدرجة أشعرت الغالبية العظمى من الشعب أن هذا النمو الذي يتحقق تذهب ثمراته للمقربين من حرب رابطة عوامي. هذا ناهيك عن التهم بالفساد التي توجهت وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي ضد كبار مسؤولي حكومة الشيخة حسينة واجد وهم؛ قائد الجيش، ورئيس الشرطة، وكبار مسؤولي الضرائب وكبار مسؤولي التوظيف[6].
إن ما أشعل الاحتجاجات والمظاهرات وأجج حالة الغضب المجتمعي في يونيو 2024 وحول المشهد السياسي إلى نمطٍ عنيف وغير مستقر تمامًا، إنما هو الخطاب السياسي لرئيسة الحكومة الشيخة حسينة واجد ردًا على الاحتجاجات الطلابية، والذي عكس تغييرًا في اللهجة والموقف مقارنة بالخطاب السياسي في عام 2018. فقد اعترفت حسينة في ردها على احتجاجات عام 2018 ضد نظام الكوتا في التوظيف بتحفيزها المظالم وأصدرت قرارًا بإلغاء نظام الحصص في التوظيف، أما ردها على احتجاجات عام 2024 كان مغايرًا تمامًا لأنها عبرت عن رفضها الكامل للحركة المناهضة لنظام الحصص واعتبرتها غير مُبررة واتهمت أحزاب المعارضة والحركات المعادية للنظام بالتورط في أعمال العنف لإثارة الفوضى وتأجيج الموقف. كما أصدرت حسينة قرارًا بفرض حظر تجوال، وقطع الإنترنت عن البلاد لعرقلة التواصل، ودعت الجيش إلى التدخل لدعم الشرطة في مواجهة المتظاهرين مما أدى إلى تزايد العنف ضد المتظاهرين. ومع نهاية يونيو 2024، وصل عدد القتلى إلى 200 شخص وآلاف من الجرحى والمصابين، ثم أعقب ذلك نقض المحكمة العليا لقرارها وتخصيص 5% فقط من الوظائف لأبناء المحاربين القدامى، لكن ذلك جاء متأخرًا جدًا لوقف الاحتجاجات. وخرج عشرات الآلاف من المتظاهرين ضد الشيخة حسينة مطالبين برحيلها عن الحكم، مما أدى إلى ترك حسينة مقر إقامتها في العاصمة دكا ومغادرة البلاد متجهةً إلى الهند. بعد ذلك ألقى قائد الجيش البنجلاديشي خطابًا عبر التليفزيون الرسمي بأن الشيخة حسينة واجد قد استقالت من منصبها، وأن هناك إجراءات لتشكيل حكومة مؤقتة. ثم أصدر رئيس الجمهورية “محمد شهاب الدين” تصريحًا أعلن خلاله؛ أنه ترأس اجتماع قادة الجيش والممثلين السياسيين، وتشكيل حكومة مؤقتة والدعوة لانتخاباتٍ جديدة، ورفع حظر التجوال الوطني، والإفراج عن المسجونين من حكومة خالدة ضياء السابقة والمعتقلين خلال الاحتجاجات[7].
وبناءً على هذا التصريح، قام رئيس الجمهورية بحل البرلمان في 6 أغسطس 2024 وتشكيل حكومة مؤقتة (حكومة تسيير أعمال) برئاسة الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل للسلام ومؤسس “بنك الفقراء” الدكتور محمد يونس استجابةً لمطالب الحركات الطلابية الاحتجاجية. وفي 8 أغسطس، أعلن يونس عن تشكيل حكومة مؤقتة ضمنت وزيرين من قادة الحركات الطلابية التي قادت الاحتجاجات الأخيرة، مع منح أعضاء الحكومة المؤقتة لقب مستشارين وليس وزراء. واتخذت حكومة يونس مجموعةً من الإجراءات وهي؛1- تشكيل لجنة من خمسة أعضاء برئاسة قاضٍ متقاعد للتحقيق في قضايا الانتهاكات القسرية، 2- رفع الحظر على حزب الجماعة الإسلامية الذي فرضته الشيخة حسينة واجد في سياق تشريعات مكافحة الإرهاب، التي وفقًا لها مُنع الحزب من خوض انتخابات عام 2013 واستبعاده من صناديق الاقتراع لأعوام 2014 و2018 و2024[8].
وبطبيعة الحال، شأنها شأن أي بلد نامي يتعرض لحالة من الاضطراب السياسي والانقلاب على الحكم، أسفرت تلك الأوضاع عن تداعيات سلبية على الاقتصاد، ناهيك عن الخسائر البشرية والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والمؤسسات الرسمية للدولة. فلم تكن مظاهرات يوليو 2024 هي الأولى من قوات وحركات المعارضة ضد نظام حكم الشيخة حسينة واجد، لكن القشة التي قسمت ظهر البعير وأشعلت نيران الغضب الاجتماعي وبلورت الحراك الاجتماعي هي الحكم القضائي الصادر عن المحكمة العليا في العاصمة دكا بتاريخ 5 يوليو 2024 والذي “يُعيد العمل بحجز نسبة 30% من الوظائف الحكومية الجديدة لأبناء وأحفاد المحاربين القدامى الذين قاتلوا في حرب استقلال بنجلاديش عن باكستان عام 1971، وحجز نسبة 26% من الوظائف لفئاتٍ غيرهم، وذلك استجابةً لمرافعة تقدم بها 7 من أبناء وأحفاد تلك الأسر”. فقد كان لهذا القرار ردود فعل شعبية غاضبة في بنجلاديش على المستويين السياسي والأكاديمي، خاصةً مع ارتفاع نسب التعليم وحساسية قضية توظيف الشباب الجامعي ومواجهة نسب البطالة المرتفعة[9].
فقد كانت الحكومة البنجلاديشية قد ألغت العمل بنظام الكوتا منذ عام 2018 لاعتبارات متعلقة بمعايير الكفاءة، واجتياز اختبارات القبول ومستوى التعليم، وهو ما لم يكن متوفرًا بنسب مرضية من بين الفئات التي تحدد لها ما يقرب من 56% من الوظائف الحكومية. لذا كان حكم المحكمة العليا مفاجئًا وصادمًا للمجتمع البنجلاديشي، وبعد سبعة أيام من المظاهرات، قامت محكمة التمييز بتجميد هذا القرار التمييزي، ثم تم إلغاؤه نهائيًا بعد مظاهرات دامية ضد النظام السياسي. وكان رد فعل رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد على تلك الأحداث هو اتهام معارضيها السياسيين وهم “حزب بنجلاديش الوطني” و”حزب الجماعة الإسلامية وجناحه الطلابي” بالمسؤولية عن أعمال العنف والتخريب التي صحبت احتجاجات الحركات الطلابية والمتظاهرين بسبب نظام الكوتا في الوظائف الحكومية ووصفتهم بــ “الرازاكار”[10]. في حين ردت “حركة طلاب بلا تمييز” التي قادت تنظيم الاحتجاجات بأن السلطات الرسمية في بنجلاديش هي المسؤولة عن التصعيد، مطالبةً بإقالة بعض الوزراء ومسؤولي الجامعات وقيادات الشرطة المتورطين في أعمال قتل الطلاب المتظاهرين. ومع استمرار التظاهرات وتدخل قوات الشرطة البنجلاديشية لوقف العنف، تصاعدت الأحداث وتعطلت حركة الاقتصاد والمجتمع، مما أدى إلى استقالة الشيخة حسينة رئيسة الوزراء ورحيلها إلى الهند في 5 أغسطس 2024. وأسفر ذلك عن حل البرلمان البنجلاديشي، حيث أعلن رئيس البرلمان محمد شهاب الدين حل البرلمان تمهيدًا لتشكيل حكومة انتقالية وتولي الجيش زمام الحكم بشكلٍ مؤقت. إلا أن المحتجين والمعارضين طالبوا بتولي الدكتور محمد يونس رئاسة الحكومة، وبالفعل عاد يونس من العاصمة الفرنسية باريس وأدى اليمين الدستوري في 8 يوليو 2024 كرئيس وزراء لبنجلاديش في الحكومة المؤقتة[11].
