الأبعاد السياسية للحرب الإيرانية-الإسرائيلية: الخطاب، الداخل، المشروع الإقليمي

كما أن لحرب الاثني عشر يوما الإسرائيلية-الإيرانية أبعادها العسكرية والأمنية، فإن النظرة الاستراتيجية تستدعي أيضا الأبعاد السياسية المتعلقة بخطابات الحرب التي تحولت إلى حرب خطابات بما فيها على الجانب الأمريكي ودلالاتها على أهداف ومواقف الدولتين من جهة، والأوضاع الداخلية وتأثرها بمجريات الحرب، فضلا عن دلالات هذه الحرب بالنسبة للمشروع الإقليمي لكلا الدولتين اللتين لا تخفيان مطامحهما في النفوذ خاصة على حساب البلدان العربية.

أولا – خطابات الحرب وحرب الخطابات

مع تبادلٍ مستمر للهجمات الصاروخية والمسيرات بين الطرفين؛ ازدادت وتيرة الخطاب السياسي والإعلامي للرئاسات والحكومات والمسؤولين في البلدين، عبر بيانات رسمية ومؤتمرات ومقابلات ومنصات التواصل. ولكل خطاب أهدافه المعلنة لكل طرف، وتطور يسمع فيه صدي التصعيد، ودلالاته على الصعيدين الداخلي والخارجي، نبرة التهديد أو التبرير، وردود الفعل الدولية حيالها.

وتُعد الخطابات الرسمية في الصراع الإيراني–الإسرائيلي سلاحًا موازنًا للمواجهة العسكرية؛ فهي تهدف إلى شرعنة الأفعال العسكرية داخليًا ودوليًا، وتعبئة الرأي العام وتوحيد الجبهة الداخلية، وإرسال رسائل استراتيجية لكل من الخصم والحلفاء، إضافة إلى تشكيل الرواية التاريخية للصراع. من يوم 13 يونيو 2025 وحتى 22 يونيو 2025، تجلّت حرب الخطابات كعنصر حاسم في الصراع، حيث وظف كلا الطرفين أدواته اللغوية والدبلوماسية لتحقيق مكاسب تفوق البعد الميداني وحده.

فعلى الجانب الإسرائيلي؛ في المرحلة الأولي (13–15 يونيو)، برزت سردية تُلصق الضربات الإسرائيلية بطابع “ضرورة وجودية” لمواجهة ما يُصوَّر على أنه تهديد نووي وشيك من إيران[2]. استخدمت القيادة هذه اللغة للإيحاء بأن الدفاع الوقائي ينسجم مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، مستندة في تبريرها إلى تقارير دولية تُشير إلى انتهاك إيران لالتزاماتها النووية[3]. وتوجه نتنياهو بخطاب موجَّه خصيصًا للشعب الإيراني قائلًا: “نحن لا نكرهكم… عدونا المشترك هو النظام الاستبدادي”، في محاولة لتفكيك الوحدة الوطنية الإيرانية وإثارة الشكوك داخليًا حول جدوى النظام الحاكم. في الوقت نفسه، سعى الخطاب الإسرائيلي إلى كسب تأييد المجتمع الدولي عبر تصوير الضربة الاستباقية كثمرة دفاع شرعي يهدف إلى منع امتلاك إيران لسلاح نووي يستهدف تل أبيب[4].

مع دخول المرحلة الثانية (16–22 يونيو)، تحوَّل الوجه العام للخطاب نحو توسيع الأهداف الاستراتيجية. إذ بدأ الحديث ينتقل من التركيز على تدمير البنية النووية إلى تصريحات ضمنية عن “إسقاط النظام” الإيراني، بما في ذلك تأكيد نتنياهو في 19 يونيو على أن “تغيير النظام قد يكون نتيجةً للحرب حتى لو لم يكن هدفا معلنا”[5]. وترافق ذلك مع عرض القدرة على شل إيران عسكريًا، كالإشارة إلى تدمير 50% من منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية. وتوجّهت الرسائل إلى الحلفاء، خاصة الولايات المتحدة، بالطلب المضمّن في دعم عسكري مباشر لاستهداف منشآت محصنة مثل منشأة فوردو النووية، مع الإشارة إلى استخدام معدات أمريكية في العمليات السابقة. هكذا أخذ الخطاب يتدرج من دفاع استباقي إلى استراتيجية تبرّر توسيع نطاق الحرب وصولًا إلى التأثير على بنية النظام نفسه، مع إبقاء الباب مفتوحًا للقبول بأن الإطاحة بالنظام قد تنشأ تبعاتها من طبيعة سير العمليات[6].

