إدارة ترامب بين الأزمة الداخلية وأزمة القيادة العالمية: السياسة والخطاب


مقدمة:
الأوبئة والجوائح اختبارات مفصلية حاسمة شديدة الصعوبة للدول والمجتمعات، وهي امتحانات مضنية لعافيتها الصحية وكفاءتها الإدارية وفاعليتها السياسية، تضعها في مواجهة ذاتها وغيرها تعاونًا أو صراعًا، وتختبر قيمها المعلنة وتكشف عن تحقيقها مصالحها الحقيقية من عدمه.
وقد جاءت جائحة كورونا (كوفيد-19) في توقيت فاصل للولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاءتها في فترة حكم إدارة الرئيس ترامب، وفي العام الأخير من فترة حكمه الحالية وقبل ما يقارب العام من ميعاد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل التي سيترشح فيها عن حزبه الجمهوري لينال ولاية ثانية.
احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى في عدد الإصابات بالفيروس وعدد حالات الوفاة بسببه لمدة شهور طويلة متواصلة؛ فقد بلغ عدد الإصابات بفيروس كوفيد- 19 في الولايات المتحدة 13.9 مليون إصابة وبلغ عدد الوفيات بسبه 143 ألف حالة وفاة حتى كتابة هذه السطور في ظل رئاسة مثيرة للجدل داخليًا وعالميًا.
ويسعى هذا التقرير للإجابة عن سؤالين أساسيين:
- كيف أثر تعامل إدارة ترامب مع جائحة كورونا على المستوى الداخلي؟
- كيف كانت نتيجة تعامل إدارة ترامب مع الجائحة على المستوى الخارجي على وضع الولايات المتحدة كقيادة عالمية؟
ولذلك يتناول التقرير السياسات والإجراءت والخطابات التي اعتمدتها إدارة ترامب في مواجهة الجائحة وتطورها على المستوى الصحي والاقتصادي وما أثارته من جدل على مستوى الداخلي للولايات المتحدة، كما يتناول تعامل الولايات المتحدة مع الجائحة عالميا من خلال سياساتها وخطابها الذي انتهجته مع الأعداء والحلفاء والمنظمات الدولية وتأثير ذلك على مكانتها القيادية في العالم.
وغني عن البيان أن هذا الفصل بين الداخلي والخارجي لأغراض التحليل؛ إذ أن الحدود الفاصلة بين الداخل والخارج عموما بالنسبة لمعظم الدول غير حاسمة، وهي أشد التباسًا في حالة قوة عظمى كالولايات المتحدة.
أولَا- المستوى الداخلي: ارتباك الإدارة واستقطاب الأمريكيين (حالة عدم الاتحاد)
تكاد تُجمِع تقارير ومتابعات الباحثين والصحفيين وتعليقات السياسيين الأمريكيين على فشل إدارة ترامب في التعامل مع فيروس كورونا، وعلامات هذا الفشل يرصدها المحللون في ارتباك سياسات الإدارة وخطابها المثير للاستقطاب وعدم الوحدة في مواجهة جائحة بحجم كوفيد- 19.
الإدارة المرتبكة
تشير العديد من الدراسات والتقارير والمتابعات إلى ارتباك إدارة ترامب في تعامها مع فيروس كورونا، ويمكن الإشارة إلى خمس مراحل مرت بها استجابة ترامب وإدارته للجائحة:
- الإنكار والتهوين
كشفت العديد من التقارير المختلفة عن رصد الاستخبارات الأميركية وجود عدوى غريبة تنتشر بمدينة ووهان الصينية في أواخر شهر نوفمبر 2019، وأشارت شبكة “أي بي سي” إلى أن وكالة المخابرات المركزية (سي آي أي) أبلغت البيت الأبيض وحذرت من أن ذلك يمكن أن يمثل خطرا كبيرا حال انتقال العدوى للولايات المتحدة. وعندما أخبرت الصين منظمة الصحة العالمية بوجود فيروس كورونا في آخر يوم من 2019، تلقى الرئيس ترامب رسميا بعدها بثلاثة أيام تقريرا مفصلا من جينا هاسبل رئيسة وكالة الاستخبارات المركزية يتحدث عن مخاطر فيروس كورونا. وفي ذات اليوم، اتخذ ترامب قرارا بتصفية الجنرال قاسم سليماني قائد سرايا القدس الإيرانية، واتجه تركيزه بصورة كاملة لاحتمالات التصعيد العسكري مع طهران. ثم اتجه تركيز ترامب وكبار مساعديه على المحاكمة التي أجراها مجلس الشيوخ بهدف عزل الرئيس، حتى انتهت بالتصويت بعدم إدانة ترامب في الخامس من فبراير.
وفي الأسبوع الثالث من شهر يناير 2020 أجاب ترامب عن سؤال من شبكة “سي إن بي سي” حول فيروس كورونا خلال مشاركته في مؤتمر دافوس في سويسرا، وقال “أنا غير قلق على الإطلاق من احتمال وجود وباء، لدينا فقط حالة واحدة لشخص قدم من الصين، سيكون الأمر على ما يرام”.
وفي خطوة بدت جيدة إلى حد ما تم تشكيل فريق عمل بالبيت الأبيض للتعامل مع انتشار فيروس كورونا، وأعلن ترامب وقف الطيران من وإلى الصين. وإن ظل الاستخفاف بالفيروس حاضرا حيث أن ترامب لم يشكل فريق لإدارة الأزمة، بل مجرد فريق عمل، وتأكد الاستخفاف بتأكيد ترامب في العاشر من شهر فبراير خلال خطاب له في مؤتمر انتخابي بولاية نيوهامبشاير أنه “بحلول أبريل ومع بدء اشتداد الحرارة سيختفي الفيروس”.