ويمكن رصد أبرز ملامح تأثير الاقتصادي على السياسي في تجربة بنجلاديش، على نحوٍ أفضى لما سبق من اضطرابات، فيما يلي:
كانت الشيخة حسينة واجد في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات بمثابة بوابة الأمل أمام بنجلاديش للمضي قدمًا في طريق التحول الديمقراطي، ولكن بعد وصولها للسلطة عام 2009 كان الواقع غبر المأمول حيث أُجريت ثلاثة انتخابات خلال فترة حكمها (2009- 2024) عُرفت بعدم النزاهة والتزوير والتلاعب، هذا إلى جانب استبعاد وقمع المعارضة من خلال عمليات قتل وإخفاء قصري ومخالفات قانونية وقضائي، على نحو ما أُشير. وفي الوقت ذاته، شهدت فترة حكم الشيخة حسينة ارتفاع معدلات التعليم بين الشباب وزيادة الوعي، مما أدى إلى حراكٍ اجتماعي بين الفئات المتعلمة وتصاعد نمط الثقافة السياسية المشاركة التي تتطلب نظم حكم ديمقراطية حقيقية تحترم الدستور والقانون وتكفل الحقوق والحريات العامة وتراعي العدالة الاجتماعية. لكن ارتفاع مستويات التعليم في بنجلاديش وفي مثيلاتها من دول الجنوب العالمي ودول العالم الإسلامي مثلت عبئًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا كبيرًا بسبب عدم توافر فرص العمل التي تستوعب الشباب المتعلم. في الوقت نفسه، تعاني بنجلاديش ضعف البنية التحتية الأساسية، وضعف مصادر وقطاعات الاقتصاد الذي يعتمد بشكلٍ أساسي على قطاعي الزراعة وإنتاج الحرير وتصنيع الملابس الجاهزة وصناعة النسيج ما جعلها خامس أكبر مُصدٍر للملابس الجاهزة إلى الاتحاد الأوروبي ومن بين أكبر عشرة موردين للملابس إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هذا إلى جانب قطاعاتٍ صناعية تساهم بنسب أقل في الناتج المحلي الاجمالي مثل صناعات المستحضرات الصيدلانية، وبناء السفن، والخزف، والمنتجات الجلدية، وصناعة الإلكترونيات والاتصالات[12].
ثانيًا- “بنك الفقراء” وتجربة بنجلاديش في محاربة الفقر:
كانت بنجلاديش على صعيد الأوضاع الاقتصادية تُعاني عقب استقلالها عن باكستان من انتشار الفقر بين الأغلبية العظمى من السكان إلى أن ابتكر الخبير الاقتصادي البنغالي الدكتور محمد يونس فكرة “بنك الفقراء”. وقد قام بتأسيسه بشكلٍ رسمي بعد الحصول على موافقة وتصريح من الحكومة والبنك المركزي عام 1983، وحاز بسببه على جائزة نوبل للسلام عام 2006 بسبب دور “بنك غرامين” في مكافحة الفقر في بنجلاديش من خلال نظام القروض الصغيرة المُيسرة أو ما يُعرف في الوقت الحالي بــ “القروض المتناهية الصغر”. وكان “بنك غرامين” أو “مصرف القرية” بمثابة مصرف متكامل يعمل في خدمة الفقراء وخاصةً السيدات.
ثم شهدت بنجلاديش نموًا مذهلًا في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة حكم الشيخة حسينة واجد صاحبهُ انتشال أكثر من 25 مليون شخص من الفقر وتضاعف دخل الفرد ثلاث مرات. ففي خلال العام المالي 2017-2018 شهدت بنجلاديش أكبر معدل لنمو الناتج الإجمالي المحلي بنسبة نمو وصلت إلى 7.86%؛ مما كان له تأثير إيجابي على معدلات الفقر إذ أسفر عن إنقاذ 50 مليون مواطن من الفقر المدقع وارتفاع مستوى دخل الفرد إلى1.751 دولار يوميًا. مما أدى إلى ظهور توقعات في ذلك العالم بأن تشهد بنجلاديش نموًا حقيقيًا سنويًا في الناتج المحلي الإجمالي السنوي وفي معدلات الاستهلاك والاستثمار والنمو الاقتصادي خلال الفترة من 2018 إلى 2023.
فوفقًا لوثائق منظمة الأمم المتحدة؛ “نالت بنجلاديش استحسانًا واسعًا باعتبارها رائدة في تنفيذ الأهداف الإنمائية للألفية. وحققت تقدمًا كبيرًا في مجالات الحد من الفقر، وضمان الأمن الغذائي، والالتحاق بالمدارس الابتدائية، وتكافؤ الجنسين في التعليم الابتدائي والثانوي، وخفض معدلات وفيات الرُضع والأطفال دون سن الخامسة ونسبة وفيات الأمومة، وتوسيع نطاق التحصينات، والحد من انتشار الأمراض المعدية. وتحققت أهداف كثيرة قبل الموعد المحدَّد بوقتٍ طويل، وتحققت بعض الأهداف الأخرى في غضون الموعد النهائي المحدد في عام 2015. وشاركت بنجلاديش بدورٍ فاعل في صياغة خطة التنمية لما بعد عام 2015 التي سبقت خطة عام 2030”. وقد تزامنت الخطة الخمسية السابعة (2016-2020) لحكومة بنجلاديش مع موعد انطلاق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (2016-2030)، وكان ذلك فرصةً لدمجها في الخطة الخمسية السابعة وأصبحت بنجلاديش بذلك إحدى الدول الرائدة في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. وكان هدفي؛ القضاء على الفقر والقضاء على الجوع هما في مقدمة أهداف التنمية المستدامة في بنجلاديش[13].
ومع ذلك، كان البعد الاقتصادي عاملا رئيسيًا وراء سقوط النظام السياسي لأنه على الرغم من تسجيل بنجلاديش معدلات نموٍ مرتفعة، إلا أن فوائد هذا النمو لم تكن موزعة بشكلٍ متساوٍ على فئات المجتمع وكانت معظم مكاسب الاقتصاد تصب في صالح مؤيدي حزب رابطة عوامي وطبقة الأغنياء. وقد كان لذك تأثيرات سلبية على حالة درجة الرضاء الشعبي، حيث زادت نفقات المعيشة وارتفعت تكاليف المرافق مع رفع الحكومة أسعار الكهرباء والغاز والخدمات العامة الأساسية.