على الجانب الإيراني؛ بدأت المرحلة الأولى من الخطاب من أرضية أن هذه الحرب عدوان وأنها في موضع الدفاع عن النفس ومقاومة العدوان، حيث وصف المسؤولون الضربات الإسرائيلية بأنها “عدوان صهيوني” وانتهاك صارخ للسيادة الوطنية، وتم تصوير الرد الصاروخي (“الوعد الصادق 3”) كدفاع مقدس لا تجوز المساومة عليه[7]. وظف خامنئي والقيادات الرموز الدينية، معتبرين هذه المعركة بين “الحق والباطل”، لتعبئة المواطنين ودعم الشعور بمهمة مقدسة. وترافقت ذلك مع نقل الإعلام الحكومي لتصريحات تشدّد على ضرورة الرد، وسط تغطية مستمرة لفعاليات الحرس الثوري وضمانات القيادة باستمرارية العمليات الدفاعية[8]، وظهر اتهام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنها “شريك في الحرب العدوانية”، في خطوة تستهدف تشويه دور المؤسسات الدولية والتأكيد على تسيسي قرارتها[9].

من تحليل دلالات الخطاب تظهر مفارقات بين التصريحات والواقع الميداني:

  • فعلى الجانب الإيراني، ترددت ادعاءات بأن أكثر من 70% من الصواريخ أصابت أهدافها بدقة وتجاوزت أنظمة الدفاع الإسرائيلية [10]، بينما تقارير الاعتراض تفيد بأن الدفاعات الإسرائيلية اعترضت نحو 80% من الصواريخ المنطلقة[11].
  • أما استخدام الخطاب لإدارة الأزمات الداخلية فقد اتخذ أشكالًا واضحة في كل بلد. في إيران، قطعت الحكومة الإنترنت ومنعت تصوير الدمار في الأيام الأولى للحرب، سعيًا لاحتكار الرواية الرسمية ومنع انتشار الأخبار السلبية أو مشاهد الإحباط. وركّزت لغة التهديد الخارجي على تحويل الانتباه عن الانكماش الاقتصادي الحاد، حيث تجاوز التضخم 40%. في إسرائيل، فرضت السلطات “حظر نشر داخلي” لتفادي تسرب تفاصيل الخسائر البشرية والمادية، على الرغم من الخطاب المزعوم عن الشفافية المطلقة. هكذا استُخدمت السيطرة على المعلومات ونسج سرديات مؤيدة في كلتا الدولتين كأداة لإبقاء الدعم الشعبي لخطط القيادة العسكرية والسياسية.
  • أثر هذا الخطاب استراتيجيًا في ديناميات الصراع؛ فقد عزز شرعية العمليات العسكرية لدي إسرائيل جزئيًا عبر كسب دعم دول مثل ألمانيا وبريطانيا بتصوير الضربات دفاعًا وجوديًا. وساهم توسيع نطاق التهديدات الإيرانية بتهديد مضيق هرمز والمصالح الأميركية في تحويل الصراع إلى أزمة إقليمية، مما يرفع من كلفة المواجهة ويزيد من ضغوط الأطراف الخارجية على مسار الحرب.

بهذا، تحولت حرب الخطابات إلى ميدان موازٍ للصراع العسكري؛ إذ حاولت إيران توظيف التهديدات الجيوسياسية لتعويض التفوق العسكري الإسرائيلي، وسعت إسرائيل عبر خطاب “الخطر الوجودي” إلى تبرير توسيع أهداف الحرب.

 

ثانيا– الجبهة الداخلية للطرفين

لم يظهر الداخل في كلا الطرفين بوضوح أو بسهولة أثناء الحرب؛ حيث فرضت حكومتا الطرفين تقييدا واسعا على المعلومات على الجبهة الداخلية، ويمكن في حدود ما أتيح من معلومات رسم صورة الموقف على النحو الآتي:

في إيران:

مع اندلاع المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل دخلت الجمهورية الإسلامية مرحلة حاسمة تكشف عن طبيعة الجبهة الداخلية وموقفها من الحرب، تعكس هذه المواجهة تحديات بنيوية عميقة تواجه النظام الإيراني، حيث تتقاطع التهديدات الخارجية مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الداخلية[12].