- ادعاء السيطرة
في هذه المرحلة كان هناك إدراك في الإدارة الأمريكية بأن ثمة مخاطر وشيكة، بيد أن الرئيس ترامب استمر في القول إن “كل شيء تحت السيطرة” والمخاطر على بلاده قليلة. وذكر ترامب خلال زيارته الرسمية للهند أواخر شهر فبراير “إن وباء كورونا تحت السيطرة في الولايات المتحدة، هناك 59 إصابة فقط منهم 45 حالة انتقلت إليهم العدوى في الخارج”. وبعد عودته لواشنطن بدأت الاتهامات توجه للرئيس بسبب تقليله من خطورة فيروس كورونا، خاصة بعدما قال إن “انتشار الفيروس محليا ليس أمرا محتوما” في تغريدة له. ثم ادعى خلال زيارته لمركز السيطرة على الأمراض والوقاية في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا “توافر اختبارات الكشف عن فيروس كورونا لأي مواطن أميركي يرغب في ذلك، لدينا أعداد كبيرة منها” وهو ما يخالف الواقع حينئذ بشكل كامل.
- عدو غير مرئي
بعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية في الحادى عشر من مارس تحول فيروس كورونا إلى وباء عالمي، وحذرت دول العالم من ضرورة اتخاذ الخطوات اللازمة للتعامل مع الوباء الخطير، عُطلت المدارس وأُغلقت الشركات وتوقفت المصانع عن العمل بعد انتشار الفيروس في العديد من الولايات، وانهار سوق الأسهم وول ستريت وخسرت مؤشرات الأسهم 35% من قيمتها خلال أيام قليلة. وأعلن ترامب حالة الطوارئ القومية في أنحاء البلاد، وهو ما سمح بتخصيص مليارات الدولارات للولايات للتعامل مع تداعيات الوباء. قدم ترامب نفسه كرئيس دولة في حالة حرب ضد ما وصفه بعدو غير مرئي، قبل أن يضيف خلال ظهوره المتكرر في المؤتمر الصحفي بالبيت الأبيض “أرى نفسي، بطريقة ما رئيسا في وقت حرب، نحن نخوض حربا، وهو موقف صعب جدا جدا” .وأضاف “أدركت المخاطر مبكرا وكنت أتوقع ما أعلنته منظمة الصحة العالمية مؤخرا من تحول فيروس كورونا لوباء عالمي”.
وقد أصدرت إلإدارة الأمريكية أربعة قوانين للتعامل مع الجائحة: قانون التأهب والاستجابة التكميلية للفيروسات التاجية 2020، ويوفر تمويلا قدره 8.3 بليون دولار لتمويل الأجهزة الفيدرالية لمواجهة تفشي المرض[1]. وقانون العائلات الأول للاستجابة لفيروس كورونا، ويضمن توفير إجازة مرضية مدفوعة وإعفاءات ضريبية واختبار كوفيد-19 مجانًا وتوسيع المساعدات الغذائية وإعانات البطالة؛ وزيادة تمويل برنامج Medicaid[2]. وقانون مكافحة فيروس كورونا، والإغاثة، والأمن الاقتصادي CARES، ويوفر تمويلا قدره 2.2 تريليون دولار لمواجهة تأثير الفيروس على الاقتصاد والصحة العامة وحكومات الولايات وشركات القطاع الخاص[3]. وقانون تحسين الرعاية الصحية وحماية صكوك الرواتب ويهدف إلى توفير تمويل إضافي لقروض الأعمال الصغيرة ومقدمي الرعاية الصحية واختبار كوفيد 19 بتمويل قدره 484 بليون دولار[4].
- التنصل من المسئولية
في هذه المرحلة ألقى ترامب باللوم على جهات مختلفة وحملها مسؤولية انتشار الفيروس: الصين والاتحاد الأوربي -وسيعود التقرير بالتفصيل لتعامل ترامب معهما في الجزء المخصص للمستوى الخارجي-، وهنا نعرض لتحميل ترامب المسئولية للإدارة الديمقراطية السابقة ولحكام الولايات. فقد لام ترامب باراك أوباما على خسائر أميركا البشرية والمالية جراء تبعات فيروس كورونا، وأشار في كلمته للأمة الأميركية يوم 13 مارس أنه ورث “أرفف ومخازن فارغة من المستلزمات الطبية الضرورية من إدارة أوباما، ما تركته الإدارة السابقة لم يسمح بإجراء الاختبارات اللازمة لكل الأميركيين” في حين أن إدارة ترامب قامت بتفكيك وحدة الاستجابة للأوبئة التي كانت أنشأتها إدارة أوباما. واتهم ترامب حكام الولايات بالتقاعس عن القيام بواجباتهم والاستعداد المبكر لمواجهة تبعات فيروس كورونا، واستحوز حاكما ولاية نيويورك (أندرو كومو) وولاية ميتشيجان (جريتشن ويتمار) على نصيب الأسد من هذه الانتقادات، وطالبهم بعدم تسييس قضية كورونا خدمة لأهداف سياسية ضيقة[5].
- تجاهل العلم ودعم إعادة فتح الاقتصاد
يرى توماس فريدمان أنه عندما يتم الانتهاء من تدوين السجل الكامل لفيروس «كورونا» في أميركا، قد يذهب المؤرخون إلى أن أكبر خطأ ارتكبه الرئيس دونالد ترامب لم يكن ما فشل في القيام به في أوائل عام 2020، عندما كانت الاستراتيجية الصحيحة لمكافحة الفيروس صعبة وغير مثبتة ويدور حولها جدل واسع، بل ما فشل في القيام به في يونيو 2020 عندما كانت الاستراتيجية الصحيحة واضحة ومثبتة وسهلة نسبيا، وتساءل مستنكرا: هل يبدأ ترامب يومه بالسؤال عما ينصح به الخبراء في مواجهة كورونا ليتجاهله لاحقًا[6]؟
بدأ ترامب الدعوة لإعادة فتح الاقتصاد مبكرًا جدًا، إذ غرد في منتصف شهر مارس للاستعداد لعودة فتح قطاع الأعمال وعودة العمال والموظفين لمكاتبهم ومصانعهم بحلول أعياد الفصح في 12 من أبريل، قائلا: “لا يمكن أن يكون العلاج أسوأ من المرض، أريد العودة وإنهاء الإغلاق بحلول عيد الفصح، لماذا لا أتصور أنه يمكننا فعال ذلك”. وذكر ترامب أنه لا يسعى إلى الحصول على نصيحة من الاقتصاديين حول كيفية تأثر الاقتصاد الأمريكي بإجراءات الإغلاق بسبب فيروس كورونا، وردا على سؤال بشأن المعلومات التي يتلقاها من الاقتصاديين قال ترامب مهاجما: “أعرف الكثير عن الاقتصاديين، والجواب هو: ليس لديهم فكرة”[7].