في هذا السياق، وفي مخض الحديث عن التنمية المستدامة والمتطلبات الحقيقية لهذه التنمية، يدفع الدكتور محمد يونس في كتابه “عالم بلا فقر.. دور الإقراض بالغ الصغر في التنمية” من منظورٍ مختلف للتنمية والتكافل بأن؛ “المطلوب هو النَّظر في الاحتِياجات الأساسيَّة قبل اعتماد مليارات الدّولارات في إقامة طرق وجسور، وشقّ ترع وقنوات نهريَّة وسدود وغيرها، فتلك الخطط رغْم طموحاتِها تنطوي على مجازفات بما هو متاح، لصالِح التَّنمية البعيدة جدًا، فما مصير الأجيال الحاليَّة الَّتي تريد تنمية ونهضة تشعر بها في سدِّ حاجاتها والقضاء على الفقر، والجوع الذي صار شبحًا يطارد الكثير من الشعوب النَّامية”. ويقصد يونس بذلك أن توجيه الإنفاق في مشروعات التنمية الشعبية والاستثمار الاجتماعي من خلال القضاء على مؤشرات الفقر والجوع وما هو مرتبط بها من قضايا هو أولى خطوات طريق تحقيق التنمية المستدامة؛ لما لذلك من تأثيراتٍ إيجابية على القيمة المضافة والإنتاجية الفعلية لاقتصادات البلدان النامية، والتي تنعكس في نهاية المطاف في تقديرات ومعدلات حقيقية وواقعية لمعدلات الناتج المحلي الإجمالي لأية دولة. ويستكمل الدكتور يونس في كتابه “.. وتحتاج البلدان النامية لكي تلحق بركب البلدان المتطورة تكنولوجيًا واقتصاديًا إلى تحديث منظوماتها المالية والاستثمارية والتعليمية، والتخلص من البيروقراطية والفساد والهوة الواسعة بين الطبقات. وعلى الصعيد المجتمعي، تحتاج البلدان النامية إلى بناء اقتصادات تنموية حقيقية، وذلك من خلال توجيه الاستثمار والإنفاق إلى مشروعاتٍ صناعية وإنتاجية بسيطة وصغيرة من شأنها أن تدعم الفقراء وتدخلهم في سوق العمل الإنتاجي من جهة، ومن جهةٍ أخرى أن تخلق مناخ جاذب للاستثمارات والسياحة وداعم للصناعات المتوسطة والمكملة التي تحتاج إلى أيدي عاملة مما يساعد على تقليل نسب البطالة والفقر معًا”[14].
ومع ظهور فكرة التمويل الصغير في سياق “بنك غرامين” أو “مصرف الفقراء” أو “مصرف القرية”، كما هو معروف في بنجلاديش، بدأت البلد في مسارات ومراحل لمكافحة الفقر والصعود. لأن فكرة “بنك غرامين” قامت على العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر الريفي من خلال تمويل أفقر الفقراء، وعلى وجه الخصوص السيدات الريفيات. وقامت سياسة “بنك الفقراء” على أساس الإقراض التضامني للفقراء -وخاصةً السيدات- الذين يواجهون عقبات في الحصول على الخدمات المالية الرسمية. وتقوم فكرة الإقراض التضامني على تمكين الفئات المهمشة والأكثر فقرًا وجوعًا في المجتمع، بناءً على “مبدأ المسئولية التضامنية” القائمة على السمعة ومقتضاها أن؛ “المقترضين المحتملين يُشكِّلون مجموعاتٍ من خمسة أشخاص في نفس الوضع، والذين يُسجلون كـ “مجموعة دعم” ويُقرِّرون فيما بينهم أول عضوين يتمتَّعان بامتياز التقدُّم بطلبٍ للحصول على قرض، لا يضمن أعضاء المجموعة الخمسة قروض بعضهم البعض، لكن القروض المتتالية لأي عضو في مجموعة معينة تعتمد على تاريخ السداد لجميع أعضاء المجموعة”[15].
فقد عانت بنجلاديش من ارتفاع معدلات الفقر بين المواطنين في فترة ما بعد الانفصال عن باكستان لعدة أسباب منها؛ 1- الكثافة السكانية المصحوبة بندرة الموارد، وصغر المساحة، مع وجود مشكلات الأمية وارتفاع معدلات المواليد وانتشار المرض. 2- البطالة الدورية الناتجة عن عدم تنوع النشاط الاقتصادي للبلد، واعتماد غالبية السكان على العمل في قطاع الزراعة الذي يخضع لتغيراتٍ موسمية تتأثر بالطقس والكوارث الطبيعية، هذا ناهيك عن انخفاض أجور العاملين بصفةٍ عامة. 3- تأثر الإنتاجية الزراعية بسبب الاعتماد على الأساليب الزراعية التقليدية لارتفاع تكلفة أدوات الزراعة الحديثة، وصعوبة حصول المواطنين الفقراء والسيدات على مصادر التمويل الرسمية بإجراءات وضمانات ميسرة. ونتيجة لهذه الظروف كانت أهم أهداف “بنك غرامين” تتمحور حول؛ (1- تقديم الخدمات المالية للفقراء من الرجال والنساء لكي يُصبحوا منتجين بالاعتماد على الذات، 2- القضاء على استغلال الفقراء من قبل مقرضي المال المرابين، 3- خلق فرص العمل الحر لكثيرٍ من العاطلين عن العمل في القطاع الزراعي، 4- جمع المحرومين والأسر الأكثر فقرًا وإعطائهم فرصة للحصول على قروض لإخراجهم من دائرة الفقر). لذا تمثلت أهم برامج “بنك غرامين” للقضاء على الفقر في؛ (برنامج فئة المتسولين، برنامج إسكان الفقراء، برنامج قروض المشروعات الصغيرة، برنامج المنح الدراسية، برنامج المعاشات التقاعدية للمقترضين، برنامج بث روح المشاركة وبناء الثقة ونقل وتبادل المعلومات والخبرات، برنامج إعادة التأهيل بعد الكوارث)[16].
وإلى جانب تجربة “بنك الفقراء” التي سهلت على الفقراء تحسين مستوى معيشتهم وتنفيذ مشروعاتهم الصغيرة ومتناهية الصغر وانتشالهم من الفقر والجوع، اعتمدت بنجلاديش استراتيجيات لضمان تحقيق نمو اقتصادي سريع، ووضعت استراتيجيات تكميلية تجعل النمو أكثر شموليةً ومتجاوبًا مع الاحتياجات وأكثر استدامة وقدرة على الصمود في مواجهة التغيرات المناخية. هذا إلى جانب برامج شبكات الأمان الاجتماعي الحكومية التي ساعدت على الحد من الفقر وعدم المساواة، من خلال معالجة المخاطر وجوانب الضعف لدى الفقراء والتصدي للصدمات التي يواجهونها في حياتهم. وتُشجع سياسة الحكومة البنجلاديشية النساء على دخول سوق العمل الريفي بدرجةٍ كبيرة لمساعدتهم على تخطي الفقر، كذلك اعتمدت بنجلاديش استراتيجيات رسمية محددة لتقليل الفجوة في الأجور بين الجنسين. وأخيرًا ساهم كل من، قانون العمالة والهجرة إلى الخارج الذي صدر عام 2013 وسياسة العمل في الخارج المعتمدة في 2016، في تنظيم وتأمين الهجرة لجميع العاملين المهاجرين بمن فيهم النساء وزيادة تدفقات التحويلات المالية السنوية للعاملين في الخارج[17].
ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، وصلت بنجلاديش إلى فئة الدخل المتوسط الأدنى في عام 2015، وقد دعمت ظروف الاقتصاد الكلي المستقرة متوسط الدخل، وحقق الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي نموًا بنسبة 6.4% بين عامي 2010 و2023. وانخفض معدل الفقر من 11.8% من السكان عام 2010 إلى 5.0٪ عام 2022، وهذا على أساس خط الفقر الدولي البالغ 2.15 دولار في اليوم (باستخدام معادل القوة الشرائية لعام 2017 وسلسلة رعاية اجتماعية مماثلة). وبالمثل، انخفض الفقر المعتدل من 49.6% عام 2010 إلى 30.0% عام 2022. علاوة على ذلك، تحسنت نتائج التنمية البشرية على العديد من المستويات، مثل انخفاض معدل الوفيات والتقزم بين الأطفال، وزيادة معدلات معرفة القراءة والكتابة والحصول على الكهرباء. وبلغت القيمة الحقيقية للناتج المحلي الإجمالي لبنجلاديش 437.42 مليار دولار عام 2022 بمعدل نمو سنوي بلغ 5.80%. إلا أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قد انخفض إلى 5.2% في السنة المالية 2024 مقارنةً بنسبة 5.8% عام 2023 نتيجة الأحداث السياسية التي شهدتها البلاد والتداعيات اللاحقة لها[18].
