الأمن الإقليمي العربي خلال عام ثان من العدوان والمقاومة: التحولات والعبر الأساسية

السفير/ معتز أحمدين خليل⁕
تقديم:
يتناول هذا المقال وضع الأمن الإقليمي العربي في العام الثاني من طوفان الأقصى. لذا أبدأ بتعريف مفهوم الأمن الإقليمي، وانطباقه على المنطقة العربية؛ وعلاقة الأمن العربي بأمن الشرق الأوسط الأوسع، الذي يشمل أطرافًا أخرى، بما فيها إسرائيل، إلى جانب الأطراف العربية؛ وكيف تؤثر هذه الأخيرة على الأمن الإقليمي العربي وأمن الشرق الأوسط. ثم أتناول التفاعل العربي تجاه الطوفان من الناحيتين النظرية، والعملية، والتفاعل الخارجي مع الطوفان، من خلال عرض أبرز ردود أفعال عدد من الدول المتأثِّرة بالطوفان والمؤثِّرة فيه[1]، وأثر ذلك كله على الأمن الإقليمي العربي؛ وما إذا كان قد نتج عنه تحولات جوهرية، والخبرات المستفادة لتعزيز الأمن الإقليمي العربي، وأمن الشرق الأوسط بصفة عامة.
الأمن الإقليمي:
يشمل تعريفُ الأمن الإقليمي أبعادًا عِدَّة، أبرزُها موضوعيًّا الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية بمعنى الحفاظ على السلم داخل الإقليم، وتفادي نشوب الحروب بين أطرافه، أو بينها وبين أطراف خارجية. يتضمَّن ذلك معالجة أسباب النزاع داخل الإقليم والعمل على حلِّها بالطرق السلمية، وبصورةٍ مُرْضِيَةٍ لمختلف الأطراف حتى لا تتفجَّرَ نفسُ النزاعات من جديد بشكلٍ منتظم. ويشملُ كذلك الحفاظَ على مقدرات الإقليم مُجْتَمِعةً، بما في ذلك سلامة ووحدة أراضي دُوَلِه، والموارد الاقتصادية المتوفرة فيه، وتوظيفها لتحقيق مصالح شعوبه. كما يشمل البعد السياسي استقرار النظم السياسية داخل الإقليم، بما يتَطَلَّبُه من توفُّر حدٍّ أدنى من الشرعية السياسية تسمح للحكومات القائمة بأداء وظائفها في تحقيق الأمن، وتوفير الفرص الاقتصادية اللازمة لحياة السكان، وعدم دفعهم للبحث عن فرص للحياة في دول أخرى داخل الإقليم أو خارجه؛ بما يُشَكِّلُ ضغوطًا على الدول الأخرى، ويخلق أسبابًا إضافية للنزاع وعدم الاستقرار.
ويمتدُّ مفهوم الأمن الإقليمي ليشملَ مواجهةَ التحديات والظواهر الحديثة نسبيًّا مثل الإرهاب، والجريمة المنظمة.. بما في ذلك تهريب المخدرات، والاتجار بالبشر، وتحركات اللاجئين، وتغير المناخ، والأوبئة، والكوارث الطبيعية، وما يستجد من ظواهر تؤثر على الأمن والاستقرار بالمفهوم الواسع.
وينْطَبِقُ مفهومُ الأمن الإقليمي مادِّيًّا على منطقةٍ جغرافية تَحُدُّها حدودٌ طبيعية واضحةُ المعالم مثل المساحات المائية المتَّسعة، و/أو الصحاري، والجبال. ويتَّسع نِطاقُهُ أو يتقلَّص وفقًا للأبعاد الثقافية، والاجتماعية التي تجمع بين شعوب الإقليم، أو بعضها، خصوصًا إذا كانوا يتقاسمون تجارب تاريخية مشتركة. كما ينطبق على التفاعلات بين جميع الأطراف في الإقليم، بما في ذلك الشعوب، والحكومات، والأطراف غير الحكومية بمختلف تجلياتِها.
يتَطَلَّبُ ما تقدَّمَ وجودَ علاقات تعاون بين الأطراف الفاعلة داخل الإقليم لتحقيق الاستقرار، وتسوية النزاعات، وتنمية الموارد، ومواجهة التحديات المشتركة، وتنظيم التفاعل مع الأقاليم الأخرى، والنظام العالمي ككل؛ حتى إن بعض الدراسات تربط تعريف الأمن الإقليمي بوجود منظمة أو منظمات إقليمية تجمع دول الإقليم أو بعضَها، تُنَظِّمُ علاقاتِها، وتساهم في احتواء ما قد ينشب من نزاعات.
الأمن الإقليمي العربي:
ينطبق ذلك على الأمن الإقليمي العربي بامتياز، جغرافيًّا، بحدوده الواضحة من المحيط غربًا إلى الخليج شرقًا، ومن البحر المتوسط شمالًا إلى الصحراء الأفريقية الكبرى والمحيط الهندي ومضيق باب المندب جنوبًا؛ وثقافيًّا وتاريخيًّا، إذ تشترك شعوبه في اللغة، والثقافة، والديانات -باعتبار الإقليم مهبط الديانات السماوية الثلاث، ونزوع جزءٍ مُعْتَبَرٍ من سكانه إلى الإيمان بإحدى الديانات السماوية، وتطبيق شعائرها، واعتبارها الدافع الأساسي لسلوكه. هذا، فضلًا عن الخبرة التاريخية بالعيش تحت كيان سياسي واحد يشمل شعوبًا متعدِّدة -من الإقليم أو جواره- قبل بروز نموذج الدولة القومية في القرن الماضي.
من الناحية النظرية يتمتَّع الإقليم العربي ببنية مؤسسية متكاملة للأمن الإقليمي تتمثل في جامعة الدول العربية التي تضم كلَّ دول الإقليم، وتنظِّمُ العلاقات بينها في جميع المجالات على غرار الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصِّصة، بما في ذلك اتفاقية للدفاع المشترك -وإن كانت غير مفعَّلة لأسباب منها الخلافات الحدودية التي قد تصل إلى مناوشات عسكرية أحيانًا، وكذلك الخلافات بين الدول ذات القدرات العسكرية وتلك ذات القدرات المالية التي تجسَّدت في الخلاف في وجهات النظر بين مصر والسعودية عام 2015 حول إنشاء قوة عربية مشتركة. وتجدر الإشارة إلى أن عدم تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك ليس غريبًا، إذ إن الأمم المتحدة ذاتها لم تنجح في تفعيل هيئة الأركان المشتركة المنصوص عليها في ميثاقها بسبب الخلافات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. تُضاف إلى الجامعة العربية أيضًا تنظيماتٌ دون إقليمية تُكَمِّلُ التعاون بين الدول المتجاورة داخل الإقليم، مثل مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي، وإن كان الأخير معطلًا منذ عقود بسبب الخلافات بين المغرب والجزائر.
وتتكامل مع البنية المؤسسية للإقليم العربي، منظمة التعاون الإسلامي التي تشبه الجامعة العربية في تنظيمها وفروعها التي تنظم مختلف مجالات التعاون، وتشترك في عضويتها جميع دول الإقليم.
أمن الشرق الأوسط: إسرائيل والتحديات التي تُثِيرُها
وفقًا للتعريف العام السابق، يمكن أن نعتبر الأمن الإقليمي العربي جزءًا أساسيًّا من أمن منطقة الشرق الأوسط، وإن كان متميزًا عنه. إذ تشمل منطقة الشرق الأوسط دولًا أخرى مهمة هي إيران، وتركيا على التخوم، وإسرائيل في الوسط.