لم يتجاهل ترامب الاقتصاديين فحسب، بل لم يصغِ للأطباء وخبراء الأوبئة بما فيهم د. أنتوني فوتشي مدير معهد الحساسية والأمراض المعدية وعضو لجنة ترامب لمكافحة كورونا، فهو يستخف برأيه بوجوب ارتداء الكمامة وظهر معه مرارًا وتكرارًا في مؤتمرات صحفية بدونها، وردًا على سؤال وجِّه له في الأسبوع الثاني من شهر يوليو عما إذا كان لا يزال يقدر نصيحة فوشي، لم يرد ترامب بشكل مباشر لكنه قال إن لديه “علاقة جيدة جدًا مع الدكتور فوشي”، كما شارك الرئيس تغريدة تسخر من فوشي[8].
- خطاب عدم الاتحاد والاستقطاب
من خلال استعراض الخمس مراحل المشار إليها سابقًا يمكن القول أن سمات خطاب ترامب تتمثل في: نشر التضليل، تحجيم المعارضة، نزع الشرعية عن المجتمعات، تكديس السلطة التنفيذية، تسييس المؤسسات المستقلة:
- شارك ترامب في حملة تضليل لتقليل أهمية الفيروس والسعي للحفاظ على نجاحه الشخصي في رئاسته وتعزيز فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم.
- حاول تحجيم المعارضة من خلال تقييد وصول الصحافة إلى مسؤولي الصحة العامة الذين ينتقدون رده؛ كما هدد بوقف المساعدة عن الدول التي “لا تعاملنا معاملة جيدة”، أو التي تشكك في فعالية إدارته.
- سعى إلى نزع الشرعية عن المجتمعات الضعيفة من خلال مضاعفة سياسات الهجرة التقييدية على الحدود الجنوبية التي لا علاقة لها بمنع انتشار الفيروس، مثل الجدار الحدودي مع المكسيك.
- هدد بممارسة سلطات لا يمتلكها قانونًا “لفتح الاقتصاد” متجاوزًا سلطة حكام الولايات وعمد المدن والتي بموجبها يحق لهم فرض أوامر البقاء في المنزل وإغلاق الأعمال، ثم تراجع عن هذا التهديد.
- وفي السياق نفسه، يقوض ترامب استقلالية مراكز مكافحة الأمراض والوقاية عن طريق إجبارها على تخفيف المبادئ التوجيهية للتمييز الاجتماعي ضد نصيحة قادة الوكالة نفسها. حتى عندما يزعم ترامب الاستماع إلى الخبراء، على ما يبدو في تراجعه عن تعهده بتغيير توجيهات مركز السيطرة على الأمراض بشكل متعجل، فإن تصريحه بأن مسئولية تغيير المبادئ التوجيهية تقع على عاتقه يثير قلق المتابعين[9].
فاقمت الكورونا من الانقسام والاستقطاب في المجتمع الأمريكي فتدور المعارك في المحاكم بين الديمقراطيين والجمهوريين، بين حكام الولايات وعُمد المدن بشأن تعليمات ارتداء الكمامات، إذ رفع برايان كيمب حاكم ولاية جورجيا الجمهوري دعوى قضائية ضد كيشا لانس بوتومز عمدة مدينة أتلانتا الديمقراطية -أكبر مدن الولاية- في مسعى منه لعرقلة أمرها بشأن الارتداء الإلزامي للكمامة. وفي جورجيا، قام الحاكم الجمهوري بمقاضاة عمدة أتلانتا الديمقراطي لإصداره تفويضًا على مستوى المدينة.
وقد جاءت الدعوى التي قدمها كيمب في الوقت الذي أصبحت فيه قضية ارتداء الكمامة -والتي تحظى بدعم واسع من قبل خبراء الصحة العامة للحد من انتقال فيروس كورونا- قضية سياسية خلافية في الولايات المتحدة. ورفض العديد من حكام الولايات الجمهوريين إصدار أوامر إلزامية بارتداء الكمامات على الرغم من تشجيع سكانها على تغطية وجوههم، كرد فعل ضد أوامر الصحة العامة التي تحض عليها الحكومة في أجزاء من البلاد[10].
وفي الشارع هناك ما يعرف بحروب الكمامات بين من يرتديها ويطلب من غيره الالتزام بذلك وبين من لا يرتديها ويروج لعدم ارتدائها، ومتاجر تلزم روادها بارتدائها وأخرى تمنع من يرتديها من الدخول[11]؛ فقد امتلئت محطات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لمواجهات غاضبة على الأرصفة وفي المتاجر والشوارع حول ارتداء أقنعة الوجه. وفي ميشيغان، قتل نائب عمدة بالرصاص رجلا طعن رجلا آخر لتحديه بشأن عدم ارتداء قناع في متجر صغير.
وهناك انقسام حزبي على الأقنعة؛ فقد ارتفعت نسبة الجمهوريين الذين يقولون إنهم يرتدون أقنعة كلما غادروا المنزل 10 نقاط لتصل إلى 45 ٪ في الأسبوعين الأولين من يوليو، بينما أفاد 78 ٪ من الديمقراطيين بذلك وفقًا لاستطلاع أجرته إحدى الوكالات[12].