ثالثًا- حكومة محمد يونس: التحديات التي تواجهها بنجلاديش في المرحلة الراهنة على المستويات (المحلي، والإقليمي، والدولي)
بعد حالة الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي واستقالة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد في أغسطس 2024، تواجه بنجلاديش عدة تحديات رئيسية معقدة ومتداخلة في ظل كونها إحدى دول العالم النامي، وكونها إحدى الدول ذات الكثافة السكانية العالية في العالم وأكثرها تعرضًا للكوارث الطبيعية وتأثيرات تغير المناخ. ويمكن تقسيم هذه التحديات إلى مجموعتين من التحديات (تحديات محلية أو داخلية، تحديات خارجية إقليمية ودولية):
المجموعة الأولى: تحديات محلية
1- تحدي استعادة الاستقرار السياسي والأمن: شهدت بنجلاديش احتجاجات واسعة وأعمال عنف وقتل، مما أسفر عن حالة من عدم الاستقرار الأمني يتعين على الحكومة الانتقالية العمل على معالجتها وضمان الأمن للمواطنين. كما تواجه الحكومة الانتقالية في الوقت الحالي تحدي الاستقطاب السياسي والتوترات المستمرة بين الأحزاب والحركات الطلابية، ناهيك عن انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية مما يضعف ثقة المواطنين ويُعيق الاستثمارات الأجنبية[19]. أيضًا من ملامح عدم الاستقرار السياسي ومن ثم الاقتصادي أثناء مرحلة الانتقال السياسي، أنه في ظل حل البرلمان ومطالبة الحزب الوطني البنجلاديشي -حزب المعارضة الرئيسي- بإجراء انتخابات جديدة في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من الحاجة إلى إصلاحات سياسية وقانونية وإعادة استقلال مؤسسات الدولة، تقف الحكومة الانتقالية أمام تحدي خطير وهو إعادة بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات الحكومية[20]. وفي هذا السياق، أعلن محمد يونس أن الانتخابات الوطنية البنجلاديشية قد تُجرى بحلول نهاية عام 2025، بناءً على استكمال الإجراءات والإصلاحات الضرورية للانتخابات[21].
2- عدم الاستقرار الاقتصادي والأزمة الاقتصادية: فقد أسفرت المظاهرات العنيفة وردود فعل رجال الشرطة عن خسائر اقتصادية سُجلت قيمتها منذ الشهر الأول من تغير نظام الحكم بأكثر من 10 مليار دولار. لأنه بسبب طول فترة التظاهرات وعدم الاستقرار الأمني أُغلقت مصانع الملابس الجاهزة وتعطلت حركة العمل والإنتاج التي تُغطي حوالي85% من صادرات بنجلاديش. وقد ورثت الحكومة المؤقتة التي تولت السلطة بعد سقوط نظام الشيخة حسينة اقتصادًا هشًا يعاني من ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي، وركود الاستثمار الخاص، وتصاعد الديون، وعدم الكفاءة في تنفيذ المشاريع العامة، وضعف القطاع المالي والمصرفي. فوفقًا لمؤشرات وقياسات عام 2024، بلغ معدل التضخم في بنجلاديش 9.7%، وبلغ معدل البطالة بين الشباب من سن 15 إلى 24 عام 15.7%. لذا تواجه الحكومة الانتقالية تحدي العمل على إعادة تنشيط الاقتصاد، ودعم المتضررين. ولمعالجة التضخم أقر محافظ بنك بنجلاديش المركزي الجديد سياسة نقدية انكماشية، حيث رفع سعر الفائدة إلى 10%، ومع ذلك ارتفع معدل التضخم إلى 11.38% في نوفمبر 2024 مع ارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية إلى 13.8% خلال الفترة نفسها[22].
وبعد الأحداث السياسية التي شهدتها بنجلاديش عام 2024 وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، أصبحت البلاد تعاني من ارتفاع نسبة الفقر والتي وصلت عام 2024 إلى أن20% من السكان تحت خط الفقر، مع تفاقم مشكلة البطالة بين الشباب وخريجي الجامعات. ومما يُعزز من استمرار مشكلتي الفقر والبطالة في بنجلاديش الطبيعة الهيكلية للاقتصاد الذي يعتمد بشكلٍ كبير على قطاع تصنيع الملابس الجاهزة والمنسوجات، والذي تمثل صادراته 80% من إجمالي صادرات بنجلاديش؛ مما يجعل الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي في تهديدٍ مستمر لتعرضه لتقلبات السوق العالمية وحركة الطلب والعرض. هذا إلى جانب تأثر الاقتصاد البنجلاديشي بالأزمات العالمية مثل الأزمة الروسية الأوكرانية وتأثيرها على أسعار الوقود والغذاء؛ مما أسفر عن ارتفاع معدل التضخم وعدم استقرار الأسعار وتضاؤل الاحتياطيات النقدية مما أدى إلى زيادة عبء الديون الخارجية مع ارتفاع تكاليف خدمة الديون[23].
وقد أدى الإنفاق المفرط على مشروعات البنية التحتية إلى استنزاف الموارد المالية الحكومية في ظل المحسوبية وفساد رجال الأعمال والمقربين من حزب رابطة عوامي بقيادة الشيخة حسينة واجد؛ مما أسفر عن الفشل في سداد القروض. وفي هذا السياق، صرح “الدكتور إحسان منصور” محافظ البنك المركزي الجديد في بنجلاديش بأن “إصلاح مشكلات سداد القروض سيستغرق سنوات، وستظل البلاد بحاجةٍ إلى المزيد من الدعم المالي، بما في ذلك خطة إنقاذ أخرى من صندوق النقد الدولي IMF”[24].
وفي ديسمبر 2024، أعلن صندوق النقد الدولي الموافقة على الإفراج عن أموال بنجلاديش، مع مطالبتها بمزيدٍ من الإصلاحات للحصول على دعم جديد بقيمة 750 مليون دولار. وشملت مشروطيات الصندوق الفصل بين السياسة الضريبية والإدارة الضريبية، وزيادة مرونة سعر الصرف، وخفض الإنفاق على الدعم والمتأخرات في قطاعي الكهرباء والأسمدة، وكذلك معالجة نقاط الضعف في القطاع المصرفي[25]. وفي يناير 2025، وخلال زيارة قام بها “توحيد حسين” كبير مستشاري الشؤون الخارجية في بنجلاديش إلى الصين، وافقت الصين على طلب بنجلاديش تمديد فترة سداد القروض المستحقة لها من 20 إلى 30 سنة مع نية النظر في طلب بنجلاديش تخفيض سعر الفائدة على القروض إلى 1%[26].وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الحكومة المؤقتة برئاسة “يونس” لمواجهة الركود الاقتصادي وتحسين الاقتصاد، إلا أن الأوضاع الاقتصادية لم تستقر بعد حيث خفض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي البنجلاديشي لعام 2025 إلى 3.8% من توقعاته السابقة البالغة 4.6%. وجاءت تلك التوقعات بناءً على تقارير مكتب الإحصاءات البنجلاديشي في يناير 2025 بأن نمو الناتج المحلي في الربع الأخير من عام 2024 بلغ 1.8% فقط موزعةً على قطاعات (الزراعة بنسبة 4.2%، التصنيع 2.1%، الخدمات 1.5%). ومع ذلك، شهد قطاع تصدير الملابس الجاهزة انتعاشًا مرةً أخرى بنسبة نمو بلغت 17.7% في ديسمبر 2024 بحجم صادرات سنوي بلغ 50 مليار دولار[27].
3- تحدي تحقيق العدالة والمصالحة الاجتماعية: تعهد الجيش بالتحقيق في جميع عمليات القتل التي حدثت خلال الاحتجاجات؛ لذا يجب على الحكومة الانتقالية ضمان محاسبة المسؤولين وتعزيز المصالحة الوطنية. وبصفةٍ عامة، تعاني بنجلاديش من تحدياتٍ على الصعيد الاجتماعي بسبب الكثافة السكانية العالية التي تؤثر على مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، ناهيك عن عدم كفاية تلك الخدمات على المستوى الكمي بسبب ضغط الكثافة السكانية على الموارد والخدمات الأساسية. ويرتبط بذلك مشكلة ارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية، خاصةً الهجرة عبر طريق البحر إلى ماليزيا بحثًا عن فرص عمل[28].