فعلي صعيد التماسك الرسمي والخطاب الحكومي؛ تبنت القيادة الإيرانية خطابًا موحدًا يؤكد على التماسك الوطني في مواجهة ما تصفه بـ”العدوان الصهيوني”، كما اتخذت الحكومة الإيرانية خطوات حاسمة للسيطرة على الخطاب العام، حيث تم “غلق بعض الصحف والمواقع المحسوبة على التيار الإصلاحي، بدعوى نشرها مواد تضعف الجبهة الداخلية، كما أعلنت الهيئة العليا للإعلام أن “الوقت ليس مناسبًا للنقد، وأن أي خطاب يتعارض مع مصلحة الدولة في وقت الحرب سيُحجب، كما عقد مجلس الأمن القومي الإيراني “عدة جلسات طارئة بحضور قيادات الدولة الثلاث”، وخرجت بياناته تؤكد “جاهزية الدفاع الوطني”، مع التركيز على “منع تسرب الذعر إلى الشارع”، كما تم “التشديد على ضرورة اصطفاف القوى السياسية خلف الدولة”، كما أطلقت الحكومة “حملة حكومية للتطوع والدعم اللوجستي، وصدرت دعوات شعبية للتبرع بالدم والمؤن في المحافظات القريبة من مناطق الاستنفار، كما بدأت إيران “تعبئة المساجد والجامعات من خلال تنظيم ندوات ومحاضرات تروج لمفاهيم مثل الشهادة والجهاد[13].

وعلى صعيد التحديات الاقتصادية والاجتماعية؛ تواجه إيران ضغوطًا اقتصادية هائلة تفاقمت مع اندلاع الحرب، شهدت الأسواق المالية الإيرانية “اضطرابًا كبيرًا فور الإعلان عن الغارات الجوية الإسرائيلية”، حيث “سجل سعر عملة تيثر ارتفاعًا حادًا تجاوز الـ10 آلاف تومان، ليكسر حاجز 92 ألف تومان، أصدر البنك المركزي الإيراني قرارًا فوريًا بـ”وقف عمل مكاتب الصرافة، تزامنًا مع حظر منصات التداول الإلكتروني للذهب، كما تفاقم تآكل القدرة الشرائية حيث حذر الخبراء من أن “استمرار إغلاق مكاتب الصيرفة قد يدفع سعر الدولار مجددًا نحو حاجز الـ100 ألف تومان”، مما قد يدخل “الاقتصاد الإيراني في صدمة تضخمية حادة، وأكد المتخصص في الشأن الاقتصادي ألبرت بغزيان أن “إيران من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، لا تملك القدرة والمرونة على تحمل دخول حرب[14].

وبخلاف الموقف الحكومي فقد ظهرت انقسامات داخلية ومعارضة للحكومة، فبالرغم من أن الخطاب الرسمي يدور حول التماسك، تكشف التقارير عن وجود “ذعر اقتصادي” و”رفض للحرب” في أوساط الشعب الإيراني، انتشر على منصات التواصل الاجتماعي وسم “#نه_به_جنگ” وتعني “لا للحرب”، و”ظهرت لافتات احتجاجية صغيرة في أحياء بطهران وكرج، خصوصًا الأجيال الأصغر، لا يشارك بنفس الحماس التعبوي الذي تروج له الدولة[15].

في إسرائيل

يتسم موقف الجبهة الداخلية الإسرائيلية من الحرب على إيران بالتناقض الواضح بين الدعم السياسي الواسع للمواجهة من جهة، والمخاوف الأمنية العميقة والتحديات العملية الكبيرة من جهة أخرى. هذا الوضع يعكس حالة من عدم اليقين حول قدرة إسرائيل على حماية مواطنيها في مواجهة مفتوحة مع إيران، تدرك إسرائيل أن “الجبهة الداخلية هي نُقطة ضعفها، وأن محور المقاومة من الشمال إلى الجنوب يمتلك صواريخ وقذائف متطورة تُغطي كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة”. وحذر وزير الدفاع السابق يوآف غالانت من أنه “إذا اندلعت حرب، فمن المتوقع أن تواجه الجبهة الداخلية الإسرائيلية تحديات لم نكن نعرف مثلها خلال 75 عامًا”[16].