وهو انعكاس للانقسام والاستقطاب في المجتمع الأمريكي، والذي ظهر بشكل أوضح بسبب الاحتجاجات ضد مقتل جورج فلويد الأمريكي من أصل أفريقي على يد شرطيين بيض، إذ وصل الأمر إلى أن يدعو أحد أكبر الباحثين في “أمريكان انتربريز” وكاتب خطابات الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش الابن، ورامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، إلى أنه ربما لا يجب على ترامب إنقاذ المدن التي يديرها الديمقراطيون، والمحاصرة بالعنف، بدعوى أن الناس صوتوا في تلك المدن لصالح رؤساء البلديات الديمقراطيين وأعضاء مجلس المدينة الضعفاء. ربما إذا عانوا من عواقب القيادة الديمقراطية غير الكفؤة، فسوف يفعلون ما فعله سكان نيويورك في التسعينات وسيصوتون للجمهوريين الذين لديهم موقف صارم وحازم من الجرائم لاستعادة القانون والنظام[13].
ثانيًا- المستوى الخارجي: تفاقم التراجع
اتسمت علاقة الولايات المتحدة ببيئتها الدولية بالتوتر أثناء جائحة فيروس كورونا، فهي تتبادل الاتهامات مع الصين عدوها الاستراتيجي في بعض تقييمات كبار المفكرين والساسة الأمريكيين، وتعرض مساعدات غير بريئة على عدوتها إيران، وتتصارع مع حلفائها الأوروبيين على مستلزمات مواجهة الكورونا.
- الصين: فيروس ووهان أم مختبر فورت ديتريك
تبادلت الولايات المتحدة والصين الاتهامات بشأن كل ما يتعلق بفيروس الكورونا بدءًا من أيهما منشأ الفيروس وانتهاء بالفشل في التعامل معه.
وكانت إدارة ترامب قد منعت أي شخص أجنبي كان في الصين خلال الـ 14 يوما الماضية من دخول الولايات المتحدة، وأوقفت ثلاث شركات خطوط جوية أمريكية كبرى تسيير رحلاتها الجوية إلى الصين بنهاية شهر يناير 2020.
وقد ألقى ترامب باللوم على بكين بسبب تسترها ومحاولة خداع العالم بخصوص كورونا خلال أسابيع انتشاره الأولى، وقال في المؤتمر الصحفي بالبيت الأبيض يوم 21 مارس: “كنت أتمنى أن تبلغنا الصين مبكرا عما يحدث، كان يمكن الاستعداد بصورة أفضل”. كما أطلق على كورونا “الفيروس الصيني”، وكرر أكثر من مرة وصفه فيروس كورونا المستجد بالـ”كونج فلو” على الرغم من الانتقادات التي قالت إنه تعبير عنصري يجمع بين منبع الفيروس في الصين ورياضة الفنون القتالية “كونج فو”. وقال ترامب خلال تجمع لأنصاره في مدينة فينيكس بولاية أريزونا: “إنه (الفيروس) يحمل جميع الأسماء المختلفة. ووهان… فيروس كورونا، أليس كذلك؟ كونج فلو، كوفيد، كوفيد-19″، وأضاف: “يمكنني أن أعطيك العديد من الأسماء، بعض الناس يسمونها الإنفلونزا الصينية، إنفلونزا الصين، أليس كذلك؟”[14].
وفندت الصين تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو التي ادعى فيها أن الصين لم تخبر العالم بحقيقة مرض فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19)، قائلة إن هذه التصريحات تكشف من جديد طبيعة بومبيو في الكذب.
وأوضح تشاو لي جيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، في مؤتمر صحفي إنه بالحديث عن المصداقية، فإن الولايات المتحدة -تحت شعار “أمريكا أولا”- تخلت بصورة متكررة عن التزاماتها وتعهداتها الدولية، وانسحبت بشكل متكرر من المعاهدات وخرجت من المنظمات الدولية وأصبحت أكبر مثير للمشكلات في السنوات الأخيرة. وأضاف: “بالحديث عن الحقائق، أريد أن أسأل عما إذا كانت الحكومة الأمريكية يمكنها إخبارنا بالحقيقة وتفسر للشعب الأمريكي وللمجتمع الدولي قضايا من بينها مختبر “فورت ديتريك” البيولوجي ومختبراتها البيولوجية في أنحاء العالم”. وهو يشير إلى رواية الصين عن منشأ الفيروس والتي تكررها وسائل الإعلام الصينية، ومفادها أن الحكومة الأمريكية أنشأت مختبر “فورت ديتريك” خلال فترة الحرب العالمية الثانية؛ حيث كان منشأة لإجراء الأبحاث السرية للحرب البيولوجية، وتضمن محتوى البحث في فورت ديتريك بكتيريا الجمرة الخبيثة، وهو عامل معدي قاتل، وقد استخدم في هجمات إرهابية.
وقد جاء ذلك في سياق نشاط إعلامي محموم بين الصين والولايات المتحدة، إذ تقوم وسائل الإعلام الأمريكية بين الحين والآخر بكتابة أخبار تنسبها لتقارير استخباراتية عن مسؤولية الصين ومختبر ووهان بتفشي الوباء العالمي.
وذكر تقرير صينى أبرزته شبكة تلفزيون الصين الدولية أن الحكومة الأمريكية سبق لها أن طلبت مليون قنبلة جمرة خبيثة من المختبر خلال فترة الحرب. وتابع التقرير -الذي لم تذكر القناة مصادره- قائلا: “اليوم، تضم قاعدة فورت ديتريك مرافق بحثية متطورة، بما فيها معهد البحوث الطبية للأمراض المعدية التابع للجيش الأمريكي المعروف أيضا باسم (USAMRIID)، يقود المعهد أبحاث الحكومة الأمريكية في أخطر مسببات الأمراض المعروفة للبشرية، وكان من بينها فيروس إيبولا”. وأفادت القناة الصينية بأن أبحاث فورت ديتريك توقفت في يوليو عام 2019 بعد أن أغلقت السلطات الصحية مختبراتها بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة، وأكدت المتحدثة باسم مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) لاحقا أنه تم إيقاف جميع الأبحاث حول مسببات الأمراض والسموم المختارة في المختبرات من المستويين الثالث والرابع.