4- الكوارث الطبيعية والتغيرات البيئية: تُصنف بنجلاديش كواحدةٍ من أكثر الدول تأثرًا بتغير المناخ على مستوى العالم بسبب تعرضها للفيضانات والأعاصير، التي تهدم آلاف المنازل في مناطق عديدة منها منطقة “سيلهيت” ومنطقة “رنجبور”. هذا ناهيك عن مشكلات تآكل السواحل بسبب ارتفاع مستوى البحر مما يهدد الزراعة، ويؤدي إلى تهجير الملايين من منازلهم، وتعطيلهم عن العمل في ظل مشكلة نقص المياه النظيفة وتلوث المياه الجوفية بالزرنيخ في مناطق واسعة، مما يُعرض الصحة العامة للخطر. فلا يزال غالبية سكان بنجلاديش يعيشون في المناطق الريفية ويعتمدون على الزراعة لكسب العيش، لكنها دائمًا تكون عرضةً للأمطار الغزيرة والفيضانات والأعاصير والتملح ونوبات الجفاف بما يؤثر على الإنتاج الزراعي ومستوى معيشة غالبية المواطنين. ذلك يزيد من خطر انعدام الأمن الغذائي، واختفاء فرص الدخل للمزارعين، وانتشار الأمراض المرتبطة بالمياه. وبناءً عليه، لا تزال بنجلاديش أمام تحدي الفقر حيث لا يزال أكثر من 25 مليون شخص من السكان يعيشون في الفقر. وعلى الرغم من أن بعض التوقعات الاقتصادية تشير إلى أن معدل الفقر سينخفض في بنجلاديش من 20 إلى 15%، إلا أن ذلك ما يزال بعيدًا عن القدر الكافي للقضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030 مع استمرار عدم العدالة والمساواة في توزيع الدخل القومي. ومع ذلك، لعب قطاع التحويلات المالية والبنوك دورًا هامًّا في الحد من الفقر[29].
5- مطالب الأقليات وحقوق الانسان: تواجه حكومة يونس تحدي حماية حقوق الأقليات حيث اتهمت مجموعات حقوقية الحكومة الانتقالية بعدم توفير الحماية الكافية للأقليات الدينية والإثنية، مما يتطلب الاهتمام باتخاذ إجراءات خاصة لضمان حقوق هذه الفئات، خاصةً ما أُثير في الفترة الحالية من انتهاكات وأعمال عنف ضد الهندوس والتي أحدثت حالة من عدم الاستقرار الداخلي وعمقت من توتر العلاقات بين الهند وبنجلاديش. وبصفةٍ عامة، تواجه الحكومة المؤقتة الحالية في بنجلاديش سيلا من المطالب من مختلف الفئات والأقليات المتضررة من استقالة الشيخة حسينة وتركها البلاد[30].
المجموعة الثانية: التحديات الخارجية (تحديات إقليمية ودولية)
تواجه الحكومة الانتقالية ببنجلاديش تحديات إقليمية ودولية معقدة، تقف أمام مسيرتها في تحقيق الاستقرار وتحقيق التحول الديمقراطي بعد سقوط نظام حسينة، وتتمثل التحديات الإقليمية والدولية في الآتي:
1- العنف ضد الهندوس والتداعيات الاقتصادية للعلاقات المتوترة بين الهند وبنجلاديش: يبلغ عدد السكان الهندوس في بنجلاديش 13 مليون نسمة، وتوجد نسبة كبيرة منهم يدعمون حزب رابطة عوامي والشيخة حسينة واجد. وأشارت تقارير إخبارية دولية عن وجود هجمات ضد المعابد والشركات والأسر الهندوسية في بنجلاديش بعد سقوط نظام حسينة، وهو ما عبر مجلس الوزراء الجديد عن القلق حياله وضرورة التواصل العاجل مع الجهات المعنية. إلا أن الهجمات على الهندوس استمرت ووصلت إلى 2000 هجوم منذ 4 أغسطس 2024، أسفرت عن خروجهم في احتجاجات. في حين أكد بيان للسكرتير الصحفي للدكتور محمد يونس رئيس وزراء الحكومة المؤقتة أنه؛ “تم اعتقال الأشخاص الذين ثبت تورطهم في أعمال العنف الطائفية”، كما أضاف؛ “تعتقد السلطات أن جميع الهجمات لم تكن ذات أساس ديني”. وقد زادت قضية الهندوس اشتعالًا في نهاية نوفمبر 2024 عندما تم اعتقال الراهب الهندوسي والمتحدث باسم منظمة هندوسية مقرها في بنجلاديش “تشينموي كريشنا داس”؛ لاتهاماتٍ بالتحريض على الفتنة وعدم احترام العلم الوطني لبنجلاديش خلال مسيرة حاشدة. فقد أثار اعتقال الراهب أعمال عنف من قبل أنصاره أدت لتدخل قوات الأمن، وحدوث أعمال عنف متبادلة[31].
وبطبيعة الأمر، أدى اعتقال “داس” إلى زيادة توتر العلاقات بين الهند وبنجلاديش، وفي ديسمبر 2024 قام مجموعة من المتظاهرين في الهند باقتحام مقر البعثة الدبلوماسية البنجلادشية بالهند وطالبوا برحيل البعثة وإنزال العلم البنجلاديشي وإتلاف المبنى. وهو ما وصفته الحكومة الهندية ممثلةً في وزارة الخارجية بأنه “مؤسف للغاية”، وتعهدت بزيادة الأمن حول المباني الدبلوماسية البنجلاديشية. ثم زادت حدة التوترات في العلاقات الثنائية عندما تبين أن الشيخة حسينة واجد هربت إلى الهند وتقيم فيها[32]. وقد زاد من مشاعر الغضب الشعبي ضد الهند أيضًا فشلها في إخطار بنجلاديش قبل فتح بوابات محطة “دومبور” للطاقة الكهرومائية في “تريبورا”. وقد أدت هذه التجاوزات الهندية إلى اتخاذ قوات حرس الحدود البنجلاديشية موقفًا قويًا جديدًا، وتحول منطقة الحدود بين الهند وبنجلاديش إلى أكثر مناطق الحدود دموية وعنف حول العالم، خاصةً بعد أن حاولت قوات أمن الحدود الهندية إقامة سياج من الأسلاك الشائكة على طول الحدود في “باتجرام أوبازيلا”. هذا، وتُمثل التصرفات الحازمة التي تتخذها قوات حرس الحدود البنجلاديشية تجاه الهند تغييرًا كبيرًا عما كان الحال عليه في ظل نظام حسينة، حيث عدم فاعلية قوات الحدود وسلبيتها تجاه الأحداث في المنطقة الحدودية وتعرضها للانتقادات المستمرة. ومع ذلك، يؤدي هذا التوجه الجديد لقوات حرس الحدود إلى مزيدٍ من التوتر في العلاقات الثنائية مع الهند، ويزيد أيضًا من مخاوف تفاقم المشكلات الإقليمية بما يؤثر سلبًا على حركة التجارة ونمو الاقتصاد[33].ومن ثم، تقف حكومة يونس أمام تحدي إدارة العلاقات مع الهند التي تُعد عاملًا رئيسيًّا في الديناميكيات الإقليمية، خاصةً أن بنجلاديش تعتمد في الوقت الحالي بشكلٍ كبير على التجارة مع الهند وكذلك التبادلات الثقافية والشعبية الثنائية؛ بما يجعها أكثر حرصًا على تحقيق موازنة في العلاقات بشكلٍ أكثر فعالية قبل عام 2026 حيث موعد تجديد اتفاقية تقاسم مياه “نهر الجانج”، التي تم التوقيع عليها بين الهند وبنجلاديش عام 2016 اعتمادًا على بياناتٍ غير دقيقة في ذلك الوقت، وهي لا تلبي احتياجات بنجلاديش من المياه العذبة وسط تحديات تغير المناخ. هذا ناهيك عن حاجة الحكومة المؤقتة الشديد إلى اعتراف الهند بجهودها الإصلاحية، والاعتراف المتبادل بأهمية إعادة ضبط وإدارة العلاقات الثنائية[34].