فمن جهة الرأي العام والاستطلاعات؛ رغم المخاوف الأمنية، تظهر استطلاعات الرأي دعمًا واسعًا للحرب مع إيران. أظهر استطلاع أجرته القناة 13 الإسرائيلية أن “أغلبية كبيرة من الإسرائيليين حوالي 75% تؤيد خوض حرب مع إيران، بينما يعارضها 17% فقط”. كما أظهر استطلاع أجرته الجامعة العبرية في القدس أن “83% من الإسرائيليين يؤيدون قرار نتنياهو بمهاجمة إيران”. وعند سؤالهم عن دوافع رئيس الوزراء، قال “64% من المشاركين إنهم يعتقدون أن السبب الرئيسي للحملة العسكرية الإسرائيلية هو رغبة حقيقية في القضاء على التهديد النووي والصاروخي الباليستي الإيراني”[17]. كما أظهر استطلاع للرأي أجري في منتصف يونيو 2025 دعمًا قويًا بين الإسرائيليين اليهود للحملة العسكرية ضد إيران، حيث أيد 83% منهم الضربات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية. يرتبط هذا الدعم بثقة عالية في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حيث تحظى مؤسسات مثل سلاح الجو الإسرائيلي والموساد بأعلى مستويات الثقة العامة. في المقابل، أظهر الاستطلاع معارضة حادة في المجتمع العربي بالداخل المحتل حيث عارض الإسرائيليون العرب الحملة العسكرية بشكل شبه إجماعي، مع تأييد 12% فقط منهم للعملية وتفضيل واضح للحلول الدبلوماسية. كما لوحظ انتشار أعلى للخوف واليأس داخل المجتمع العربي الإسرائيلي[18]. كما أدت الحرب مع إيران إلى تحسن ملحوظ في شعبية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وفقًا لاستطلاع لصحيفة معاريف، حصل نتنياهو “لأول مرة منذ السابع من أكتوبر على 27 مقعدًا داخل الحكومة الإسرائيلية”. في المقابل، كان “يحصل في أحسن الأحوال على 22 مقعدًا” قبل توجيه الضربة الإسرائيلية إلى إيران[19].

أما عن المخاوف الأمنية العميقة؛ ومع تصاعد الهجمات الصاروخية الإيرانية أصبحت الجبهة الداخلية الإسرائيلية تعيش حالة استثنائية من الهلع والذعر بسبب قوة ودقة الضربات الإيرانية. وصفت النائبة السابقة في الكنيست نيفين أبو رحمون الوضع بأن “الجبهة الداخلية الإسرائيلية في أسوأ حالاتها منذ بدء الحرب” وأنها “أصبحت الخاصرة الأضعف في مواجهة هذا الرد العسكري الإيراني”. أفاد ضابط إسرائيلي لصحيفة يديعوت أحرونوت أن “بعض المواقع التي سقطت فيها الصواريخ الإيرانية تشبه ساحة حرب” وأن “ما شاهدوه من دمار في شوارع تل أبيب جراء الصواريخ الإيرانية يبدو جنونيًا”. وأضاف الضابط الذي شارك في حرب غزة أنه “شعر في رمات غان بعد تعرضها لصاروخ كأنه في خان يونس أو بيت حانون”. كما كشفت المواجهة عن قصور خطير في منظومات الحماية الإسرائيلية. أعلنت الجبهة الداخلية الإسرائيلية في تحقيقاتها الأولية أن “الملاجئ لا تحمي بشكل كامل من إصابات الصواريخ البالستية الإيرانية المباشرة”. وتشير التقارير إلى أن “نحو 60% من بيوت الإسرائيليين لا تحتوي على ملاجئ”. في مدينة حيفا تحديدًا، يواجه الإسرائيليون “نقصًا كبيرًا في الملاجئ وسط استهداف المدينة برشقات صاروخية متواصلة”. وتتزايد المخاوف في الأوساط الأمنية الإسرائيلية من خوض “حرب استنزاف ضد إيران دون وجود مسار دبلوماسي”. قالت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية إن “إيران كانت تخطط لإنتاج العشرات من الصواريخ الباليستية المرعبة شهريًا” وأن “هدف إيران إنتاج نحو 11000 صاروخ باليستي في غضون عقد من الزمن”. وتشهد وسائل التواصل الاجتماعي “جدلًا متصاعدًا في الداخل الإسرائيلي بشأن سياقات وتداعيات الحرب مع إيران”. تركز الانتقادات على عدم توفير الحماية الكافية للمواطنين قبل توجيه الضربة العسكرية لإيران.