وإذا كانت إيران وتركيا دولتين مختلفتين عن دول الإقليم العربي، فإنهما موجودتان في إقليم الشرق الأوسط منذ الأزل، وتشتركان مع دوله في جوانب ثقافية مهمة، وتجارب تاريخية لا يمكن إنكارُها، ليس هنا مجال تقييمها؛ فإن إسرائيل تُعْتَبَرُ دولةً دخيلةً على المنطقة، أُنْشِئَتْ حديثًا عام 1948، على أرضٍ كان يقْطُنُها الشعبُ العربي الفلسطيني وما زال. لكن من الناحية الموضوعية يجب الإقرار بأن الواقع يفرض إسرائيل كجزء أساسي من الشرق الأوسط[2]؛ بما يجعلُها فاعلًا رئيسيًّا في تشكيل أمنه الإقليمي، بما تملكه من إمكانياتٍ ذاتية وخارجية تستطيع توظيفها لهذا الغرض؛ ومن ثَمَّ تُؤَثِّرُ تأثيرًا كبيرًا في الأمن الإقليمي العربي.
يثير الحديث عن إسرائيل كذلك عدَّة ملاحظات فيما يتعلق بتأثيرها على أمن الشرق الأوسط من جهة، وعلى الأمن الإقليمي العربي من جهة أخرى. إذ إن وجود إسرائيل كطرف أجنبي في المنطقة، أُنْشئ بالقوة المسلَّحة على حساب تطلُّعات شعب فلسطين في التحرُّر من الاستعمار البريطاني، وإنشاء دولته القومية المستقلَّة؛ يفْرِضُ ضغوطًا متواصلة ومتعارضة على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط من أجل إصلاح الظلم التاريخي الواقع على الفلسطينيين، ومن أجل الحفاظ على أمن دولة إسرائيل -من وجهة نظرها، في ضوء العداء المستحكم تجاه وجودها من معظم شعوب الإقليم. ولا أدَلَّ على ذلك من أنها منذ نشأتها طرفٌ أصيلٌ مُبَادِرٌ في العدد الأكبر من النزاعات المسلَّحة والحروب التي تَعَرَّضَ لها إقليمُ الشرق الأوسط. وهي بذلك تُعْتَبَرُ انتهاكًا مستمرًّا للأمن الإقليمي العربي لأنها أُنْشِئَتْ على حساب أحدِ أطرافِه، ولأنها منذ نشأتها تَتَحَرَّشُ بالأطراف الفاعلة في الإقليم في حروبٍ تُسَمِّيهَا دِفاعية، بينما هي في الواقع حروبٌ استباقيةٌ لتدمير أيِّ إمكانية لمواجهتها من داخل الإقليم. كما أنها تشترك في الحروب التي تَشُنُّها دولٌ من خارج الإقليم مثلما حدث عام 1956، أو تستدعي تَدَخُّلَ دولٍ من خارج الإقليم لدعْمِها عسكريًّا عند الحاجة مثلما حدث في يونيو الماضي ضد إيران. وهي في جميع الأحوال لا تعتمد على إمكاناتها العسكرية والاقتصادية الذاتية وحدها، بل على الدعم الذي تتلقَّاه من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية.
ولا تتورَّع إسرائيل عن اللجوء لأيِّ وسيلةٍ لتعزيز أمنها، بما في ذلك سياسة “فَرِّقْ تَسُدْ”، وإذكاء النعرات الطائفية مثلما حدث في لبنان عام 1958، وخلال السبعينيَّات أثناء الحرب الأهلية. بل بادرتْ بإدخال فكرة الميليشيات المسلَّحة المستقلة عن الدولة في المنطقة لتُشَكِّلَ عازِلًا بينها وبين حدود الدولة التي تنطلق منها المقاومة، فأنشأت جيش لبنان الجنوبي عام 1977 بقيادة سعد حداد ثم أنطون لحد. وهو نفس الأسلوب الذي اتَّبَعَتْهُ في تشجيع الخلافات بين مختلف الفصائل الفلسطينية منذ منتصف الثمانينيَّات؛ وتَتَّبِعُه حاليًّا في سوريا بعد سقوط نظام الأسد.
وقد أدَّى فشل الحكومات العربية، منفردة أو مجتمعة، في مواجهة مختلف أشكال العدوان والتحرُّشات الإسرائيلية المستمرَّة، إلى نشأة حركات مستقلَّة عن الدول أخذتْ على عاتقِها مهمَّة مقاومة الاحتلال. وإذا كانت المقاومة قد بدأتْ بحركة تحرير فلسطين “فتح” عام 1964، التي تحوَّلت إلى الممثِّل الرسمي للشعب الفلسطيني، وبالتالي لا تُعْتَبَرُ ميليشيا مسلَّحة؛ فقد نشأت وتطوَّرت حركاتٌ مقاوِمةٌ أخرى سواء في فلسطين، أو لبنان، أو اليمن، أو العراق تدريجيًّا في الثمانينيَّات لتتولَّى تلك المهمَّة[3]. ولا شك أن مختلف تلك الحركات شكَّلت ضغوطًا وتحديات خطيرة في وجه الحكومات والنظم الرسمية العربية، خصوصًا أن بعضَها مَدَّ نشاطَه لمقاومة تلك الحكومات، وقَدَّمَ نفسه باعتباره نموذجًا بديلًا لها.
تحركات المؤسسات الإقليمية، والدولية:
إذا انتقلنا إلى التحرُّكات الفعلية، نجد أن الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي تفاعلتا مع الطوفان فعقدتا عددًا من القمم المشتركة الاستثنائية، إلى جانب قممها العادية، نتج عنها قرارات شاملة تُدين العدوان الإسرائيلي، وتدعو إلى وقف إطلاق النار، ورفض تهجير الفلسطينيين إلى مصر أو الأردن، أو أي مكان، وتدعو إلى إدخال المساعدات، ومساندة وكالات الأمم المتحدة المعنية، وعلى رأسها وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وإعادة إعمار غزة، ورفض ضم الضفة الغربية والقدس المحتلة والجولان، ورفض العدوان الإسرائيلي على لبنان، وتفعيل حل الدولتين، والدعوة لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، وحث الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على الضغط على إسرائيل لتحقيق ما تقدم. وتم إرسال العديد من اللجان الوزارية المُكَوَّنَة من أميني عموم المنظمتين، ووزراء خارجية الدول المتاخمة لفلسطين، ودول رئاسة المنظمتين، للتشاور والتنسيق مع نظرائهم في العواصم المعنية للدعوة لوقف الحرب وإدخال المساعدات. كما تفاعلت المنظمتان مع خطة رئيس الولايات المتحدة بإخلاء غزة وتهجير سكانها إلى مصر والأردن لإنشاء مشروع سياحي عالمي على شواطئها، ودعوته الدول التي لا يروقُها ذلك إلى تقديم بديل؛ بتنظيم قمة القاهرة حول إعادة إعمار غزة في مارس 2025 التي أنتجتْ وثيقةً متكاملةً تتضمَّن تفاصيل إعادة الإعمار، وتكاليفه المبدئية، بالتنسيق مع وكالات الأمم المتحدة، والمنظمات الإغاثية غير الحكومية المعنيَّة.
لكن هذه القرارات لم تُشِرْ إلى وقف إجراءات التطبيع بين الدول العربية التي تتمتَّع بعلاقات مع إسرائيل، ولم تَدْعُ إلى محاصرة إسرائيل اقتصاديًّا، أو مقاطعة الدول التي تمدُّها بالمال والسلاح. بل على العكس استمرَّت العلاقات الاقتصادية وتعزَّزَت مع الولايات المتحدة وإسرائيل -وإن كان بيان الاجتماع الوزاري الأخير للجامعة العربية في 4 سبتمبر 2025 قد تضَمَّنَ فقرة بشأن “عدم إمكانية التعويل على ديمومة أي ترتيبات للتعاون والتكامل والتعايش بين دول المنطقة مع إسرائيل في ظل استمرار احتلال بعض الأراضي العربية، أو التهديد المبطن باحتلال أو ضم أراضٍ عربية”.
وقد نجحت جهود الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، في استقطاب تأييد دولي واسع للأهداف السابقة، بما في ذلك من أنصار وحلفاء إسرائيل في أوروبا الغربية الذين بدأوا يدرسون وقف صادرات الأسلحة التي يمكن استخدامها في فلسطين؛ وأعلن بعضهم التفكير في فرض عقوبات على إسرائيل.