2- أعباء لاجئي الروهينجا: تُعد مشكلة لاجئي الروهينجا في بنجلاديش أحد التحديات الإقليمية التي تواجهها الحكومة المؤقتة مع جارتها ميانمار التي تقع على الحدود الجنوبية الشرقية لها، حيث تستضيف بنجلاديش أكثر من مليون لاجئ من الروهينجا الهاربين من العنف والحرب الأهلية في ميانمار. ويؤثر وجود لاجئي الروهينجا على علاقات بنجلاديش بجيرانها، كما أن له تداعيات اقتصادية وإنسانية وأمنية تمثل عراقيل وأعباء على الحكومة الانتقالية. ففي أغسطس 2017، حدث نزوح جماعي للروهينجا إلى بنجلاديش عندما شن النظام العسكري في ميانمار هجمات مسلحة وارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضدهم[35].
ومنذ عام 2017 وحتى وقتنا هذا، تطورت أزمة لاجئي الروهينجا من قضية إنسانية في المقام الأول إلى تحدي معقد له أبعاد سياسية، وأمنية، واقتصادية، واجتماعية عميقة. ومع تلاشي الاهتمام العالمي بقضية مسلمي الروهينجا ثم الانقلاب العسكري في ميانمار عام 2021 أصبح الوضع أكثر تعقيدًا وأصبحت عملية إعادة الروهينجا إلى وطنهم غير مؤكدة. وفي الوقت ذاته يمثل استمرار وجود الروهينجا في بنجلاديش ضغطًا على الموارد وعبئًا على الحكومة الحالية، بما يتطلب تمويلًا دوليًا ضروريًا لتقاسم الأعباء واستدامة جهود المساعدات. لذا؛ تسعى بنجلاديش إلى حل تلك الأزمة من خلال زيادة الضغط الدبلوماسي على ميانمار لتسهيل العودة الآمنة للاجئي الروهينجا. ويعني استمرار الحرب الأهلية في ميانمار احتمالات تدفق موجة أخرى من اللاجئين إلى بنجلاديش بما يُنذر بأزمة إنسانية تواجه بنجلاديش في تلك المرحلة الصعبة التي تمر بها على كافة الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية[36].
3- التنافس الجيوسياسي الأمريكي الصيني وموقع بنجلاديش الاستراتيجي: تتمتع بنجلاديش بموقع استراتيجي كحلقة وصل بين جنوب آسيا وبقية منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لذا تعتبر محل تنافس في المنطقة بين العديد من القوى الإقليمية والدولية، وهي شريك راغب في مشروع الحزام والطريق الصيني. وفي الوقت ذاته، تتبنى بنجلاديش سياسة خارجية محايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتؤكد على المشاركة الوثيقة مع كلٍ من الصين والولايات المتحدة الأمريكية. وفي ظل التنافس الاستراتيجي والاقتصادي بين واشنطن وبكين، تنتهج بنجلاديش مثل غيرها من الدول النامية والاقتصادات الناشئة نهج متوازن ودقيق. ومع ذلك، أصبحت بنجلاديش على وشك الانضمام إلى تجمع البريكس، وهو ما قد يترتب عليه تداعيات على العلاقات بين دكا وواشنطن، خاصةً وأن حكومة الشيخة حسينة واجد منذ وصولها للسلطة عام 2009 واجهت انتقادات أمريكية بشأن حقوق الإنسان والانتخابات غير النزيهة في عامي 2014 و2018. وفي عام 2021، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على النخبة شبه العسكرية في بنجلاديش واتهمتها بارتكاب عمليات قتل خارج نطاق القانون والاختفاء القسري وانتهاكات حقوق الإنسان. وفي العام نفسه، لم يدرج الرئيس الأمريكي جو بايدن بنجلاديش في قمته من أجل الديمقراطية التي تضم 110 من الدول. وفي مايو من نفس العام أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن سياسة جديدة للتأشيرات من أجل “تعزيز الانتخابات الديمقراطية في بنجلاديش”. وبموجب هذه السياسة تستطيع الولايات المتحدة أن تُقيد تأشيرات الدخول للأفراد الذين تعتقد أنهم مسؤولون عن تقويض العملية الانتخابية الديمقراطية في بنجلاديش. وفي المقابل ادعى مسئولون في بنجلاديش أن الولايات المتحدة تسعى إلى السيطرة على جزيرة سانت مارتن ذات الأهمية الاستراتيجية، وأن هناك مؤامرة لتغيير النظام وإبعاد الشيخة حسينة واجد عن الحكم. ومع هذه التوترات تسعى واشنطن باستمرارٍ إلى إشراك بنجلاديش في الاستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن إعلان بنجلاديش اهتمامها بمجموعة البريكس يحبط هذه الجهود الأمريكية[37].
ومن جانبها، اغتنمت بكين الفرصة لإظهار دعمها لنظام حسينة قبل سقوطه، فقد وجه المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية اتهامًا إلى الولايات المتحدة بالتدخل في الشؤون الداخلية لبنجلاديش بحجة الديمقراطية وحقوق الإنسان. في هذا السياق، يُنظر استراتيجيًا إلى رغبة بنجلاديش في الانضمام إلى تجمع البريكس باعتباره رفضًا ضمنيًّا للولايات المتحدة واستراتيجيتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، خاصةً وأن بنجلاديش تجمعها مشاريع تبلغ قيمتها مليارات الدولارات مع كلٍّ من الصين والهند وروسيا واليابان[38].
وقد كان لحركة التغيير السياسي التي شهدتها بنجلاديش في منتصف 2024 وسقوط نظام حسينة واجد تداعيات على منطقة الهندي والهادئ مع انتهاء علاقات نظام حسينة القوية مع الهند، والذي قد يؤدي إلى توسع المصالح مع الصين وفتح آفاق لمشروعات تمويلية واستثمارية صينية في بنجلاديش. لذا تعتبر علاقات بنجلاديش مع واشنطن من أكثر التحديات التي تواجهها دكا في ظل المرحلة الانتقالية، حيث تحتاج واشنطن إلى إعادة ضبط وتقويم استراتيجيتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بعد أن فقدت نفوذها في كل من أفغانستان وسيريلانكا وجزر المالديف ومؤخرًا في بنجلاديش[39].
ومن جانبها وسعت الصين استراتيجيتها في منطقة جنوب آسيا لتضم كلٍ من باكستان وبنجلاديش، ومن خلال الحاجة الملحة في الداخل البنجلاديشي إلى مشروعات التنمية والتطوير الاقتصادي والنقدي، استطاعت الصين أن تحقق تواجدًا ونجاحًا كبيرًا في بنجلاديش وأصبحت الأخيرة تحظى باهتمام المفكرين الاستراتيجيين الصينيين على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي. كانت سياسة الصين تجاه منطقة جنوب آسيا تبدو ذات توجه عدواني وانتهازي (ضم التبت، الحرب الهندية الصينية، بحر الصين الجنوبي، توجهاتها القلقة تجاه كل من اليابان ودول جنوب شرق آسيا). كما أيدت بكين باكستان بقوة في حرب النضال والانفصال ورفضت في البداية الاعتراف ببنجلاديش كدولة مستقلة وعارضت انضمامها إلى منظمة الأمم المتحدة لغرض استرضاء باكستان لأنها كانت تسهل التقارب بين الصين والولايات المتحدة في ذلك الوقت، بل وكانت بنجلاديش في ذلك الوقت بعيدة عن رؤى بكين الاستراتيجية في منطقة جنوب شرق آسيا. ومع كل ذلك، حدث تغير في الأولويات الاستراتيجية الصينية في المنطقة صاحبهُ تحول في سياسة الصين تجاه بنجلاديش من العداء إلى الصداقة. أو إذا صح التعبير أصبحت الصين تنظر إلى بنجلاديش من منظور متغير وهو أنها -إلى جانب كل من (كوريا الشمالية، إندونيسيا، تايلاند، سريلانكا، جزر المالديف، وميانمار)- منصة مهمة لتحقيق أهداف بكين الاستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، خاصةً فيما يتعلق بالتنافس الهندي الصيني في خليج البنغال والتعاون الهندي الأمريكي في احتواء النفوذ الصيني في المنطقة[40].