 

ثالثًا – السيناريوهات المتوقعة

تتبدَّى بين أيدينا احتمالات كثيرة لاتجاهات الأوضاع في إيران وإسرائيل في المستقبل القريب، وفي الصراع بينهما، بسياقاته الداخلية والإقليمية والدولية، نشير منها إلى ما يتعلق بداخل الطرفين والصراع المستقبلي بينهما:

  • بالنسبة للداخل في الطرفين:

يتعرض كل من الداخل الإيراني والإسرائيلي لضغوط ما قبل هذه الحرب، ثم ضغوطها هي، وما بعدها من تحديات وتهديدات أمنية واقتصادية وسياسية، ما يدفع باتجاه احتمالات أكثرها يشير إلى احتمالات اضطراب أو تغيير سياسي ما، ومن الناحية الأخرى قد تستغل أنظمة الحكم هذه الحالة الصراعية الخارجية من أجل تكتيل الجماهير والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية وراءها، وفيما يلي نشير إلى هذين السيناريوهين:

السيناريو الأول- الاضطرابات الداخلية بأثر الحرب واستمرار الضغوط:

تشير العديد من المؤشرات إلى مخاوف إيرانية من تصاعد الضغوط الاقتصادية والسياسية على النظام الحاكم، خاصة مع ظهرو إيران في موقف ضعيف عسكريا واستخباريا أمام إسرائيل حتى من قبل تدخل الولايات المتحدة، وضرب الكثير من رموز قوتها العسكرية والنووية، رغم الاختلاف في تقديرات هذه الخسائر والتعمية عليها، فضلا عن انكشاف الفجوة الواسعة ما بين الخطاب الدعائي السياسي والعسكري والثوري من جهة والقدرات والسلوك الفعلي من الجهة الأخرى. أمام النظام الإيراني أحد خيارين لتجنب انفجار محتمل: إما امتصاصه عبر إجراءات سياسية ذكية ومراجعات وطنية واسعة لكن لا تتبدى لها مؤشرات واضحة حتى حينه، وإما الاستمرار في سياسة القبضة القوية وكتم الأصوات المعارضة بحجة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

من الناحية الأخرى، ورغم تصاعد التأييد لحكومة بنيامين نتنياهو أثناء الحرب على إيران، والتأييد لإنجازات التي يرون أنها تحققت في تخفيف أو تحييد الخطر الإيراني وبالأخص النووي والصاروخي، فقد عادت في إسرائيل التظاهرات المحتجة على سياسات الحكومة لا سيما في التعامل مع الحرب في غزة، تطالب باستعادة من يسمونهم الرهائن وإنهاء الحرب وإرجاع الجيش عبر صفقة مع حماس. تتأكد هذه الضغوط مع تصاعد عمليات المقاومة نوعيا، وقدرتها على إصابة الجنود الصهاينة، ومع تجدد المعارضة الدولية لحرب الإبادة والحصار المفروض على غزة من غير سقف محدد. لكن المحدد الأكبر الذي يضاعف من هذه الضغوط على الداخل الإسرائيلي وحكومته إعلان إدارة الرئيس الأمريكي ترامب ضرورة إنهاء هذه الحرب عبر صفقة مع حركة حماس. وأمام الحكومة الإسرائيلية أحد خيارين مجربين سابقا: إما اختلاق ما يمكنها من الاستمرار في الحرب وصد تلك الضغوط، وإما الضغط من أجل صفقة مؤقتة تضمن لها اليد العليا في غزة والاستمرار في الضغط على الضفة واعتصارها، في الطريق إلى التهجير وإعادة تشكيل واقع الأرض المحتلة.

ومن ثم يعود الكيان الصهيوني إلى حالة ما قبل الحرب، بينما تدخل إيران في حالة جديدة من زعزعة الاستقرار المدعومة بالدعاية الخارجية المضادة لنظام الحكم فيها.