كما أنتجت تلك الجهود الدبلوماسية المبادرة الفرنسية السعودية التي تمَّ الإعلان عنها خلال دورة عام 2024 (الـ79) للجمعية العامة لعقد قمة دولية لبحث وسائل تنفيذ حل الدولتين. وقد تمَّ عقد القمة في يوليو 2025 بعد أن تمَّ تأجيلُها لتزامن موعدها الأول في يونيو مع الحرب التي شنَّتها إسرائيل والولايات المتحدة لتدمير برنامج إيران النووي. ورغم أن الإعلان الصادر عنها أعاد تأكيد التمسُّك بحلِّ الدولتين، ودعا لدراسة عدد من الإجراءت العملية لتنفيذه، فقد اتَّضح أنه تضمَّن عناصر من خطة طَوَّرَها مستشارُ الأمن القومي البريطاني على مدى شهور[4]، وأصَرَّتْ فرنسا على إدراجها، أهمُّها: إدانة حماس، والدعوة إلى نزع سلاحها، وتنحيتها عن الحكم في غزة، والترحيب بفكرة إنشاء قوة دولية مؤقَّتة لتحقيق الاستقرار في غزة تحت إشراف الأمم المتحدة. وهي العناصر التي ركَّز عليها الإعلام الغربي باعتبارها المرة الأولى التي تتبنَّاها الدول العربية علنًا[5]. ورغم أن الوثيقة تُعْتَبَرُ وثيقةً محدودةَ الأثر تقْتصِرُ على الدول التي شاركت في تبنِّيها، فقد تم الاتفاق على عرضها على الجمعية العامة خلال دورتها الجديدة (الثمانين) في سبتمبر 2025 لاعتمادها؛ وهو ما حدث بإصدار أول مُقَّرَّرٍ إجرائي Decision للدورة الثمانين للجمعية العامة في 12 سبتمبر 2025 لاعتماد الإعلان. ثم رَكَّزَ الإعلام الغربي مجدَّدًا على ما تضمَّنه الإعلان من إدانة لحماس ودعوة لنزع سلاحها للمرة الأولى في قرار للجمعية العامة، بعدما كان يتمُّ تفادي إدانة حماس في قرارات الجمعية العامة السابقة حيث تتمتع القضية الفلسطينية بأغلبية كاسحة[6]. والمشكلة أن مسألة الاعتراف بدولة فلسطين، والخطوات الكفيلة بتنفيذ حل الدولتين، كُلُّها إجراءات نظرية سبق أن تضمَّنتها قرارات الجمعية العامة، وأحيانًا مجلس الأمن، ولا مَحَلَّ لها على أرض الواقع في المستقبل المنظور؛ في الوقت الذي سَتَتَمَسَّكُ فيه الولايات المتحدة، وإسرائيل، ودول أوروبا الغربية، بتنفيذ أي إجراءات بشأن حماس فورًا، على غرار التمسُّك بنزع سلاح حزب الله، وتجاهل أي التزامات على إسرائيل وفق اتفاق وقف إطلاق النار الذي تمَّ التوصُّل إليه في نوفمبر 2024.
تحركات وردود فعل دول الإقليم:
في مواجهة مختلف التحديات، بما فيها تحديات حركات المقاومة، ركَّزَت الحكومات العربية على أولوية البقاء والاستمرار في الحكم. وتحوَّلت متطلباتُ الأمن القومي، ومن ثَمَّ الإقليمي، على أرض الواقع إلى متطلبات بقاء النظم والحكومات القائمة، مِصْدَاقًا للقول المنسوب للويس الرابع عشر: “الدولة أنا L’État c’est moi”، وذلك المنسوب لخلفه لويس الخامس عشر: “من بعدي الطوفان Après moi, le déluge”[7].
وإذا كان العمل من أجل البقاء في السلطة، وتعريف مصلحة الدولة على أنها مصلحة النظام لا تقتصر على الدول العربية، بل هو سلوك طبيعي لمختلف الحكومات، حتى في النظم الديمقراطية، مثلما نرى في الولايات المتحدة، والدول الأوروبية؛ فإن الفارق أن الحكومات التي يتم انتخابُها في نظم يتم فيها تداولُ السلطة بانتظام تَخْضَعُ للمساءلة، مما يضع حدودًا على تصرُّفاتها من أجل البقاء، ويوجِدُ هامشًا واسعًا لمعارضتها وتغييرها بالطرق السلميَّة.
الركون للخارج: يفسِّرُ ما تقدَّم ركونَ معظم الحكومات العربية إلى الخارج، واعتمادَها على دعمه من أجل إضفاء الشرعية الدولية، والمساعدة الاقتصادية، والردع والحماية العسكرية، حسب الحاجة. ويتمثَّلُ ذلك في دخولِها في علاقات اعتماد متبادل مع دول قوية من خارج الإقليم لتساهمَ الأخيرةُ في توفير المتطلَّبات السابقة وقت اللزوم، مقابل اتِّباع سياسات تتَّفق مع مصالح الدول الداعمة وحلفائها. ومن تلك المصالح استقرار وضع إسرائيل في المنطقة من خلال احترام وتوسيع اتفاقيات السلام والتطبيع المُوَقَّعَة بين الدول العربية وبين إسرائيل؛ وهو ما حقَّقته الاتفاقات الإبراهيمية أثناء ولاية ترامب الأولي؛ وطَوَّرَتْهُ الولايات المتحدة أثناء ولاية بايدن بفتح المجال الجوي السعودي أمام الرحلات المتَّجهة إلى إسرائيل أو المُقْلِعَة منها، وترتيب اجتماعات تشاورية غير معلنة بين كبار مسؤولي البلدين؛ وتتواصل بإصرار خلال ولاية ترامب الثانية، من أجل ضم السعودية إلى ترتيبات التطبيع بصورة رسمية؛ رغم أن الاتفاقات الإبراهيمية لم تساهم في تحقيق السلام[8] -وإن كانت السعودية تتمسَّك حتى الآن بإنشاء الدولة الفلسطينية أولًا. ومن ذلك أيضًا مساهمة الدول العربية في التصدِّي للصواريخ والمُسَيَّرات الإيرانية الموجَّهة ضد إسرائيل ردًّا على تحرُّشاتها المتكرِّرة بإيران وحلفائها في العام الأول للطوفان عقب الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق في مارس 2024، وفي العام الثاني في إطار الرد الإيراني في أكتوبر 2024 على اغتيال أمين عام حزب الله في بيروت في سبتمبر، ومن قبله رئيس حركة حماس في طهران في نهاية يوليو؛ ثم أثناء الحرب التي شنَّتها إسرائيل واستدعتْ إليها الولايات المتحدة لتدمير البرنامج النووي الإيراني في يونيو 2025.
الخليج: من المصالح الأخرى عدم استخدام البترول كوسيلة ضغط لتعديل سلوك إسرائيل أو الدول الداعمة لها مثلما حدث خلال حرب عام 1973؛ بل التحكُّم في أسعار النفط العالمية وفقًا لمصلحة الولايات المتحدة.
والمصلحة الأخيرة الصارخة تمثَّلت في الابتزاز الصريح من ترامب لحثِّ السعودية ودول الخليج على شراء منتجات، واستثمار أموال طائلة في الولايات المتحدة، كما بدأ أثناء ولايته الأولى بخطابه الشهير الذي أعلن فيه أنه خاطب ملك السعودية بقوله “أيها الملك، عليك أن تدفع مقابل ما نقدِّمه لك من حماية، إذ إننا لو رفعنا تلك الحماية لن تستقرَّ على عرشك أكثر من أسبوعين”[9]. ورغم ذلك لم تُخْفِ دولُ الخليج تفضيلَها لعودة ترامب للحكم، وساهمتْ في نجاحه في الانتخابات من خلال التحكم في وتيرة إنتاج البترول ليستمرَّ سعرُ الوقودِ مرتفعًا أثناء العام الأخير لبايدن لتأليب الناخب الأمريكي على الحزب الديمقراطي، رغم أن بايدن توجَّه بنفسه إلى السعودية للمطالبة بالعكس. ثم واصل ترامب ابتزازَه برحلته التاريخية إلى الخليج في مايو 2025 حيث حصد ما يقرب من 4 ترليون دولار دون أي شروط مُعلنة. ولم تكتفِ دول الخليج بذلك، بل استمرت في دعمه بالتنسيق مع روسيا من خلال فرض زيادة الإنتاج العالمي للبترول بنسب معينة في إطار تجمع أوبك+ لأربع مرات متتالية منذ نجاحه في الانتخابات، آخرها خلال سبتمبر 2025، حتى لا يرتفع سعر الوقود في الولايات المتحدة بما قد يؤثِّر على شعبية ترامب بين أنصاره. هذا، رغم أن السعودية تواجه ضغوطًا مالية غير مسبوقة؛ حتى إن ميزانيَّتَها تضمَّنت عجزًا ضخمًا العام المالي الجاري نتيجة المشروعات الداخلية الطموحة التي تنفذها، والالتزامات التي تعهَّدت بدفعها للولايات المتحدة.
لبنان: تتمثَّل المصلحة التي تحقِّقها الولايات المتحدة للبنان في دعم وضعه الاقتصادي المتعثِّر دائمًا نتيجة عوامل هيكلية داخلية وخارجية، أبرزُها الفساد المستشري[10]، والتوتُّرات الطائفية، والحروب المنتظمة مع إسرائيل. ويتمثَّلُ الدعمُ الذي توفِّره الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في حَثِّ دول الخليج على الاستثمار وتقديم المساعدات المالية اللازمة لإنعاش الاقتصاد اللبناني. أما المصلحة المطلوبة من لبنان فتتمثَّل في مهادنة إسرائيل، والتطبيع معها، وعدم إثارة المشاكل فيما يتعلَّق بترسيم الحدود البرية معها. والأهم من ذلك كف المقاومة عنها، من خلال التضييق على الفصائل الفلسطينية المُهَجَّرَةِ إلى لبنان، أو التخلص منها وطردها؛ ونزع سلاح المقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله، ومنع أي نشاط يهدف لمواجهة إسرائيل وتحرير الأراضي اللبنانية المحتلَّة في الجنوب، ومزارع شبعا التي تعتبِرُها الولاياتُ المتحدة وإسرائيل تابعةً لسوريا. ولعل ذلك سبب إصرار الولايات المتحدة على الضغط لترسيم الحدود البرية مع إسرائيل، من أجل تأكيد تبعية مزارع شبعا لسوريا، وبالتالي إنهاء القضايا المعلَّقة مع لبنان، وتطبيق ما يتمُّ تطبيقه على هضبة الجولان على مزارع شبعا؛ لفتح باب التطبيع مع لبنان، بعد نزع سلاح حزب الله لإنهاء التهديد الذي يشكله على حرية حركة إسرائيل في المشرق. وقد تعاملت الولايات المتحدة مع حزب الله بصورة مضطردة بإقناع دول الخليج بأنه يشارك إيران في زعزعة أمن الخليج؛ ثم الضغط لتولية رئيس أركان الجيش اللبناني لرئاسة الجمهورية على عكس المُثُلِ والسياسات الأمريكية التي ترفض تدخل الجيش في السلطة؛ ثم مساندة الدفع بنواف سلام رئيس محكمة العدل الدولية، لمنصب رئيس الوزراء، للتخلُّص من وجوده الفاعل في المحكمة كرئيس وقاضٍ عربيٍّ إضافيٍّ[11]، وتكليفِه بمهمة نزع سلاح حزب الله، بصرف النظر عن الآثار المتوقَّعة لمحاولة أداء تلك المهمَّة بالقوة. كما أصرَّت على إصدار قرار مجلس الأمن 2790 في أغسطس 2025 بإنهاء مهمة قوة الأمم المتحدة المؤقَّتة للبنان بنهاية عام 2027، لإبقاء السيف مُصَلَّتًا على الدولة اللبنانية. وقد تمَّت كل تلك الخطوات بنجاح من خلال ممثلي الولايات المتحدة “المتميزين” للبنان الذين تُفْتَحُ لهم الأبواب لمقابلة الرئيس ومكونات الطيف السياسي في لبنان[12].
سوريا: أصبحت أرض سوريا مستباحة قبل الطوفان بسنوات نتيجة تآكل النظام السابق وانعدام شرعيته. وتمثَّلت مظاهرُ الاستباحة في القواعد الأجنبية: الروسية أولًا، التي سارع بشار الأسد باللجوء إليها لإنقاذه من زحف الثورة عام 2015؛ إلى جانب التواجد العسكري الإيراني؛ والتابع لحزب الله حتى الشهور الأولى للعام الثاني من الطوفان. هذا، إضافة إلى التواجد الأمريكي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام؛ فضلًا عن التوغُّلات التركية المنتظمة. ولم يفلح التواجد الروسي والإيراني في حماية النظام السوري السابق، ولا أمن سوريا في مواجهة إسرائيل، بل ظلَّت أجواؤها مفتوحةً لضربات إسرائيلية منتظمة لمهاجمة تحركات الجيش السوري، أو إمدادات السلاح لقوات الحرس الثوري أو حزب الله، قبل سقوط النظام. وعندما ازداد انشغال روسيا بحربها مع أوكرانيا، وإيران بالمواجهة الوشيكة مع إسرائيل، وحزب الله بالاختراق الإسرائيلي لصفوفه وقضائها على قياداته، انفتح الطريق أمام المعارضة المسلَّحة التي ترفع الشعار الإسلامي، وتُمَوِّلُها السعودية، وتُدَرِّبُها تركيا، للقضاء على النظام السابق في عملية استغرقت أيامًا معدودة. وعندما تولَّت المعارضة لم تُقْدِم على مواجهة إسرائيل بل سكتتْ عن توغُّلاتها البرية، واحتلالها أجزاء إضافية، وتكثيف استهدافها لما تبقَّى من عتاد عسكري لدى الجيش السوري، وتدخُّلها لدعم الدروز وتأجيج الفتنة الطائفية وإدامة عدم الاستقرار، وإلغائها لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974؛ بل قبلت الحكومة الجديدة الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل حول ترتيبات بديلة للاتفاقية؛ مقابل الاعتراف الدولي، ورفع العقوبات، ومبادرة ترامب بمباركة التغيير، ومقابلة رئيس سوريا الجديد تحت رعاية السعودية.
مصر: شهدت العلاقات بين مصر وإسرائيل توتُّرات مستمرَّة بعد الطوفان بسبب مطالب إسرائيل المتزايدة من الجانب المصري؛ بدءًا بطلب تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ثم رفض إدخال المساعدات، واتهام مصر أمام محكمة العدل الدولية بأنها المسؤولة عن الحصار، ثم احتلال محور فيلادلفيا، ومعبر رفح، ثم النكوص عن اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس، والتلاعب بالوساطة المصرية القطرية، من أجل مواصلة الحرب على غزة رغم آثارها المدمِّرة على جميع دول المنطقة، وعلى الاقتصاد المصري الواهن بصفة خاصة من خلال التأثير على قناة السويس، والسياحة، واستقرار مناخ الاستثمار. وقد بادرت مصر برفض فكرة التهجير باعتبارها تساهم في تصفية القضية الفلسطينية وتُزَعْزِعُ الأمنَ القومي المصري؛ لكنها استقبلتْ أكثر من مئة ألف من سكان غزة لدواعٍ إنسانية، بما فيها العلاج ولم شمل الأسر المختلطة. وقد أدَّى التوتُّر المستمرُّ في العلاقات إلى سحب السفير المصري السابق من تل أبيب بصورة غير رسمية منذ نهاية العام الأول للطوفان، والاكتفاء بتعيين قائم بالأعمال لسفارة مصر في تل أبيب في العام الثاني من الطوفان، فضلًا عن عدم إبلاغ إسرائيل بالموافقة على ترشيح سفيرها البديل للسفيرة الإسرائيلية السابقة التي انتهت مدتها. ورغم توتُّر العلاقات خصوصًا بعد احتلال إسرائيل للشريط الحدودي وفصل مصر جغرافيًّا عن قطاع غزة ممَّا ضرب الدور المصري في مقتل سياسيًّا، واقتصاديًّا، وإنسانيًّا؛ واختصره في الوساطة المحكومة، والتطلُّع لعقد مؤتمر إعادة الإعمار؛ فقد انتعشت العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل بفعل زيادة الطلب الإسرائيلي على مواد البناء الرخيصة والقريبة المُنْتَجَةِ في مصر، وزيادة الطلب المصري على مصادر الطاقة في ظلِّ أزمة الكهرباء التي أجبرت الحكومة على ترشيد الكهرباء بقطع التيار لفترات منتظمة في صيف 2024. ولم نسمع عن منع سفن تحمل إمدادات مدنية أو عسكرية لإسرائيل من المرور في المياه المصرية. واستمرَّ خلال العام الثاني عجز مصر عن إدخال مساعدات كافية إلى غزة، وعن إجبار إسرائيل على الامتثال لالتزاماتها الواردة في اتفاقية المعابر الملحقة باتفاق كامب ديفيد، التي كانت تقنِّن التواصل الجغرافي بين مصر وغزة بعد انسحاب إسرائيل عام 2005، مقابل التزام مصر بالتنسيق مع إسرائيل بشأن دخول وخروج الأفراد عبر معبر رفح، والبضائع عبر معبر كرم أبي سالم داخل حدود إسرائيل. واستمرَّت مصر في استيراد الغاز من إسرائيل، والخضوع للضغوط الإسرائيلية بوقفه لفترات محدودة بحجة الظروف القهرية. بل وقَّعت صفقة الغاز الكبرى خلال أغسطس 2025 للحصول على الغاز من إسرائيل حتى عام 2040 مقابل 35 مليار دولار بالتزامن مع اشتداد أزمة المجاعة والإبادة في غزة. وتجدر الإشارة إلى أن تلك الصفقة -التي تعتبِرُها الحكومةُ المصريةُ فرصةً للحصول على الغاز بسعر 7.5 دولار للوحدة الحرارية باستخدام أنابيب نقل الغاز الموجودة بالفعل بين مصر وإسرائيل، لاستهلاك جزء منه محلِّيًّا، وتسْييل الباقي وتصديره إلى أوروبا بما يتجاوز مرة ونصف سعر الشراء؛ تسْتَنِدُ إلى افتراضات نظرية غير مضمونة، لأنها تتوقَّف على متغيِّرات كثيرة أهمُّها: استمرار السعر العالمي للغاز المسال عند هذا المستوى حتى عام 2040، في الوقت الذي تتَّسم فيه أسعار الغاز في السوق العالمي بالتذبذب، خصوصًا وأن أوروبا ماضيةٌ في سياسات الاعتماد على مصادر الطاقة المستدامة؛ كما تتوقف على استقرار الأوضاع السياسية، والعلاقات بين مصر وإسرائيل، وهو كذلك أمر غير مضمون كما اتَّضح من تصريحات نتنياهو في بداية سبتمبر بشأن تجميد الصفقة، في ضوء ما اعتبره انتهاكات مصرية لالتزاماتها في اتفاقية كامب ديفيد وملاحقها بشأن نشر القوات داخل سيناء؛ هذا فضلًا عن استمرار وتوسع العدوان على غزة. وفي نفس الوقت تحقِّق الصفقة لإسرائيل مزايا عدَّة تتمثَّل في ضمان تمويل سنوي مستقرٍّ من مصر بمقدار 2.3 مليار دولار سنويًّا، يسمح لإسرائيل بتوسيع حقل لفياثان قبالة سواحل الأراضي الفلسطينية المحتلة لإنتاج الكميات اللازمة للاستهلاك المحلي والتصدير، وتوفير مصدر مستقرٍّ لتصدير الغاز الإسرائيلي بعيدًا عن تهديدات المقاطعة من أوروبا ودول أخرى بسبب حرب الإبادة الانتقامية التي تشنُّها على غزة، وبعيدًا عن تعقيدات التصدير عبر الطرق البحرية، حتى لو فكرت إسرائيل في الاعتماد على منشآت خاصة بها لتسييل الغاز وإعداده للتصدير. والأهم من ذلك أن تلك الصفقة تعود بفائدة مباشرة على شركة شفرون الأمريكية التي تُشَغِّلُ حقل لفياثان[13]، التي يمتلك فيها الرئيس الأمريكي ترامب أسهمًا[14]، ممَّا يجعل الصفقة وسيلة للاستجابة السياسية لمطالب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بمواصلة وتوسيع التطبيع والتعاون الاقتصادي مع إسرائيل، ولمصالح الرئيس ترامب السياسية بتحفيز الشركات الأمريكية، والشخصية بدعم الشركة التي يمتلك عددًا من أسهمها. وكل ذلك يصبُّ في فكرة استرضاء الرئيس ترامب، والركون إلى الولايات المتحدة باعتبارها حلَّالة العُقَدِ الاقتصادية والسياسية التي تواجهها مصر في الحاضر والمستقبل القريب؛ رغم أن الاعتماد على الولايات المتحدة منذ نصف قرن لم يؤدِّ إلى تحسين أوضاع الاقتصاد، ولا الأمن القومي المصري حتى الآن.
الأردن: لم تسْلم الأردن من الأذى. إذْ دعتْها إسرائيل كذلك لاستقبال فلسطينيي الضفة الغربية، وجزء من سكان غزة؛ ممَّا دفع ملك الأردن للإعلان عن رفض ذلك باعتباره تهديدًا وجوديًّا للمملكة. لكن ذلك لم يمنع الأردن من المشاركة في الدفاع عن إسرائيل من خلال التصدِّي للصواريخ الإيرانية الموجَّهة إليها في العام الأول للطوفان. ولم يشْفع له ذلك عند رئيس الولايات المتحدة الجديد الذي استقبله في البيت الأبيض في فبراير 2025 مع ولي عهده، وأحرجه خلال المؤتمر الصحافي المشترك عندما دعاه إلى استقبال الفلسطينيين في الأردن، وعبَّرَ عن ثقته في أنه سيستجيب لذلك بعد أن ذكَّرَهُ بأفضال الولايات المتحدة عليه وعلى بلاده وما تقدِّمه من مساعدات ومن حماية. وقد رَدَّ الملك برفض هذه الأفكار جملة وتفصيلًا بعد عودته إلى بلاده. لكن ذلك لم يُثْنِ الأردن عن التنسيق مع الولايات المتحدة مجدَّدًا لحماية إسرائيل من الصواريخ الإيرانية خلال الحرب التي شنَّتْها إسرائيل على إيران بعد بضعة شهور.
فلسطين: لم يَنْقَضِ العام الأول للطوفان إلا وقد وسَّعَت إسرائيل حرب الإبادة ضد فلسطين عمومًا وغزة على وجه الخصوص، التي احتلَّت أجزاء منها تدريجيًّا، ودمَّرت مبانيها وقتلتْ سكَّانها، وحشرتْهم نحو الجنوب تمهيدًا لتهجيرهم كرهًا إلى مصر أو غيرها إن استطاعت. ومارست نفس السياسات بوتيرة أقل على الضفة الغربية، ثم أعلنتْ صراحةً نيَّتها في ضمِّها. كما لم ينقضِ العامُ الأول إلا وقد قتلتْ إسرائيل قادة حماس الميدانيِّين، والسياسيِّين واحدًا تلو الآخر، في لبنان، وغزة، وطهران. كما استمرت في منهج التفاوض بهدف المماطلة للحصول على أكبر عدد من الرهائن، ثم تغيير المواقف وقواعد اللعبة كلما أبدتْ حماسُ مرونةً. كل ذلك بدعم أمريكي لا يتزعزع من إدارة بايدن المنتهية ولايته خلال العام الأول، وبداية الثاني من الطوفان، وصولًا إلى ترامب ومبعوثه الدولي، اليهودي بالطبع، ستيف ويتكوف الذي لا يعلم الكثير عن العلاقات الدولية ولا المفاوضات السياسية كما ظهر من فشله الذريع في جميع المهام الموكلة إليه من إنهاء الحرب في غزة، إلى وقف الحرب في أوكرانيا، إلى السيطرة على البرنامج النووي الإيراني[15]. وقد اعتمدَ هو وترامب على رون ديرمر وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، الأمريكي الجنسية، الذي أقام في منتجع ترامب في فلوريدا لأسابيع عقب فوز ترامب في الانتخابات للتواصل مع مسؤولي الإدارة الجديدة، وتلْقين ترامب وويتكوف مختلف المواقف والخطط الإسرائيلية قبل تولِّيه الحكم فعليًّا في يناير 2025. وقد ظهرت نتائج عمله في وقف إطلاق النار الذي قبلتْه إسرائيل عشيَّة تولِّي ترامب ثم تنصَّلت منه بالتنسيق مع الولايات المتحدة؛ ثم الأفكار التي طرحها ترامب بنفسه أثناء زيارة نتنياهو الأولى لواشنطن في فبراير 2025 بشأن إفراغ قطاع غزة من سكَّانه وتسليم إدارته للولايات المتحدة لإقامة منتجعات سياحية وملاهٍ ليلية. علمًا بأن هذا المنهج لا يختلف عن منهج صهر ترامب جاريد كوشنر الفاشل كذلك في الأعمال، وفي مهمة مبعوث الشرق الأوسط خلال ولاية ترامب الأولى، الذي لم يَرَ في غزة إلا فرصًا للاستثمار العقاري. ولم يكتفِ ترامب بمساندة إسرائيل كطرف أصيل في أي مفاوضات، بل دعاها إلى الإجهاز على حماس بأسرع ما يمكن، وشارك في خداع حماس من خلال إيهامها بأنه سيضغط على إسرائيل في حالة الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر، والدفع بـمساعدين للمبعوث الخاص للاتصال بمسؤولي حماس، لإيهامها بأن الولايات المتحدة تعترف بها، ثم التنصُّل من أي التزام، ومن مساعدي المبعوث أنفسهم[16]، والعودة إلى تحميل حماس مسؤولية تعثُّر المفاوضات، والضغط على قطر ومصر من أجل تسليم حماس.
وانتهى الأمر خلال شهري أغسطس وسبتمبر 2025 إلى تأييد خطط إسرائيل لإعادة احتلال غزة، وتفويضها لاتخاذ ما تراه مناسبًا؛ وقبل ذلك المشاركة في تنفيذ خطة إسرائيل بتجويع الفلسطينيين منذ مارس 2025 من خلال منع دخول المساعدات، ثم قصرها على مؤسسة أمريكية مشبوهة أَعَدَّ فكرتَها مسؤولون سابقون في الجيش والمخابرات الإسرائيلية بالتنسيق والتعاون مع نظراء لهم من الولايات المتحدة، ورجال أعمال يهود[17]؛ ممَّا أسْفر عن إعداد كمائن لطالبي المساعدات وقتلهم بصورةٍ مُمَنْهَجَة.
وبلغ الأمر ذروتَه باجتماع ترامب مع نتنياهو في واشنطن لتحديد مصير غزة وفلسطين في زيارة نتنياهو الثالثة للعاصمة الأمريكية في يوليو 2025 في غياب أي تشاور مع الجانب الفلسطيني أو العربي. ثم عُقِدَ اجتماعٌ في البيت الأبيض بين ترامب ومساعديه في نهاية أغسطس حول غزة، لم تُعْلَنْ نتائجُه ولا المشاركين فيه عدا توني بلير[18]، وصهر ترامب مبعوثه السابق للشرق الأوسط جاريد كوشنر، صاحب مبادرة الاعتراف بسيادة إسرائيل على القدس والجولان، ومُطَوِّرِ صفقة القرن التي كانت تقضي بمنح السلطة الفلسطينية خمسة مليارات دولار من أموال الخليج مقابل تبادل الأراضي مع إسرائيل وعدم إثارة المشاكل. وقد تزامن الاجتماع مع زيارة وزيرَيِّ الخارجية والشؤون الاستراتيجية الإسرائيلييْن للولايات المتحدة.
على الجانب الفلسطيني، استمرَّ الخلاف بين فتح وحماس، وحاولت السلطة الفلسطينية استغلال عزلة حماس دوليًّا وعربيًّا لممارسة مزيد من الضغط عليها من خلال المطالبة بتسليم الرهائن والسلاح لإيقاف الحرب. وإن كانت تلك المواقف لم تُثْمِرْ لدى الولايات المتحدة التي ألْغت تأشيرات حاملي وثائق السفر الفلسطينية ومنعتْ رئيس السلطة من حضور الدورة المقبلة (الـ80) للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ولا لدى إسرائيل التي أمْعَنَتْ في الضغط على السلطة بالتوغُّل اليومي داخل أراضي الضفة الغربية، وتشجيع الاستيطان، وحجب أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل لصالح السلطة الفلسطينية وفقًا لاتفاق أوسلو، وتُشَكِّلُ معظمَ دخل الحكومة الفلسطينية، ممَّا أعجزها عن دفع رواتب موظَّفيها، وأوصلَها لحافَّة الانهيار.
قطر: كشف الهجوم الإسرائيلي الأخير على قيادات حماس في الدوحة يوم 9 سبتمبر، عن أن انخراط قطر في الوساطة لوقف الحرب وإطلاق الرهائن، واستضافتها لقاعدة العُديد الأمريكية الأكبر في المنطقة، وتمويلها لها، واستثمارها لحوالي ترليون و400 مليار دولار في الولايات المتحدة، وتقديمها طائرة مدنية فارهة كهدية للرئيس ترامب، ومشاركتها في حماية إسرائيل من الصواريخ الإيرانية، لم يَحْمِ أمنَها من القصف الإسرائيلي. بل إن القاعدة الأمريكية في قطر، التي شاركتْ في التصدي للصواريخ الإيرانية الموجَّهة لإسرائيل بكفاءة مطلقة منذ أقل من ثلاثة شهور، لم تُحَرِّكْ ساكنًا للتصدِّي للقصْف الإسرائيلي الذي كان الجيش الأمريكي قد أُبْلِغَ به سلفًا. ولعل مقارنة ذلك مع رد فعل حلف شمال الأطلنطي على المُسَيَّرَات الروسية التي اخترقت أجواء بولندا في نفس الأسبوع، تساعد على إدراك محدودية الاهتمام الذي تُوليه الولايات المتحدة وحلفاؤها لحماية الدول العربية التي تعتمد عليها؛ ممَّا يثير التساؤل حول جدوى الركون للولايات المتحدة ليس في قطر فقط، بل في مختلف الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة.
هذا، وقد علَّقَ بِريت ماكجورك -منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي السابق للشرق الأوسط- بأنه “رغم الإدانة الشديدة المتوقعة من قطر والدول العربية لتلك العملية، فإن القيادات العربية وفقًا لخبرته معها لسنوات، لن تفتقد قادة حماس إن اغتيلوا لأنهم يعتبرونهم إرهابيِّين منتمين لجماعة الإخوان المسلمين”[19]؛ ممَّا يعكس الاستخفاف الأمريكي بالأمن العربي، بصرف النظر عن الحزب الحاكم.
الخلاصة: الدروس والعِبَر
الأمن الإقليمى العربي له بنية مؤسسية متماسكة نظريًّا لكنها غير فاعلة عمليًّا. فهو منتهكٌ بوجود إسرائيل ذاتِه بما تمثِّلُهُ من مشروع استعماري استيطاني إحلالي على حساب أحد الشعوب العربية؛ وبما تُشَكِّلُهُ سياساتُها العدوانية، ومواقِفُها المُعْلنةُ رسميًّا على لسان كبار مسؤوليها من أطماعٍ للتوسُّع واحتلال أراضي الإقليم من الفرات إلى النيل؛ وبما يُشَكِّلُهُ تَحَرُّشُها بجميع دول المنطقة من مصدرٍ مستدامٍ لعدم الاستقرار، والحروب؛ وما يؤدِّي إليه عدمُ نجاح الدول العربية في ردعها من تهديدٍ كامن لشرعيَّتها، ودافعٍ لنشأة تنظيمات خارج إطار الدول لتَوَلِّي مُهِمَّةِ المقاومة.
العام الثاني من الطوفان كشف الاختراق الذي تُشَكِّلُهُ إسرائيل لأمن جميع الدول العربية، وللأمن الإقليمي العربي ككل، ضمن سَعْيِها المُعْلَنِ لتغيير خريطة الشرق الأوسط بذريعة مواجهة الطوفان؛ لكنه لم يخلق ظروفًا لم تكن موجودة من قبل: فكلٌّ من الاحتلال، والضم، والتهجير، والاستيطان موجودٌ ويتوسَّع منذ 1948، وأحلام الشرق الأوسط الجديد أُطْلِقَتْ منذ أكثر من ثلاثة عقود، وملاحقة المقاومة مستمرَّة، منفردةً أو بالتعاون مع حكومات أو فصائل أو ميليشيات عربية[20]. المُتَغَيِّرُ الوحيدُ يَتَمَثَّلُ في درجة التَبَجُّحِ، والجَهْرِ بالنوايا، والاستقواء بالدعم الأمريكي المُطْلَق بعد عودة الرئيس ترامب للحكم، حتى امتدَّت الهجمات الإسرائيلية من إيران شرقًا إلى تونس غربًا بمهاجمتها للسفن التي تحاول فَكَّ حصار غزة، مرورًا باليمن، وقطر، وسوريا، ولبنان؛ هذا، بخلاف التحرشات اللفظية بالجميع بمن فيهم مصر والأردن للضغط لتهجير الفلسطينيين، والسعودية التي دعا رئيس وزراء إسرائيل لإنشاء الدولة الفلسطينية على أراضيها.
الطوفان كشف كذلك انسياق الدول العربية نحو تحجيم الصراع العربي الإسرائيلي ليصبح فلسطينيًّا إسرائيليًّا، ثم تقليصه وتفتيته ليقتصر على الصراع بين حماس وإسرائيل، وبين إسرائيل وحزب الله، وبين إسرائيل والحوثيين. كما كشف عدم ارتياح معظم الحكومات العربية لفكرة المقاومة باعتبارها نموذجًا بديلًا عن سياسة المهادنة والتطبيع التي آثرت اتِّبَاعَها في التعامل مع إسرائيل؛ مما أسهم في نجاح سياسات إسرائيل المضطردة تجاه مختلف أطراف المقاومة الفاعلة أو المُحْتَمَلَة التي تتمثَّلُ في العزل عن المحيط الإقليمي الداعم؛ ثم النزع، بدءًا بنزع السلاح، لحرمانها من الدفاع عن نفسها، ثم الانتزاع من الوطن بالقوة الغاشمة.
أظهرت تطورات العام الثاني من الطوفان أن مهادنة إسرائيل، والانسياق وراء تعريفها للتهديدات التي تواجه أمنَها، والأمنَ الإقليمي العربي: المقاومة، وإيران؛ والاستجابة لطلباتها وطلبات الولايات المتحدة المتزايدة لمواجهة هذه التهديدات، لم يُؤَدِّ إلى تعزيز الأمن القومي العربي، أو أمن الدول المعنية منفردة، بل فتح الباب لطلبات جديدة، وضغوط متصاعدة من إسرائيل والولايات المتحدة، يصْعُبُ تحقيقُها، وتُسَبِّبُ إحراجًا بالِغًا للدول المُسْتَهْدَفَةِ، وتُثيرُ معارضةً داخلية تُزَعْزِعُ من شرعيتها، وبالتالي من أمنها.
يثير الهجوم الإسرائيلي على الدوحة التساؤل حول السردية الأمريكية الإسرائيلية التي يتم تسويقُها في إطار الدعوة “للشرق الأوسط الجديد” بأن إسرائيل هي الحليفُ الطبيعي لدول الخليج، القادر على حمايتها من التهديد الإيراني[21]، إذْ إن إيران لم يسبق أن هاجمت أيًّا من دول الخليج مباشرةً بعد الثورة، في الوقت الذي سبق لإسرائيل أن استهدفت الإمارات والأردن قبل قطر، رغم التطبيع[22].
تُعْتَبَرُ مبادرةُ فرنسا والمملكة المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطين الإصدارَ الجديدَ من مسرحية حل الدولتين التي يتكررُ إنتاجُها كلما اشتدَّت أزمات الإقليم واحتاجت الولايات المتحدة أو الدول الغربية للدعم العربي، منذ احتلال العراق للكويت عام 1990. وتجسَّدت في عملية أوسلو التي أنتجت شبه دولة فلسطينية، تمتلك شبه مؤسسات حكومية، وسفارات، لكنها منقوصة السيادة. وقد مَنَحَتْها الأممُ المتحدة وَضْعَ الدولةِ المراقبِ بأغلبية 139 دولة من 193 في 29 نوفمبر 2012، وإن لم تمنحْها العضويةَ الكاملة بسبب الفيتو الأمريكي. وتكررت نفس المسرحية خلال العام الأول من الطوفان في حديث الإدارة الأمريكية السابقة عن بلورةِ “أُفُقٍ” لإنشاء دولة فلسطينية مقابل التطبيع بين السعودية وإسرائيل، بصرف النظر عما ترتكبه إسرائيل في غزة؛ وبعد أن اتخذت الأخيرة جميع الإجراءات التي تجعل من المستحيل إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة، حتى إن عددًا متزايدًا من الخبراء الدوليين أصبح يُقِرُّ بأن الوقت قد حان للتخلِّي عن حلِّ الدولتين[23]. والمسرحية تتكرَّر الآن بإخراجٍ جديدٍ يربط خطوات الاعتراف الرمزية بنزع سلاح حماس والقضاء على المقاومة، لكنه لا يُزيدُ أو يُنْقِص من وضع شبه الدولة الفلسطينية في الواقع. ولا غرابة في ذلك إذْ إنَّ الأُفُقَ لا يُمْكِنُ إدراكُه: فكُلَّمَا اقتربَ منه المرءُ، ابْتَعَدَ هو عنه.
يتَّضح مما سبق أن الأمن الإقليمي العربي ليس في أفضل أوضاعه، وأن مظاهر تدهوره تتسارع خلال العام الثاني من الطوفان. وأن أحداث الحاضر والماضي القريب لا تبشر بتحسُّن الأوضاع ما لم تستخدم الدول العربية إمكاناتها السياسية والاقتصادية على أرض الواقع للضغط على إسرائيل أولًا، وعلى من يسانِدُها ثانيًا. إذْ إنَّ استمرار ضبط النفس، والضغط على المقاومة، لنزع سلاحها، لم يعزِّزْ من الأمن الإقليمي العربي، ولا من أمن دوله منفردة. كما أن استمرار الاعتماد على الحماية الخارجية والقواعد الأجنبية الأمريكية أو الروسية لم يَحُلْ دون التعرُّض لهجمات مباشرة من إسرائيل في قطر أو لبنان أو سوريا، ولا نجح في الحفاظ على النظام السابق في سوريا. وتظل السياسةُ الوحيدةُ التي لم يتم تجربتُها بصورة جماعية، هي دعم المقاومة وتوفير العمق الاستراتيجي لها، والضغط بجدِّيَّة على الطرف الآخر لوقف العدوان؛ على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة لصالح إسرائيل.