على الصعيد الإقليمي، تعتبر بنجلاديش موطئ قدم للصين لتقويض نفوذ وتحرك كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في منطقة جنوب شرق آسيا. ومن ثم، تعتبر بنجلاديش إلى جانب باكستان مركزًا لتعزيز النفوذ والمصالح الصينية في المنطقة. هذا إلى جانب رغبة الصين في استخدام بنجلاديش كورقة ضغط في التنافس الإقليمي بينها وبين الهند ومواجهة الطموحات الهندية للهيمنة على منطقة جنوب آسيا وتحولها إلى قوة كبرى رائدة في آسيا. ومن ثم، تٌعد بنجلاديش جزءًا من الاستراتيجية الإقليمية الصينية لتطويق الهند في المنطقة، رغم استمرار وتطور التعاون الهندي الصيني التجاري في سياق تجمع البريكس. وعلى صعيد المصالح الاقتصادية، تسعى الصين إلى الوصول دون عوائق إلى الموارد الطبيعية في بنجلاديش، مع اكتساب بكين أهمية اقتصادية عالمية متزايدة وحاجتها الماسة لمصادر الطاقة والمواد الخام. ولهذا السبب تحرص الصين على السيطرة على طرق التجارة البرية، وخاصةً طريق “كاراكورم” السريع في باكستان وطرق التجارة البحرية، وخاصةً “مضيقي هرمز وملقا”. كما قامت الصين مؤخرًا بإنشاء الممر الاقتصادي بين بنجلاديش والصين والهند وميانمار، وهو أحد مشروعات الصين لربط وتعزيز التعاون مع دول جنوب شرق آسيا. وعلى مستوى العلاقات الدبلوماسية والشعبية، واتصالا بالمصالح الاقتصادية، ترى الصين أن بنجلاديش -من منظور كونها إحدى دول العالم الإسلامي- هي إلى جانب باكستان إحدى فرص بكين لتوسيع علاقاتها مع العالم الإسلامي. ولموقعها الاستراتيجي المتميز، تتمتع بنجلاديش بأهمية لا يُستهان بها في تطلعات الصين لإعادة التوازنات في علاقاتها مع دول جنوب شرق آسيا التي تعتبر مجالًا حيويًّا إقليميًّا لها بعد سلسلة من النزاعات في المنطقة والعلاقات المتوترة مع اليابان. وأخيرًا، تعتبر بنجلاديش إحدى وجهات الصين التجارية في ظل حرص بكين على الحفاظ على فائضها التجاري الضخم[41].
لذا تعتبر مصالح الصين في بنجلاديش وموقعها كمحل للتنافس الجيوسياسي بين بكين وواشنطن أحد التحديات الراهنة والمستقبلية التي تواجهها حكومة يونس في تلك المرحلة الانتقالية، والتي لا تؤثر فقط على تحركات وسلوك سياستها الخارجية وإنما تؤثر أيضًا على مسيرة عملية الانتقال الديمقراطي البنجلاديشي وعلى مشروعات التنمية. فقد اتهمت الشيخة حسينة واجد -عقب فرارها إلى الهند- الولايات المتحدة الأمريكية بأنها “اليد الأجنبية الخفية” وراء سقوط نظامها فيما يُعتبر ظاهريًّا السبب هو “ثورة طلابية”، نظرًا للضغوط التي فرضتها واشنطن على نظام حسينة، ناهيك عن الادعاءات بأن الدكتور محمد يونس الذي تولى رئاسة الحكومة المؤقتة مقرب من الولايات المتحدة ودليل على عمل واشنطن في دكا. كل ذلك بطبيعة الأمر يصب في صالح الصين استراتيجيًا وسياسيًا في المنطقة وفي بنجلاديش، خاصةً وكون بكين أكبر الدول الدائنة التي بلغت مستحقاتها من الديون الرسمية على دكا 6 مليار دولار، وكون الصين أكبر شريك اقتصادي لبنجلاديش. وقد تكبدت بنجلاديش خسارة بأكثر من 25 مليار دولار في تجارتها مع الصين خلال عام 2023، ما جعل الميزان التجاري لصالح الصين بأغلبية ساحقة وبما يحقق نفوذًا مؤكدًا لبكين في الداخل[42].
خاتمة:
من خلال ما تم عرضه من واقع الاقتصاد السياسي لبنجلاديش وما تواجهه من صعوباتٍ راهنة، يمكن القول إن هذه الدولة رغم ما تواجهه من تحدياتٍ متنوعة على مستوياتٍ عدة، إلا أنها بفضل موقعها الاستراتيجي أصبحت تكتسب أهمية جيوسياسية لدى كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية على المستويين الإقليمي والدولي. كما أصبح أمام بنجلاديش فرص متنوعة للتعاون عبر الحدود في مجالاتٍ كثيرة، يأتي في مقدمتها البنية التحتية وتطوير وإمدادات الطاقة والتجارة الدولية. وهي على المستوى الإقليمي يمكنها -في حالة تجاوز المرحلة الانتقالية باستقرارٍ وتوازن- أن تكون مركزًا تجاريًّا بين الهند والصين ودول جنوب شرق آسيا. هذا ناهيك عن دورها المحتمل في مبادرة الحزام والطريق الصيني، ومشروعات التجارة والنقل والسياحة على المستوى الإقليمي.
لكن كل ذلك يتوقف على قدرة بنجلاديش على إحداث تنويعات هيكلية في الاقتصاد الوطني الذي لا يزال يعتمد على قطاعي صناعة وتصدير الملابس، وصناعة الخدمات والبنوك والتحويلات المالية. ذلك لأن معالجة المشكلات الهيكلية في الاقتصاد هي الطريق الأساسي لحل مشكلات البطالة، والتضخم، وانخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. إلى جانب قدرة الحكومة الانتقالية على تخطي مرحلة الانتقال الديمقراطي بانتخاباتٍ حرة ونزيهة تعبر عن جميع فصائل المجتمع، وتحتوي مشكلات الأقليات والأحزاب والحركات الطلابية المتنوعة. فمن خلال حتمية علاقة التأثير المتبادلة بين الاقتصادي والسياسي، لن تستطيع بنجلاديش تحقيق معدلات نمو حقيقية في الناتج المحلي الإجمالي، وتكملة مسيرتها في القضاء على الفقر ورفع مستويات المعيشة والدخل، وتطوير المؤسسات الرسمية للدولة دون نظام سياسي متوازن قائم على التوافق بين الفصائل والأحزاب السياسية وقادر على إدارة الشؤون المحلية وسياسة الدولة الخارجية من منطلق المصلحة الوطنية وتحدي تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030.
—————————————–
الهوامش:
[1] Abdul Quader, Country Report: Bangladesh, ADRC Visiting Researcher Programme, February 2020, p: 5, accessed at: 23 February 2025, available at: https://2u.pw/aIQO5Mg4y
[2] Sarah Tasnim Shehabuddin,“Routledge Handbook of Contemporary Bangladesh: Bangladeshi Politics Since Independence”, Columbia University, 1st edition 2016, PP: 20-21, accessed at: 18 February 2025, available at: https://2u.pw/63laTRm1
[3] Ibid.
[4] Ethirajan Anbarasan & Kelly Ng, “Bangladesh election: PM Sheikh Hussina wins fourth term in controversial vote”, 8 January 2024, BBC News, accessed at: 18 February 2025, available at: https://2u.pw/IgIuJ3WH
[5] Anchita Borthakur, Bangladesh in 2024: A Year Of Political Turmoil and Transformation”, 6 January 2025, Vivekananda International Foundation , accessed at: 18 February 2025, available at: https://2u.pw/BHmLTYhh
[6] Ibid.
[7] Mohammad Masudur Rahman, Student Protests in Bangladesh: Implications for the Hussina Government, 24 July 2024, ISAS Briefs, accessed at: 18 February 2025, available at: https://2u.pw/1UQgoLh55
[8] Yog Raj Lamichhane, The Disproportionate Reservation Practice and the Fall of Hasina in Bangladesh, 30 December 2024, Georgetown Journal Of International Affairs, accessed at: 18 February 2025, available at: https://2u.pw/iptiez1N
[9] عبد الحافظ الصاوي، هل تتخلص بنغلاديش من الإرث والثأر السياسيين بعد فرار الشيخة حسينة؟، الجزيرة، مقالات وأراء، 6 أغسطس 2024، تاريخ الدخول: 24 يناير 202، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/m2BGuQlx
[10] يعني مصطلح “رازاكار” في الأصل “المتطوع”، لكنه أصبح وصمة عار في بنجلاديش إذ أصبح يشير إلى الخيانة والعمالة للأعداء. ذلك أنه مع اندلاع المعارك سنة 1971 لعب “رازاكار” دورًا محوريًا في دعم الجيش الباكستاني ضد الانفصاليين وحققوا نجاحات، لكن تدخل الجيش الهندي إلى جانب الانفصاليين حسم المعركة تجاه الانفصال (التحرير).
[11] أحمد دياب، “بنجلاديش ما بعد الحسينة: التحديات الداخلية والخارجية في خضم الانتقال السياسي”، مركز الإمارات للسياسات، 21 أغسطس 2024، تاريخ الدخول: 29 يناير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/RrgYugjJ
[12] محمود قاسم، غضب طلابي: دوافع تصاعد الاحتجاجات ضد الكوتا الوظائف في بنغلاديش، 22 يوليو 2024، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، تاريخ الدخول: 21 فبراير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/HumnxkW2
[13] الصكوك الدولية لحقوق الإنسان: وثائق أساسية موحدة تشكل جزءًا من تقارير الدول الأطراف، بنغلاديش، الأمم المتحدة، 5 ديسمبر 2019، ، تاريخ الدخول: 25 يناير 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/urqhwKIq
[14] أحمد حسين الشيمي، عرض كتاب: محمد يونس، “عالم بلا فقر دور الإقراض بالغ الصغر في التنمية”، موقع جامع الكتب الإسلامية، د.ت، تاريخ الدخول: 4 يناير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/eZSKYbcJY
[15] عمر سمير، “بنجلاديش والانتعاش الاقتصادي: مسارات وتحديات”، فصلية قضايا ونظرات، العدد السادس والعشرون، يوليو 2022، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، تاريخ الدخول 26 يناير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/vzfV4E1q5
[16] إياد قاسم غباش، “الشمول المإلى ودوره في التخفيف من الفقر في بنغلاديش: مصرف كرامين دراسة حالة”، المجلة العراقية للعلوم الاقتصادية، السنة 20، العدد 15، سبتمبر 2022، تاريخ الدخول: 29 يناير 2025، ص ص: 158-160، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/u89YpRyi
[17] المرجع السابق.
[18] World Bank Group, Data, the World Bank Group in Bangladesh, accessed at: 27 January 2025, available at: https://2u.pw/JakkG4ed
[19] John Curtis, Bangladesh: The fall of the Hasina Government and recent political developments”, 23 January 2025, House Of Commons Library, United Kingdom , pp 17-22, available at : https://2u.pw/IE4KqRCa
[20] Ibid.
[21] Ibid.
[22] Fahmida Khatun, Bangladesh’s economic transition Lessons from 2024 and prospects for 2025, The Daily Star, 1 January 2025, accessed at8 February 2025, available at: https://2u.pw/HjKLSX6L
[23] أحمد دياب، بنغلاديش ما بعد حسينة: التحديات الداخلية والخارجية في خضم الانتقال السياسي”، مركز الإمارات للدراسات، 21 أغسطس 2024، تاريخ الدخول: 21 فبراير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/RrgYugjJ
[24] Nikhil Inamdar, Fast fashion drove Bangladesh – now its troubled economy needs more, 6 September 2024, BBC, accessed at: 7 February 2025, available at: https://2u.pw/fxYmIkXG
[25] IMF pushes for more reforms to unlock additional $750m, Star Business Report, 20 December 2024, accessed at7 February 2025, available at: https://2u.pw/rKbqY7gN
[26] China Considering New Loan Terms for Bangladesh: Media, China Global South Project, 22 January 2025, accessed at: 7 February 2025, available at: https://2u.pw/OPsobJDmA
[27] Bangladesh Navigates Economic Challenges, Political Reform and Election Uncertainty in 2025, 6 January 2025, accessed at: February 2025, Bower Group Asia, available at: https://2u.pw/Kb4DdQ2p
[28] أحمد دياب، مرجع سابق.
[29] Analysis of the situation in Bangladesh; opportunities: challenges and risks, Ministry Of Foreign Affairs Of Denmark, accessed at: 24 February 2025, available at: https://2u.pw/RjGONElT
[30] Ibid.
[31] International Crisis Group, Bangladesh: The Dilemmas of a Democratic Transition,EU, 30 January 2025, accessed at: 24 February 2025, available at: https://2u.pw/bfuCc7zU
[32] Ibid.
[33] Saqlain Rizve, Bangladesh’s New Border Stance Signals a Shift in Its Approach to India, 4 September 2024, The
Diplomat, accessed at: 7 February 2025, available at: https://2u.pw/3I5oEemp
[34] Md. Abu Saim, Bangladesh Foreign Policy Priorities In 2025, Eurasia Review, 16 January 2025, accessed at: 8 February 2025, available at: https://2u.pw/UOY3mwkM
[35] S. M. Ali Reza, “Six Years of Rohingya Refugee Crisis in Bangladesh: From Here to Where?”, Asia Peace Building Initiatives, 27 June 2024, accessed at8 February 2025, available at: https://2u.pw/di632BqKc
[36] Ibid.
[37] Shahadat Swadhin, Bangladesh’s geopolitical balancing act, The Strategist, 7 August 2023, accessed at: 8 February 2025, available at: https://2u.pw/pkuaL7xU
[38] Ibid.
[39] Athaulla A Rasheed and Subrata Banarjee, Bangladesh’s Political Change: Implications for the Indo-Pacific, Australian Institute of International Affairs, 22 August 2024, accessed at: 8 February 2025, available at: https://2u.pw/DlF3NKAz
[40] “صرعات مؤجلة: ما ملامح التنافس الصيني الهندي في خليج البنغال؟”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 7 أغسطس 2024، تاريخ الدخول: 26 فبراير 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/vltlnKPB
[41] Siegfried O. Wolf, China’s Strategic Interests and its impacts on Bangladesh, South Asia Democratic Forum (SADF), March 2014, accessed at: 26 February 2025, available at: https://2u.pw/BtuaNhVJ
[42] Srikanth Kondapalli, Bangladesh in Turmoil: The Chinese gain of 2024?, Insights, Center For International Relations And Strategic Studies, 19 August 2024, accessed at: 26 February 2025, available at: https://2u.pw/9PIsGRtu