السيناريو الثاني- الاصطفاف الداخلي في إطار استمرار الصراع:

إذا استمرت المواجهة بين إيران وإسرائيل على مستوى على لكن دون الحرب المباشرة، فمن المحتمل جدا أن تستغل حكومة كل من الطرفين هذه الحالة في استدعاء اصطفاف شعبي إلزامي وراءها، ما يمثل ضغطا مضادا على الأصوات المعارضة ومطالب التغيير. والحكومة الإسرائيلية تستعمل هذه الأداة بكفاءة، وإن كانت الحرب في غزة والإنهاك القومي نتيجة طول مدة المواجهات منذ 7 أكتوبر لا تتيح ذلك بصورة مطلقة. هذا بينما تتردد إيران من ابين ناري الداخل والخارج، فإذا عملت على تهدئة الصراع الداخلي فقد لا تتمكن من تنفيذ هذا السيناريو، وإذا جارت إسرائيل وحلفاءها في مواصلة الصراع بأشكال دون الحرب من اجل اصطفاف الداخل وتجاوز ضغوطه، فهي لا تأمن الانجرار إلى مزيد من المواجهات التي لا تبدو مستعدة لها.

 

  • بالنسبة للتوازن والصراع الإقليمي:

تمتد آثار هذه الحرب إلى ميزان القوة الإقليمي ومواصلة التنافس بصورة ساخنة بين المشروعين الاستراتيجيين الإسرائيلي والإيراني في المنطقة على حساب العرب، على نحو ما شهده العقدان الأخيران. وأمام مسار هذه الحرب ودينامياتها وتداعياتها، تتراءى عدة سيناريوهات لاحتمالات الصراع الإقليمي في المستقبل القريب بين الطرفين.

السيناريو الأول- صعود النفوذ الإسرائيلي على حساب الإيراني:

وهذا هو السيناريو الأقرب إلى الواقع؛ نظرا لأن نتائج الحرب تبدو في صاالح إسرائيل وفي غير صالح إيران عسكريا وأمنيا وسياسيا؛ حيث أفقدت إسرائيل إيران الكثير من عناصر قوتها؛ وعلى رأسها الصورة القوية التي كانت تبدو عليها قبل الحرب، كما أمعنت في تفكيك محورها الاستراتيجي من قبل الحرب بضرب حزب الله، ومع إسقاط المعارضة السورية لنظام بشار الاسد في سوريا. الواضح أن المحور الإيراني في تراجع شديد وقابل للاستمرار، ولي واضحا ما يمكن لإيران أن تفعله للم شعثه خاصة بعد دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة المباشرة معها، وعدم قدرة عناصر محورها في العراق ولبنان واليمن مساندتها أثناء هذه الحرب.

في المقابل، تعلن إسرائيل وحفاؤها عن بوادر توسع استراتيجي في التطبيع وتطبيق اتفاقات أبراهام الصهيوينة، التي تقدمت بقوة في ولاية ترامب الأولى. ومن الواضح أن الولايات المتحدة –وأوربا- ستسعى لمؤازرة إسرائيل لجني ثمار هذه الحرب في صورة نفوذ عسكري، وعلاقات سياسية ودبلوماسية تعبر عن نفوذ وهيمنة إسرائيليين جديدين في المنطقة. وهذا هو السيناريو الأخطر والأقرب للواقع في المنطقة، لكن الحرب في غزة تظل هي الشوكة التي تعطله، وتظل كيفية إنهاء هذه الحرب معضلة بالنسبة لهذا السيناريو.

السيناريو الثاني- استمرار تأجج التدافع بين المشروعين:

تتوقع الكثير من الرؤى أن يتصل الصراع بين الطرفين وحلفائهما، مع استمرار تعارض أهدافهما الإقليمية، ومع تصاعد المطامع الإسرائيلية على وجه الخصوص. فثمة احتمالات لانتقال الحرب إلى اليمن، أو سوريا، أو العراق، وأن سعي إسرائيل لقطف الثمار لن يمر مرور الكرام على منطقة مؤججة بالغضب والفوضى. وفي هذه الحالة فإن إسرائيل قد تعزز بع مكاسبها، لكن سيناريو الهيمنة قد ينقلب على عقبيه، الأمر الذي تصرخ الكثير من الأصوات الإسرائيلية والغربية بضرورة الاحتراز منه.