وفي اتهام صريح للإدارة الأمريكية بالفشل في التعامل مع فيروس كرونا، لفت المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية إلى أنه “بالحديث عن المساءلة، تجاوز عدد الحالات المؤكد إصابتها بمرض فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19) بالولايات المتحدة 3 ملايين حالة، وتخطى عدد حالات الوفاة 130 ألف حالة وفاة، وتتحمل الحكومة الأمريكية المتحدة مسؤولية لا يمكن التنصل منها في هذا الصدد”.
وقال تشاو إنه “في ظل جميع هذه الظروف، لا يمكنني اكتشاف سبب مواصلة بومبيو الكلام دون خجل عن المصداقية والحقائق والمساءلة”، مضيفا أن الصين حثت الولايات المتحدة على الاستماع إلى الأصوات المعارضة بشدة لانسحابها المتكرر من المعاهدات والمنظمات.
وتابع قائلا إنه “عقب تفشي كوفيد-19، أخبرت الصين منظمة الصحة العالمية فورا. ويسرد الجدول الزمني الذي أعلنه الطرفان بوضوح الحقائق ذات الصلة، ويمكن التحقق منها من كليهما”، مشددا على أن تزييف الحقائق ونقل اللوم لا يمكنه إخفاء الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة الأمريكية في التعامل مع كورونا[15].
- إيران: عرض مساعدات غير بريئة
حاولت إدارة ترامب استغلال هذه الأزمة لتسجيل نقاط لصالحها، إذ قال وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، إن القادة الإيرانيين “كذبوا بشأن فيروس ووهان لمدة أسابيع، وحاولوا التنصل من مسؤوليتهم وعدم كفاءتهم”.
ولكن بومبيو ذهب أبعد من ذلك مع إيران، فقال دون مواربة إن “فيروس ووهان هو القاتل والنظام الإيراني شريكه”. ولكنه قال أيضا إن الولايات المتحدة مع ذلك “حاولت عرض المساعدة”(. [16]
وفي رده على عرض الولايات المتحدة مساعدة إيران في مواجهة الجائحة قال المرشد الإيراني إن الأمريكيين متهمون بصنع ونشر فيروس كورونا ولذلك لا يمكن الوثوق بهم وأوضح أن الأمريكيين قالوا عدة مرات أنهم مستعدون لتقديم المساعدات العلاجية والدوائية في حال طلبت إيران ذلك، قائلا: بداية أنتم تعانون من النقص وهذا ما يقوله المسؤولون الأمريكيون، ثانيًا أنتم متهمون بأنكم أنتجتم هذا الفيروس. وأضاف: أنا لا أعلم كم هو هذا الاتهام واقعي ولكن عندما يوجد هكذا اتهام فأي إنسان عاقل سيطلب منكم المساعدة؟ لا يمكن الوثوق بكم[17].
أما الرئيس روحاني فأكد خلال اجتماع الحكومة في مارس الماضي: “أمريكا مسؤولة عن جزء من البطالة وصعوبة الحياة وعدم الاستثمار في إيران، ومسؤولة عن نقص بعض الأدوية في إيران.. أمريكا تتحمل مسؤولية جرائمها في إيران وهي ترتكب أكبر الجرائم في المنطقة.. أمريكا تمنع عنا مياه النبع وتعرض علينا كأسا من الماء العكر.. لا نريد كأس الماء العكر الذي تعرضه أمريكا”. وأوضح الرئيس الإيراني بأن إرهاب أمريكا وسياستها الخاطئة باتا اليوم أكثر وضوحا للعالم. وأكد روحاني أن أميركا فرضت حظرا ظالما وإرهابيا على الشعب الإيراني، معتبرا ادعاء أميركا بأنها مستعدة لمساعدة إيران في مكافحة فيروس كورونا بأنه إحدى الأكاذيب الكبرى في التاريخ(. [18]
وعدم براءة عرض المساعدة يدل عليه أنه عندما تقدمت إيران في أوائل شهر مارس بطلب قرض من صندوق النقد الدولي للمساعدة في مواجهة كورونا اعترضت الولايات المتحدة على هذا الطلب بحجة عدم استيفاء إيران للمعايير الأساسية للحصول على هذا القرض[19].
- الحلفاء الأوروبيون: نيران صديقة
اتسم تعامل الولايات المتحدة مع حلفائها الأوربيين على أفضل التقديرات وأخفها بالخشونة المفرطة، فقد لام ترامب أوروبا على تساهلها مع الصين ومنع السفر من أوروبا للولايات المتحدة. ثم دخلت الولايات المتحدة مع أوروبا في حروب الكورونا على الكمامات والعقاقير واللقاحات.
لام ترامب الاتحاد الأوروبي بسبب الإصابات الكثيرة التي ظهرت في نيويورك، وكان مصدرها دول أوروبية، واعتبر أن “فشل الاتحاد الأوروبي في تقييد السفر من الصين والمناطق المتضررة من الفيروس كما فعلت الولايات المتحدة تسبب بظهور هذه الإصابات”.
وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطاب وجهه إلى الأمريكيين في 12 مارس 2020 تعليق جميع الرحلات من أوروبا إلى الولايات المتحدة لمدة ثلاثين يوما، وذلك لاحتواء انتشار وباء كورونا، واستثنى بريطانيا من هذا القرار.
وقد اتُهِمت الولايات المتحدة في شهر أبريل باعتراض مسار شحنة تحمل 200 ألف كمامة، كانت متجهة إلى ألمانيا، وتحويلها لاستخدامها الخاص، في خطوة أدينت بوصفها “قرصنة حديثة”، وقالت حكومة محليّة لولاية ألمانية إنّ شحنة كمامات مصنّعة في الولايات المتحدة، صُودرت في بانكوك، وأضافت إنّ شحنة كمامات الوقاية من طراز FFP2، كانت بالأساس لصالح شرطة برلين، لكنّها لم تصل إلى وجهتها المرجوّة.
وكان ترامب قد صرح في بداية أبريل إنّه سيلجأ إلى تفعيل “قانون الإنتاج الدفاعي” لعام 1950، ليحثّ الشركات الأمريكية على إنتاج المزيد من اللوازم الطبيّة لتلبية الطلب المحلّي، وأعلن ترامب في المؤتمر الصحفي اليومي لخليّة مكافحة فيروس كورونا في البيت الأبيض: “نحتاج إلى هذه البضائع على الفور للاستخدام المحلي. يجب أن نحصل عليها”.
وذكر رؤساء أقاليم فرنسية أن عملاء أمريكيين غير معروفي الهوية قاموا بشراء شحنة من الأقنعة الواقية طلبتها فرنسا من الصين مباشرة على مدرج مطارات صينية، ومنهم رئيس منطقة بروفانس-آلب-كوت دازور (جنوب) رونو موزولييه، والذي قال: “هناك بلد أجنبي دفع ثلاث مرات ثمن الشحنة على مدرج المطار”. ومنهم أيضا رئيسة منطقة إيل-دو-فرانس (باريس وضواحيها) فاليري بيكريس، والتي أكدت: “انتزع منا أمريكيون شحنة أوصينا عليها بالمزايدة على سعرها”[20].
وكشفت تقارير إعلامية ألمانية النقاب عن تنافس ألماني-أمريكي بشأن شركة ألمانية تطور لقاحًا ضد فيروس كورونا، إذ تحاول إدارة ترامب إغراء العاملين بالشركة بمبالغ مالية للانتقال إلى الولايات المتحدة للحصول على اللقاح بشكل حصري. وحاولت إدارة ترامب جذب العاملين في شركة CureVac التي تتخذ من مدينة توبنغن الألمانية مقرًا لها، إلى أراضيها من خلال مدفوعات مالية ضخمة وتأمين اللقاح للولايات المتحدة منفردة[21].
- منظمة الصحة العالمية: المزيد من الانسحاب من المنظمات الدولية
ما فعلته الولايات المتحدة مع منظمة الصحة العالمية يمثل نمطًا تكرر أكثر من مرة في تعامل إدارة ترامب مع مؤسسات واتفاقيات دولية تمثل جزءًا من النظام الدولى، وهي مؤسسات قادت الولايات المتحدة عملية إنشائها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تكرر هذا النمط في الانسحاب من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان 2018 والانسحاب من اليونسكو 2019، وهو العام الذي شهد أيضا الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ.
بدأ ترامب تعامله مع منظمة الصحة العالمية بوقف تمويل الولايات المتحدة الأمريكية لها في 14 إبريل من العام الجاري لحين تتم مراجعة طريقة تعامل المنظمة مع انتشار فيروس كورونا الجديد، وهو ما سيؤدي إلى حرمان المنظمة من ما بين 400 إلى 500 مليون دولار من الوصول إلى هذا الجهاز الدولي الحساس في ظرف لا يمكن أن يكون أسوأ باعتبار الحاجة إلى كل الدعم والتكاتف الدولي لمواجهة تفشي الفيروس.
الرئيس الأمريكي قال إن المراجعة تهدف إلى البحث في “سوء الإدارة الكبير لمنظمة الصحة العالمية وطريقة تعاملها مع فيروس كورونا والتغطية على انتشاره”، ملقيا الضوء على أن الصين تساهم في تمويل المنظمة “بنحو 40 مليون دولار فقط”.
وأكد ترامب في كلمته أن منظمة الصحة العالمية “لو أنها قامت بعملها وأرسلت خبراء إلى الصين لتقييم الأوضاع على الأرض بمهنية وأبرزت قلة الشفافية في الصين، لكان بالإمكان السيطرة على تفشي الوباء في معقله بأعداد وفيات أقل”[22].
وفي أواخر شهر مايو أعلن ترامب في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض عن إنهاء علاقات بلاده بشكل رسمي مع منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، واتهم ترامب المنظمة بالفشل في تطبيق إصلاحات في مواجهة شواغل ومخاوف الولايات المتحدة بشأن تعامل المنظمة مع جائحة كورونا، وبأنها تثق أكثر من اللازم في المعلومات الواردة من الصين. وأضاف ترامب: “نظرا لفشلها في إجراء الإصلاحات المطلوبة والتي تشتد الحاجة إليها، فإننا سننهي اليوم علاقتنا بمنظمة الصحة العالمية وسنوجه تلك الأموال إلى منظمات عالمية أخرى واحتياجات الصحة العامة العالمية الملحة والمستحقة”[23].
وبعد حوالي شهر أكد ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، أن الولايات المتحدة أبلغت المنظمة بانسحابها، اعتبارًا من 6 يوليو 2021. وبدوره كتب السيناتور روبرت مينينديز، الديمقراطي البارز في لجنة العلاقات الخارجية، على “تويتر”: “تلقى الكونجرس إشعارًا بأن الرئيس الأمريكي سحب الولايات المتحدة رسميًا من منظمة الصحة العالمية في خضم الوباء العالمي”، “إن ذلك يترك الأمريكيين مرضى وأمريكا وحدها”. وبموجب قرار صادر عن الكونغرس عام 1948، الذي شهد إنشاء منظمة الصحة العالمية، يمكن للولايات المتحدة أن تنسحب، لكن عليها أن تعطي إشعارًا لمدة عام وعليها دفع الرسوم المستحقة، على الرغم من أنه غير واضح ما هو موقف ترامب من ذلك. وشدد دوجاريك على وجوب استيفاء هذه الشروط[24]. وأفاد الموقع الإلكتروني لمنظمة الصحة العالمية بأن الولايات المتحدة مدينة للمنظمة في الوقت الحالي بأكثر من 200 مليون دولار من المساهمات المقدرة[25].
وأثارت هذه القرارات العديد من الانتقادات الداخلية والخارجية؛ حيث وصفت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، انسحاب ترامب الرسمي من المنظمة بأنه ”فعل من الحماقة الحقة لأن منظمة الصحة العالمية تقوم بتنسيق الحرب العالمية على مرض كوفيد-19“. وكتبت الزعيمة الديمقراطية على حسابها على تويتر: ”بينما تتعرض حياة الملايين للخطر، يشل الرئيس المجهود الدولي لهزيمة الفيروس”[26]. وغرّد جو بايدن، الذي سيتحدى دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل: “في اليوم الأول لي كرئيس، سأعود إلى منظمة الصحة العالمية وسأستعيد قيادتنا على المسرح العالمي”[27].
وانتقدت الصين انسحاب الولايات المتحدة، من منظمة الصحة العالمية في ظل استمرار جائحة كورونا، واعتبرته ضربة للمساعي الدولية لمكافحة الفيروس. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية تشاو لي جيان: “إن قرار انسحاب واشنطن من المنظمة حلقة جديدة من حلقات الانسحاب أحادي الجانب للولايات المتحدة من المنظمات الدولية، لافتًا إلى أنّ الدول المحتاجة للدعم الدولي ستكون في مقدمة الدول المتضررة من هذه الخطوة[28].
هذا الانسحاب مثَّل ساحة جدية لتبادل الاتهامات بين الولايات المتحدة والصين، فقد طالب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الصين بمصارحة العالم بحقيقة فيروس كورونا، منتقدا أداء منظمة الصحة العالمية في هذه الأزمة بأنها لم تطبق الإصلاحات اللازمة، ولم تقم بواجباتها حيال الأزمة كما ينبغي. وأكد وزير الخارجية الأمريكي أن الحزب الشيوعي الصيني أخفى حقيقة فيروس كورونا لمدة ستة أشهر، مشيرًا إلى أن واشنطن ستجري مباحثات مع الشركاء الأوروبيين للرد على تهديدات الحزب الشيوعي الصيني[29].
رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية على هذه التصريحات بأن أمريكا لا يحق لها الحديث عن تعاون بين الصين ومنظمة الصحة العالمية بعد الانسحاب رسميا من المنظمة، وأنه لم يعد لواشنطن الحق بإصدار تعليقات “غير مبررة” حول التعاون بين بكين والمنظمة، لافتًا إلى أن الصين والمنظمة بينهما تواصل وتعاون وثيقان منذ تفشي مرض فيروس كورونا الجديد، وقال: مساهمتنا في التعاون بشأن الصحة العامة العالمية تعد مساهمة دولة كبيرة ومسؤولة”. ثم اتهم الولايات المتحدة بأنها مصدر الوباء قائلا: “إذا كانت الولايات المتحدة تهتم حقا بالجهود العالمية ضد المرض، فإن أول شيء تحتاج إليه هو الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها الخاصة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية بطرق مثل دعوة خبراء المنظمة لتتبع منشأ الفيروس في الولايات المتحدة“[30].
خاتمة:
يوضح التقرير أن الولايات المتحدة مضطربة داخليًا وغائبة عالميًا فيما يتعلق بمواجهة فيروس كوفيد- 19. فعلى المستوى الداخلي قامت إدارة ترامب بتفكيك وحدة الاستجابة للوباء التي كانت أنشأتها إدارة أوباما، وتجاهلت تحذيرات المخابرات حول جائحة محتملة، وفضلت احتياجات الشركات كأولوية قبل الرفاهية العامة، وأجبرت البلاد على إعادة فتحها في وقت مبكر جدًا، وتنكرت للعلم والمتخصصين فسعت لتحجيم دور الخبراء أمثال الدكتور أنتوني فوتشي. وتبنت إدارة ترامب خطابًا داخليًا مضللا يسعى لتحجيم المعارضين وإقصاء الفئات الضعيفة ويزعم لنفسه صلاحيات ليست له.
وكانت نتيجة هذه السياسة وهذا الخطاب فشلا ذريعًا في مواجهة جائحة كوفيد-19، أدى إلى أن تحتل الولايات المتحدة المركز الأول في عدد الإصابات والوفيات على مستوى العالم، فالإصابات في الولايات المتحدة تمثل 26.5% من إجمالى الإصابات على مستوى العالم، ووفياتها نتيحة الإصابة بالفيروس تمثل 23.38% من إجمالى عدد الوفيات عالميًا حتى كتابة هذه السطور.
كما أن نهج إدارة ترامب في هذه الأزمة زاد من حدة الانقسام المجتمعي والاستقطاب السياسي في وقت الولايات المتحدة أحوج ما تكون للتعاون في مواجهة هذه الجائحة ذات الآثار الوبيلة على الصحة والاقتصاد والمجتمع.
وعلى المستوى الخارجي تفاقم تراجع الولايات المتحدة كقيادة عالمية، فتبادلت الاتهامات مع الصين عدوها الاستراتيجي في خطاب عنصري، وعرضت مساعدات غير بريئة على عدوتها إيران، وتتصارع مع حلفائها الأوروبيين على مستلزمات مواجهة الكورونا غير خجلى من خطاب أناني واضح.
وعلى عكس تفشي فيروس إيبولا في أفريقيا الذي بدأ في عام 2015، وكان دور الولايات المتحدة في تعبئة الموارد المفتاح في احتواء هذا الوباء الناشئ. الآن فيما يتعلق بـكوفيد-19، لم تظهر الولايات المتحدة كقيادة عالمية كبيرة. وبدلا من ذلك، تتضاعف حالات الإصابة في الولايات المتحدة كما بيَّن التقرير، وهناك مخاوف متزايدة من أن إدارة الوباء أبعد ما تكون عن الكفاءة والفعالية وأن المرض يفاقم من الانقسام والاستقطاب الداخلي الخطير القائم بالفعل كما أوضح التقرير. ويمكن قراءة الوضع كمؤشر آخر للمزيد من اتجاه قائم بالفعل؛ حيث تتراجع الولايات المتحدة من الساحة العالمية، ويتناقص تأثيرها ومكانتها.
وصفوة القول أن إدارة ترامب أعلت الجانب المادي على الإنساني والاقتصادي على الاجتماعي في تعاملها مع جائحة كورونا، وعلى عكس الشائع من أن اتباع المنطق المادي والاقتصادي هو الأقدر على تحقيق الكفاءة والفعالية في تعامل الدول والمجتمعات مع تحدياتها ومشاكلها فقد فشلت وخسرت إدارة ترامب على المستويين الداخلي والخارجي.
وفي تغريدة لستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد قد تلخص العلاقة بين الإخفاق والفشل الذي اتسم به تعامل إدارة ترامب مع الجائحة داخليا والتراجع المستمر على صعيد قيادتها للعالم يقول: “إن الدولة التي لا تستطيع إقناع مواطنيها بارتداء الأقنعة لوقف جائحة، ليس لديها ما تفعله للإطاحة بالحكومات الأجنبية ومحاولة إعادة تشكيل مجتمعات بأكملها وهي لا تكاد تفهمها”[31]. وهو يعني إذا كنت لا تستطيع السيطرة على وباء في بلدك، فلا تحاول إعادة هندسة بلد آخر.
*****
هوامش
[1]Coronavirus Preparedness and Response Supplemental Appropriations Act, congress, 03/06/2020, available at: https://bit.ly/31kQddz
[2] Families First Coronavirus Response Act, congress, 03/18/2020, available at: https://bit.ly/2DlL1hC
[3] Coronavirus Aid, Relief, and Economic Security Act , congress, available at: https://bit.ly/2PpVLOz
[4]Paycheck Protection Program and Health Care Enhancement Act, congress, 04/24/2020, available at: https://bit.ly/3hFlluZ
[5] من الإنكار إلى الانهيار.. كيف تعامل ترامب مع فيروس كورونا؟، الجزيرة نت، 12/4/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/BnPw0
[6] Thomas L. Friedman, Is Trump Trying to Spread Covid-19?, The New York Times, June 16, 2020, Available at: https://nyti.ms/2DGxTmT
[7] ترامب يهاجم الاقتصاديين: ليس لديهم “أي فكرة” عن إعادة فتح الاقتصاد، 2020/4/24، متاح عبر الربط التالي: https://bit.ly/3fw8IRx
[8] Ken Bredemeier, White House Distances Itself From Latest Attack on Fauci, VOA, July 15, 2020, Available at: https://bit.ly/2ELorzc
[9] Kristy Parker and Yascha Mounk, Authoritarian Populists Have Six Classic Moves. Trump’s Response to COVID-19 Uses Five of Them, The Atlantic, APRIL 2, 2020, available at: https://bit.ly/2DERNyB
[10] حاكم ولاية أمريكية يقاضي عمدة مدينة سعيا لعرقلة أمر ارتداء الكمامة الإلزامي، موقع مصراوي، 17 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2Po85Pj
[11] PoppyNoor, No masks allowed: stores turn customers away in US culture war, The Guardian, 22 May 2020, available at: https://bit.ly/2Dz3x5S
[12] The virus doesn’t care about excuses’: US faces terrifying autumn as Covid-19 surges, the guardian, Sat 18 Jul 2020, available at https://bit.ly/2Pri9qG
[13] Marc Thiessen, Maybe Trump shouldn’t save the Democrat-run cities besieged by violence, The Washington Post, July 17, 2020, available at: https://bit.ly/3kbjsrU
[14] ترامب يصف كورونا بإنفلونزا “كونغ فلو” خلال تجمع انتخابي، يورونيوز، 24/06/2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2PriklQ
[15] الصين تفند ادعاءات بومبيو بشأن “كوفيد-19″، أخبار العرب، 2020-07-10، متاح على الرابط: https://bit.ly/3ke8EJE
[16] جوناثان ماركوس، فيروس كورونا: هل يصلح الوباء بين الولايات المتحدة وإيران؟، بي بي سي العربية،19 مارس 2020، متاح على الرابط: https://bbc.in/2DkN4Cs
[17] قائد الثورة الإسلامية: أميركا هي أخبث عدو لإيران ومسؤولوها وقحون وظالمون وإرهابيون، وكالة مهر للأنباء، ٢٢/٠٣/٢٠٢٠، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2PtaxUI
[18] روحاني: مزاعم أمريكا بشان مساعدة ايران هي إحدى كبريات أكاذيب التاريخ، وكالة مهر للأنباء، ٢٣/٠٣/٢٠٢٠، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2Pntloa
[19] پاتريك كلاوسون، الاعتراض على قرض “صندوق النقد الدولي” لإيران: ليس بالأمر الشاذ وليس حاجزاً أمام تقديم المساعدة، معهد واشنطن، 14 أبريل 2020، متاح على الرابط: https://bit.ly/2XwDDqC
[20] حروب الكمامات العالمية: عندما أسقط الكورونا قناع العولمة، شبكة النبأ المعلوماتية، 6 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3ibQ1UY
[21] تقارير: تنافس ألماني – أمريكي خفي بشأن تطوير لقاح ضد كورونا، دوليشيه فيليه ، 15 مارس 2020، متاح على الرابط: https://bit.ly/2XuHkNg
[22] ماذا يعني إعلان ترامب وقف تمويل منظمة الصحة العالمية؟، سي إن إن العربية، 15 أبريل 2020،متاح عبر الرابط التالي: https://cnn.it/2PDPEGx
[23] ترامب يعلن إنهاء علاقة الولايات المتحدة بمنظمة الصحة العالمية، DW، 29 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2X6ds9V
[24] فيروس كورونا: ترامب يتخذ إجراءات لخروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، بي بي سي العربية، 8 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bbc.in/33sN4eo
[25] انسحاب أمريكا من منظمة الصحة العالمية يدخل حيز التنفيذ في يوليو 2021، جريدة الشروق، 8 يوليه 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/30sAfyN
[26] المرجع السابق.
[27] فيروس كورونا: ترامب يتخذ إجراءات لخروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، مرجع سابق.
[28] “ضربة لمكافحة كورونا”.. الصين تنتقد انسحاب أمريكا من «الصحة العالمية»، موقع مصر العربية، 08 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3gaczoh
[29] Secretary Michael R. Pompeo at a Press Availability, JULY 8, 2020, available at: https://bit.ly/2XrRnCL
[30] الصين تدحض التعليقات الأمريكية غير المبررة بشأن التعاون مع منظمة الصحة العالمية، أخبار العربية، 10 يوليو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2DDs0qy
[31] تغريدة لستفين والت حول تعامل ترامب مع جائحة كورونا، موقع توتير، بتاريخ25 يونيو 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3fwe13g
- نشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن عشر – يوليو 2020