العنصر المُبَشِّرُ الوحيد هو أن إسرائيل رغم ما تملكه من إمكانات، ومن دعم لا محدود من الولايات المتحدة، لم تتمكَّن من إخضاع المقاومة حتى الآن؛ وأن الغُلُوَّ الإسرائيلي في التدمير والقتل والانتقام سَيُوَلِّدُ لا محالة مقاومةً أشرس وأكثر فاعلية ولو بعد حين؛ وأن إسرائيل مهما بلغت قوتُها لا تستطيع عمليًّا السيطرة على إقليم الشرق الأوسط. إذْ إنَّ عددَ الإسرائيليِّين اليهود داخل إسرائيل لا يتجاوز 7.5 ملايين، وخارج إسرائيل حوالي 8.5 ملايين، مما يجعل إجمالي عدد اليهود في العالم يتراوح بين 14.8 و15.8 مليون وفقًا لإحصاءات جريدة هآرِتس والحكومة الإسرائيلية على التوالي[24]؛ ممَّا يجعل من المستحيل عليهم السيطرة على أكثر من مائة وخمسين مليون عربي يقطنون المنطقة الواقعة من الفرات إلى النيل.
القاهرة، 13 سبتمبر 2025
——————————————-
الهوامش:
⁕ مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة سابقًا.
[1] مع الإقرار بأن كلَّ الدول العربية مهمةٌ وتؤثِّرُ وتتًاثَّرُ بأحداث الطوفان، وأن المقال اقتصر على لمحات بارزة محدودة لأن المجال لا يتَّسع لتناول الأثر على الجميع بالتفصيل.
[2] Samer S. Shehata, Introduction, (in): Samer S. Shehata (ed.), The Struggle to Reshape the Middle East in the 21st Century, (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2023), p. 9; and Noa Shonmann, Israel and Regional Order Change Post-2011, (in): Ibid, p.79.
[3] حماس عام 1987 بعد الانتفاضة الأولى، وحزب الله عام 1982 لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وحركات يسارية وإسلامية في مصر بعد معاهدة السلام عام 1979، وفي العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003.
[4] Michael D. Shear, Steven Erlanger and Roger Cohen, Behind Europe’s Anguished Words for Gaza, a Flurry of Hard Diplomacy, The New York Times, 10 August 2025.
حتى لو افترضنا أن خطة مستشار الأمن القومي البريطاني حسنة النية للرد على التجاوزات الإسرائيلية، فإن أقل ما توصف به أنها عبارة عن وعد بخطوة رمزية محدودة الأثر، مقابل ثمن عملي باهظ يجب أن يُدْفع مسبقًا.
[5] Farnaz Fassihi and Ephrat Livni, Arab States Call for Hamas to Disarm Amid Push for a Palestinian State, The New York Times, 31 July 2025.
[6] غطَّت وكالة رويترز الخبر تحت عنوان: “الجمعية العامة تعتمد بأغلبية ساحقة إعلان حل الدولتين الذي يدين حماس”:
Reuters, UN overwhelmingly endorses two-state solution declaration that condemns Hamas, Reuters, 12 September 2025, available at: https://bit.ly/4nAZfM5
[7] وهو ما حدث بالفعل بالمناسبة، إذ أطاحت الثورة الفرنسية بخلفه لويس السادس عشر.
[8] Vivian Nereim, Why Trump’s Abraham Accords Have Not Meant Mideast Peace, The New York Times, 13 July 2025.
[9] Reuters, Trump: I told Saudi king he wouldn’t last without U.S. support, Reuters, 3 October 2018, available at: https://bit.ly/3VgSBP0
[10] الذي انكشف جزءٌ منه من خلال الاتهامات الموجهة لرئيس البنك المركزي الهارب إلى فرنسا.
[11] إذ كان قد تم انتخابه في الجمعية العامة عام 2015 على حساب مرشح بريطاني.
[12] أولُّهُم خلال العام الأول للطوفان وبداية العام الثاني حتى تولي ترامب، عاموس هوكستين وهو يهودي إسرائيلي خدم في الجيش الإسرائيلي، وشارك في أحد حروب لبنان؛ ثم التالية مورجان أورتاجوس التي تشمل مؤهلاتها أنها صديقة لأسرة ترامب، فضلًا عن أنها شاركت في حرب العراق، وتَحولت من المسيحية إلى اليهودية على كِبَرٍ مثل ابنة ترامب؛ ثم الأخير توماس باراك، ذو الأصل الشامي، الذي فقد أعصابه عندما تكاثر عليه الصحافيون اللبنانيون في مؤتمر صحافي في نهاية أغسطس 2025، فطالبهم بعدم التصرف مثل الحيوانات، مضيفًا أن “تلك مشكلة المنطقة”.
[13] مصدر الغاز محل الصفقة.
[14] Tracking Trump’s Conflicts of Interest, Accessed: 12 September 2025, available at: https://trumpconflicts.sunlightfoundation.com
[15] Felicia Schwartz, ‘His inexperience shines through’: Steve Witkoff struggles to manage Russia as Trump peace envoy, Politico, politico.com, 29 August 2025, available at: https://bit.ly/3K9wyau
[16] بشارة بحبح، وآدم بوهلر.
[17] Patrick Kingsley, Ronen Bergman and Natan Odenheimer, New Gaza Aid Plan, Bypassing U.N. and Billed as Neutral, Originated in Israel, The New York Times, 24 May 2025.
[18] رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق الذي شارك في غزو العراق خارج إطار الشرعية الدولية، والذي تستضيفه الإمارات منذ خروجه من منصبه، وأنشأت له مؤسسة دولية خاصة للتوسط في النزاعات الدولية.
[19] Brett H. McGurk, CNN Global Affairs Analyst, CNN, Live broadcast, 9 September 2025, 17h20 to 17h25 (Cairo time).
[20] كما حدث خلال أيلول الأسود، والحرب الأهلية اللبنانية من خلال جيش لبنان الجنوبي، وحزب الكتائب خلال مذبحة صبرا وشاتيلا.
[21] ذكر وفد من الكونجرس الأمريكي زار السعودية والإمارات والبحرين عقب العدوان الإسرائيلي على إيران في يونيو 2025 أن المسؤولين الذين التقوا بهم أبلغوهم برسائل تختلف تمامًا عن مواقف بلادهم المعلنة تجاه الضربة الإسرائيلية الأمريكية؛ إذ حذَّروا الوفد الأمريكي من مخاطر البرنامج النووي الإيراني؛ وأكَّدوا الحاجة لتدميره باعتباره تهديدًا وجوديًّا لدول الخليج؛ وأنهم رغم تفضيلهم إنهاء البرنامج النووي الإيراني بالطرق السِّلمية، فإن الأسلوب الذي اتَّبعته إسرائيل وأمريكا يصلح كذلك. وأضاف الوفد أن المسؤولين الخليجيِّين أكَّدوا الرغبة في تهدئة الأوضاع في المنطقة، لكنهم بدلًا من إدانة إسرائيل أبدوا انفتاح بلادهم لمواصلة علاقات الشراكة مع الدولة اليهودية:
Vivian Nereim, U.S. Lawmakers say Gulf Arab Leaders want Iran’s nuclear program to end, but preferably not by force, The New York Times, 18 June 2025.
يتفق ذلك مع ما ذكره لي مصدر سعودي من أن بعض السعوديين يعتبرون التهديد الإيراني عمومًا تهديدًا وجوديًّا يهدف للسيطرة على الحرم المكي والمدينة المنورة، مقارنةً بأطماع إسرائيل الإقليمية المحدودة البعيدة عن المملكة.
[22] اغتيال محمود المبحوح، أحد قادة كتائب عز الدين القسام في دبي عام 2010. ومحاولة اغتيال خالد مشعل أحد قادة حماس في عَمَّان عام 1997.
[23] Michelle Goldberg, These Peace Negotiators Say It’s Time to Give Up on the Two-State Solution, The New York Times, 8 September 2025.
[24] See:
– Judy Maltz, Jews Worldwide Number Near 15 Million, Account for Only 0.2% of Global Population, Haaretz, 9 June 2025, available at: https://bit.ly/46mEZGR
– Jewish Population in the World, World Repatriation Agency Israel, 14 August 2025, welcome-israel.com, Accessed: 13 September 2025.