وعلى كل فستظل المسافة بين إسرائيل وإيران، وصولا إلى داخل كل منهما، أشبه بخط وقود، قابل للاشتعال، وللانفجار في أية لحظة، وقابل للتهدئة لكن على قاعدة حق الغالب في تحديد مآلات الحرب.

 

[1]  باحث بمركز الحضارة.

[2] إسرائيل تشن ضربات جوية “استباقية” ضد “أهداف عسكرية ونووية إيرانية”، وطهران تتوعد “بردّ قوي”، بي بي سي عربي، 13 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 17 يونيو 2025، https://bbc.in/3I7EHv4

[3] عادل الشروعات، صلاح شرارة، مشاركة أمريكا في نزاع إيران وإسرائيل- ترامب سيقرر في أسبوعين، دويتش فيلا، 19 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 17 يونيو 2025، https://shorturl.at/VxheG

[4] راجع:

– إسرائيل تشن ضربات جوية “استباقية” ضد “أهداف عسكرية ونووية إيرانية”، وطهران تتوعد “بردّ قوي”، مصدر سابق.

– جيمس لانديل، ما هي أسوأ السيناريوهات المحتملة في الصراع بين إيران وإسرائيل؟، بي بي سي، 14 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 17 يونيو 2025، https://shorturl.at/RUcdm

[5] عادل الشروعات، صلاح شرارة، مشاركة أمريكا في نزاع إيران وإسرائيل- ترامب سيقرر في أسبوعين، مصدر سابق

[6] راجع:

– توقعات إسرائيلية بتدخل أميركي في الحرب ضد إيران “خلال أيام”، الشرق الإخبارية، 2 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 22 يونيو 2025، https://shorturl.at/aWXul

– حرب إسرائيل وإيران.. صراع تحت السقف النووي، الجزيرة نت، 14 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 17 يونيو 2025، https://shorturl.at/UXJQg

[7] شريف هريدي، ماذا كشفت المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران؟، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 14 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 17 يونيو 2025، https://shorturl.at/G7oYW

[8] حرب إسرائيل وإيران.. صراع تحت السقف النووي، الجزيرة نت، مصدر سابق

[9] إيران تتهم الوكالة الدولية للطاقة بالمشاركة في الحرب الإسرائيلية، الجزيرة نت، 19 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 20 يونيو 2025، https://shorturl.at/8aOah

[10] مصدر عسكري إيراني: أكثر من 70% من الصواريخ أصابت أهدافها بدقة وتجاوزت أنظمة الدفاع الإسرائيلية، روسيا اليوم، 19 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 25 يونيو 2025، https://shorturl.at/8EqWR

[11] بعد نهاية حرب إسرائيل وإيران.. ما “إنجازات” كل طرف؟، سكاي نيوز عربية، 24 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 25 يونيو 2025، https://shorturl.at/lcwCw

[12] ساجدة السيد، كيف يرى الداخل الإيراني الحرب الإسرائيلية؟، القاهرة الإخبارية، 19 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 21 يونيو 2025، https://bit.ly/40gQltI

[13] المصدر السابق

[14] دراويش معمار، هل يصمد الاقتصاد الإيراني في وجه الحرب؟، إندبندنت عربية، 15 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 17 يونيو 2025، https://bit.ly/4lfZCdH

[15] ساجدة السيد، كيف يرى الداخل الإيراني الحرب الإسرائيلية؟، مصدر سابق

[16] محمد هلسة، “إسرائيل”: “الأمة كلها جيش والبلاد كلها جبهة”؟، الميادين، 22 سبتمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 19 يونيو 2025، https://bit.ly/3ZG8dhy

[17] الهجوم على إيران يرفع شعبية نتنياهو في إسرائيل بعد تراجعها بسبب حرب غزة، الشرق الإخبارية، 19 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 21 يونيو 2025، https://bit.ly/4ll1h1H

[18]  Public Opinion on Iran Strike Shows Strong Support Among Jewish Israelis, Sharp Divides with Arab Israelis, scienmag, June 16, 2025, https://bit.ly/3SYY0cp

[19] نظير مجلي، نتنياهو يحصد أرباحاً سياسية في حربه ضد إيران، الشرق الأوسط، 20 يونيو 2025، تاريخ الاطلاع: 25 يونيو 2025، https://bit.ly/44ccHOa

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى