الأمن الإنساني[1]

الأمن الإنساني في القرآن واللغة العربية

خُلق الإ نسان هلوعًا، ولا ضير في نسبة هلع الإنسان في القرآن إلى الخِلقة، فالكلام مسوق للذمّ، و ما يلحقه من الذم إنما هو من قِبل الإنسان وسوء تدبيره لا من قِبله تعالى. فهذه كسائر نعمه تعالى على الإنسان التي يصيرها الإنسان  نقمًا بسوء اختياره، وقد قال تعالى:﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: 7). وليس الهلع وشدة الحرص المجبول عليه الإنسان -وهو من فروع حب الذات- من الرذائل المذمومة في حد نفسه، وإنما يكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها فاستعملها فيما لا ينبغي، و بغير حق، كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال والوسطية وإذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة. ومن هلع الإنسان أنه يخاف على نفسه وطعامه وماله وحاضره ومستقبله. ولذا بحث الإنسان عن “الأمن” ليحققه لنفسه ثم أهله وعشيرته وقبيلته وقومه وأمته. ثم جرى الحديث عن “الأمن الجماعي” والتعاوني والمشترك، وأخيرًا “الأمن الإنساني”.

مدخل اللغة المتعلق بالجذر “أمن” مسكون بمفهوم الأمن الشامل والمتكامل. فالأمن عدم الخيانة، نقيض الخوف، إيمانٌ وتصديق، والأمن حفظ، والأمن -في اشتقاقاته- يحرك أطراف عملية متكاملة، ومنظومة متفاعلة: المؤمن، الأمن، حالة الأمن، أداة الأمن، المأمن. فالأمن -بهذا الاعتبار- كلمة دالة على اعتباره حقيقة وضرورة نفسية وجماعية تتعلق بالفرد والجماعة. ويرى الجرجاني أن الأمن  “هو عدم توقع المكروه في الزمن الآتي”؛ ليشير إلى حال الطمأنينة وحال الاستدامة وحال الأمن في المآل والاستقبال. وبهذا المعنى، فإن الأمن لا يرتبط فحسب بحالة ماضية أو حالة واقعة، بل هو حالة مستدامة يأمن فيها الإنسان واقعًا وحالًا واستقبالًا.وربما يمكننا أن نفهم هذا القول في ضوء الربط بين هذه المعاني وما قدمه الماوردي من منظومة يقع في نهايتها “الأمن العام والأمل الفسيح”. وهذا التعريف للجرجاني إنما ينوه إلى الأمن بوصفه حالة واقعة، والأمل الفسيح بوصفه حالة مستقبلة، يأمن فيها الإنسان بحيث لا يتوقع المكروه في الزمن الآتي. هذه المعانى جميعًا إنما تشكل رؤية العالم للإنسان ومنظومة القيم المرتبطة به.

يتكون “الأمن” من منظومة الأفعال والحالات (الطمأنينة، السكن، القرار والاستقرار، الأمانة، الحفظ، الأمان، الدين والخلق، القوة، الحفاظ على حقوق الذات والغير، السلم،…). وتعبر إضافة صفة “الإنساني” للأمن عن امتداد مفهوم الأمن، وارتباطه بالإنسان -النوع: بني آدم- ليحرك عناصر تكافل الإنسانية، وحالة الأمن الإنسانية القاصدة لتكامل المعمورة والإنسانية بأسرها (الإنسان-الفرد، الإنسان-الإنسانية)، مع إدخال حقائق الجماعة والمجتمع، والدولة والأمة، وتنوع الحضارات والثقافات. كما أن إضافة “الإنسان” تجعل من هذه الصفة سندًا لرؤية الأمن من منظور شامل ومتكامل، كما أنها ترتبط بالقدرة على تحصين هذا المفهوم من حيث هدفه وغايته المرتبطة بوجود الإنسان كيانًا ونظامًا وعمرانًا، فيحصن هذا المفهوم من محاولات تفريغه من مضمونه أو تزييفه أو الانحراف به.

واقع المفهوم وحالته:

وكثيرة هي محاولات التفريغ والتزييف، وهى تنبع من محاولة اختطاف المفهوم من المنبع، ثم تتواصل عمليات الانحراف وضعًا وتفسيرًا وتنفيذًا، بالتركيز على بُعدٍ من أبعاده كما فعلت دول كاليابان التي ركزت على البعد التنموي للمفهوم، فخصّت الدول الآسيوية المحيطة بها بأكثر من ثلث مساعداتها في الصحة والتعليم؛ باعتبارها مجالًا حيويًّا لأمنها القومي، وكندا التي ربطت الأمن الإنساني بالتدخل الإنساني؛ معتبرة الأمن الإنساني ضرورة إنسانية تقع على كاهل الدول الكبرى لحماية كافة الأفراد في العالم، والأهم في نظرها هو التدخل لحماية الأفراد في حالة انهيار الدولة. أما الولايات المتحدة فقد تجاوزت ذلك بكثير فتفننت في تصنيف دول العالم ما بين “دول مارقة” وأخرى “فاشلة” وثالثة “شبه فاشلة”، ولها في التعامل مع هذه الدول طرق مختلفة من “الاحتلال” و”تغيير الأنظمة” و”تغيير مناهج التعليم”، التي اعتبرته هي في تقرير عن “حالة التعليم في الولايات المتحدة” في مطلع الثمانينيات، وهو تقرير “أمة في خطر”، بمثابة “إعلان حرب” إن قامت به إحدى الدول فيما يتعلق بمناهج تعليم دولة أخرى.

اشتُهر مفهوم “الأمن الإنساني” مع صدور تقرير التنمية البشرية لعام 1994، وارتبط بالعولمة. وقد برز المفهوم في ظل بيئة دولية وأمنية غير ملائمة؛ وذلك في ظل هيمنة قطب دولي واحد وسيطرة مفاهيم مثل: “التدخل الدولي الإنساني”؛ بغية تحقيق أهداف سياسية وأمنية بعيدًا عن الاعتبارات الإنسانية، والحرب الاستباقية، والهيمنة على الدول الأخرى، والتهميش الواضح لدور الأمم المتحدة، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان تحت ادعاءات إنسانية؛ بحيث إن المضمون الفعلي للمفهوم (وهو تحقيق أمن الأفراد) لا يتناسب بشكل كبير مع طبيعة البيئة الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وكذلك منظومة المفاهيم غير المعلنة ومن بينها مفاهيم الهيمنة والتدخل في الشئون الداخلية للدول. وهو ما يطرح تساؤلًا: إلى أي مدى يعكس المفهوم رغبة فعلية في تحقيق “الأمن الإنساني” عالميًّا بعيدًا عن أي اعتبارات سياسية أخرى؟

في الرؤى التنظيرية المختلفة:

برز المفهوم في الآونة الأخيرة بوصفه مفهومًا مستحدثًا إلا أن تضمينات مفهوم الأمن بمعناه الشامل كان أمرًا تبنته كثيرٌ من الاتجاهات التنظيرية بصدد مفهوم الأمن، ومنها اتجاه يتعلق بالرؤية الإسلامية، ظل يؤكد ومنذ فترة مبكرة على شمول مفهوم الأمن وامتداده، كما أكد على ضرورة أن يكون للأمن تضمينات حضارية وثقافية، وأن يرتبط أمن الداخل بالأمن العالمي، وأكد على معنى الإنسانية في مفهوم الأمن باعتبار الإنسان مقصدًا ومجالًا لتحقيق معنى الأمن التأسيسي في كل كمالاته وعناصره.

ويركز مفهوم “الأمن الإنساني” على الإنسان الفرد وليس الدولة كوحدة التحليل الأساسية؛ ولا ينبغي أن يكون معنى ذلك تهوينًا من مفهوم “الأمن القومي”، فليس الحفاظ على أمن الفرد الإنسان المواطن داخل الدولة بنقيض لمسألة الأمن القومي، بل هو من المقدمات لجعل الأمن القومي للدولة أكثر رسوخًا في نفوس المواطنين وعلاقاتهم بما يضمن فاعلية الأمن القومي.

حدد تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أربع خصائص أساسية للأمن الإنساني؛ هي: (1) الأمن الإنساني شامل عالمي؛ فهو حق للإنسان في كل مكان، (2) ومكونات الأمن الإنساني متكاملة يتوقف كل منها على الآخر، (3) هو ممكن من خلال الوقاية المبكرة، وهي أسهل من التدخل اللاحق، (4) ومحور الأمن الإنساني هو الإنسان ويتعلق بـ”نوعية حياة الناس” في كل مكان.

وقد حدد التقرير مكونات الأمن الإنساني في شقين: الأول هو الحرية من الحاجة (أو العِوَز)، والثاني هو الحرية من الخوف. (مما يبدو متفقًا مع مفهوم الأمن الاجتماعي القرآني؛ قال تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {106/3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ (قريش: 3-4).

ومن الأسس أو الدعائم التي يقوم عليها المفهوم التي تناقشها الأدبيات المختلفة أن الأداة الفاعلة في تحقيق “الأمن الإنساني” هي ما يطلق عليها “القوة اللينة” بجانب التنمية البشرية وتحقيق الديمقراطية. ومن ثم، يمكن تحقيق الأمن الإنساني من خلال التغيير الهيكلي بدلًا من الأداة العسكرية، وأنه إذا ما تم استخدام القوة لتحقيق الأمن الإنساني في مناطق النزاع أو في الأنظمة الاستبدادية الشرسة فهذا لا بد أن يتم بطريقة قانونية، وجماعية، وتحت مظلة المنظمات الدولية.

يرى البعض أن مفهوم “الأمن الإنساني” نوع من التمويه على مفهوم “الأمن القومي” في عصر استباحة الدول وتآكل سيادتها من جانب القوى الكبرى وتدخلها في شأن هذه الدول، وهو كذلك تمويه على “الأمن العولمي” الذي يحاول غض الطرف عن عناصر التشوهات الكامنة والبنيوية داخل النظام الدولي، والتي تسفر عن تشكيل بنية مواتية لافتقاد عناصر الأمن الإنساني ومعظم فعالياته. وفي حقيقة الأمر فإننا ننظر لهذا المفهوم الذي يتعلق بالأمن الإنساني باعتباره بحثًا عن جانب قد افتُقد ضمن مضامين الأمن الشامل و”الأمن الحضاري” في محاولة لأنسنة مفهوم الأمن في امتداداته، دون أن يعني ذلك أي إغفال لتضمين هذا المفهوم للأمن الإنساني عناصر تتعلق بالأمن القومي، وضرورة التنبيه على التشوهات الكامنة والظاهرة والهيكلية في النظام الدولي التي لا تشكل بيئة قابلة للتمكين لمفهوم الأمن الإنساني الشامل الحافظ لأصول الإنسان، وكيانات الدول وحقائق الأمن العالمي في جوهره الحقيقي.

فلا يمكن النظر إلى مفهوم الأمن الإنساني على أنه جاء ليحل محل مفهوم الأمن القومي، فما زال الأمن القومي هو الإطار الحاكم للعلاقات الأمنية الدولية، إلا أنه ليس مفهومًا تقليديًّا أو كلاسيكيًّا يتعلق بالعسكري، ولكنه أبعد من ذلك يتعلق بكيان الوطن والمواطن على حد سواء؛ ومن ثم فإن البعد الإنساني الكامن في الأمن القومي، لا يستبعده ولكن يستوعبه. هكذا أوضح الدكتور حامد ربيع في حديثه عن الأمن القومي حيث يعتبر أن صياغة مفاهيم الأمن القومي يجب أن تستجيب لكل هذه العناصر من التصور والإدراك الحركي.. إنها إطار كامل للتعامل وليست مجرد مثالية لذلك الذي يجب أن يكون. إن تقنين مفهوم الأمن القومي هو -في جوهره- تفاعل بين إدراك سياسي للنخبة القيادية وتحليل استراتيجي لتحديد مواقع الضعف في الإقليم القومي. إذا كان الأمن القومي يرتبط بالإقليم القومي فإنه ليس للدفاع عن الإقليم في ذاته إنما للدفاع عن الكيان القومي أي الشعب أو الأمة التي ترتبط بذلك الإقليم. فالأمن هو حالة نفسية ترتبط بمعنويات المواطن أو الجماعة وليس الإقليم في ذاته.

ومن هنا فإن الفهم المتعلق بضرورات الأمن القومي يتأتى من قيام الدولة بوظيفتها الأساسية والجوهرية وهو ما يستقر به وجودها وقيامها بوظائفها، حتى وإن غلت في الاستبداد وطغت وجاوزت الحدود، هذه الوظيفة الأساسية هي حفظ أمن الجماعة من المخاطر التي تواجه الجماعة وتواجه الدولة ذاتها من الخارج؛ أي في مواجهة العدوان الخارجي، وهي أيضا تتمثل في صيانة قوى التماسك في الجماعة السياسية، وضمان ألا تختل صيغة التوازن الاجتماعي والسياسي والثقافي التي تحفظ للجماعة السياسية وحدتها وترابطها.

الأمن الإنساني في الرؤية الإسلامية الوسطية:

ربما تهدف الرؤية الإسلامية الوسطية للأمن الإنسانى، لتحرير الإنسان من الاحتكار والاستعلاء،  ولتحقيقه واقعًا يعيشه الإنسان والإنسانية بجملة من المداخل من مثل: المدخل السُّننى، والمدخل المقاصدي  والمدخل السُّفنى.

فالأمن الإنساني فعل حضاري وكلي وشامل ومتكامل، يرتبط بقوانين وسنن تتمثل في آليات معرفته والوعي به في جوهره ومفاصله (الأمن المؤسسي، الأمن التنموي، الأمن الثقافي والمعرفي، الأمن السياسي، أمن البيئة أو الوسط…الخ)، وكذلك التعرف على آليات ممارسته والقيام عليه، وحقائق الأمن الإنساني، لابد أن تحوطها آليات الحماية إذا انتهكت أو زيفت أو انحرفت: عمليات بعضها من بعض ترتبط بسنن وقوانين حامية تحصن معاني “الإنساني” تطبيقًا وتفعيلًا، دفاعًا وحمايةً.

إن النظر السنني لمفهوم الأمن الإنساني والعمليات والآليات والفعاليات المرتبطة به تتحرك صوب كل فعاليات الإنسان: من الإنسان الفرد وانتهاء بالإنسان الإنسانية، ومرورًا بجملة العلاقات الإنسانية التي لا يمكن أن تكون عمرانية أو تقدم فعاليات عطائها المتواصل والمؤثر إلا بالنظر للأمن الإنساني بوصفه حالة ابتدائية تمثل وسطًا للفعل وشرطًا من شروط فعاليته. والنظر السنني المتعلق بحالة الأمن الإنساني وعملياته مرهون بالتفهم والوعي الكامل والسعي العامل وفق أصول سنن التغيير: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11).

ويعتبر المدخل المقاصدي واحدًا من أهم المداخل التي تمكننا من صياغة منظور يُستند إليه الأمن الإنساني، وضمن العشرية المقاصدية (المقدمات والمقومات، المجالات، الأولويات، الحفظ والعمليات، الموازين والموازنات، الواقع والواقعات، الجزئيات والمناطات، المستقبل والآثار والمآلات، الوسائل والآليات، القيم السارية والوسط والبيئة الحاضنة)، هذه العناصر العشر إنما تؤكد على صياغة مفهوم الأمن الإنساني ضمن المجالات الكلية التي يفعل فيها، والتي تتحدد بالمجال الديني، ومجال النفس أو الفرد الإنساني، ومجال النسل أو التنمية الإنسانية والبشرية، ومجال العقل وأطر بناء العقلية العلمية والمعرفية الواعية البصيرة، ومجال المال الذي يشكل أصلًا مكينًا للبنية التحتية لأهم المجالات التي ترتبط بالأمن الإنساني.

هذا النموذج في الأمن الإنساني يؤصل معنى الشروط التي تحقق ديمومة الحفاظ على هذا الأمن وعناصره الأساسية (التعليم، الصحة، البيئة، الحاجات المادية، التنمية، وحقوق الإنسان،…الخ). ومن ثم، فإن من أهم شروط تحقيق هذا الأمن الإنساني والحفاظ على مؤشراته وعناصره وموارده وعوائده، إنما ترتبط بعناصر مثل الحكم الجيد الرشيد، وحقيقة المسئولية وما يرتبط بها من مساءلة ومحاسبة وقواعد الشفافية، التي تحرك كل عناصر الصلاحية والكفاءة في إدارة عمليات الأمن الإنساني في حالة تواجه كل حالات الفساد الناقضة لمفهوم الأمن الإنساني والتأثير على عوائده وعملية توزيعها. ويرتبط بذلك أيضًا ذلك الحفظ الذي يتعلق بحفظ الأبنية والمؤسسات التي ترتبط بالأمن الإنساني، والتي تعد من أهم شروط إقامة عمران هذا الأمن الإنساني ضمن مؤسسات للمحاسبة والرقابة والمساءلة ومحاربة الفساد وشبكيته والقدرة على بناء كل ما يمكِّن لحقوق الإنسان وسيادة القانون وفعاليات لصياغة العلاقة السياسية على نحو سويّ وفعّال.

ومن ضمن عناصر الرؤية الإسلامية “لمفهوم الأمن” موصولًا بصفة “الإنساني” المحددة لمناطق تفعيله وفاعليته تأتى “المؤسسات”؛ أي الأبنية التي تحرك الأمن بكمالاته، والإنساني بكل فعالياته ضافية القيمة. من جملة هذه المؤسسات التي يمكن أن تؤسس لمفهوم “الأمن الإنساني” وهي: مؤسسة الزكاة، ومؤسسة الحسبة، و مؤسسة الوقف، وهي مؤسسات يمكن اعتبارها “أمنية” اجتماعية وإنسانية؛ أي لاستهداف جوهر مقاصد الأمن الإنساني في إطار التجاوب بين هذا المدخل المؤسسي والمدخل المقاصدي.

منظومة المؤسسات تلك يجب ألا تتوفر كأشكال أو أبنية مصمتة ولكنها تمثل قيما يمكن تحويلها إلى وظائف وأدوار فعالة تحقق المقصود والغاية منها ضمن أداء مؤسسي متكامل وفعال ويرتبط بهذا منظومة حفظ الأداء التي تشير إلى عناصر الكفاءة والأهلية في إسناد الأدوار وتقسيم العمل والقيام بالوظائف والقدرة على تشكيل البيئة والوسط المناسبين لتحقيق فاعلية هذه الأبنية والسياسات والعلاقات الحافزة لكل ما يتعلق بالتمكين للأمن الإنساني، ويأتي في نهاية هذه المنظومة ما يرتبط بحفظ النماء والارتقاء الذي يجعل من منظور الأمن الإنساني منظورا منفتحا يجد من داخله عناصر تجدده الذاتي ما تجددت الحاجات الإنسانية وتواترت المتغيرات العالمية،ومن ثم فإن الأمن الإنساني يحمل في مكنوناته قابليات النماء والارتقاء والاحسان ليعبر بذلك عن عطاءات لا نهائية في الحياة الإنسانية وتحقيق ما يمكن تسميته بنوعية الحياة والحياة الطيبة.

إن هذه العناصر التي تحفظ الكيان والبنيان تؤشر -ومن كل طريق- إلى قصور السياسات في كثير من الدول على المستوى الداخلي وقصور الاستراتيجيات على المستوى الدولي للتعامل بناءً على هذه الحقيقة، في ظل عالم افترض الناس أنه صار قرية كونية. الأمر لا يتعلق بمثل هذه الشعارات أكثر مما يمكّن لهذا المفهوم على الأرض من سياسات وعلاقات، وهنا لابد وأن نحدد كيف ندرج الجزئيات التي تتعلق بالعمليات التي ترتبط بالأمن الإنساني في إطار منظومة تمكّن له وتؤصّل معنى مناطاته، وتندرج به في استراتيجيات عملية، وتمكّن له من خلال مراحل وآليات وأدوات. كما أن “الأمن الإنساني” لا يمكن صياغته وبحق إلا من منظور يؤكد على قواعد الحق وقواعد المساواة والحرية والاختيار ضمن أصول قاعدة ذهبية مفادها أنه (لا ضرر ولا ضرار).

مفهوم الأمن الإنساني يبدأ بالعالَم وينتهي إليه، ويمر بالدولة والنظام والسلطان والأعوان والمال والعدل،  ويظل “الإطعام من جوع” و”الأمن من خوف” ساقيْن للأمن في تضميناته الإنسانية. والإطعام -في اللغة المعاصرة- يمثل الموارد الاقتصادية التي تحقق الشبع للناس في ظل أي مجمع. والأمن يمثل وجود النظام العادل الذي يحفظ هذه الموارد (استثمارًا وتراكمًا) ويوزعها على الناس بالعدل. وهو ما يُعدّ من وظائف الدولة في إطار وظيفتها الاستخلافية، التي ملاكها وظيفة العدل ووظيفة العمران، بالإضافة إلى جملة وظائف فرعية تتكامل جميعًا لتحقيق معاني الأمن الإنساني (الوظيفة الإنمائية، الوظيفة التوزيعية، الوظيفة الأمنية، الوظيفة الجزائية). وهنا يأتي ما ذهب له الكواكبي من أن السياسة هي (إدارة الشئون المشتركة بمقتضى الحكمة). ومن هنا نتصور أن المعنى الذي يتعلق بالحكم الرشيد وتسييره بمقتضى العدل والإنصاف هو الذي يؤمّن معنى الأمن الإنساني؛ فيكون الحكم الرشيد واحدًا من مؤشراته وأداةً من أدواته بوصفه أحد أسس العمران.

ثم  تأتي مساهمة الماوردي حينما يتحدث عن صلاح الدنيا وصلاح الإنسان بوصفه جوهرًا لتأسيس رؤية شاملة للأمن الإنساني، والتي تشكل خيارًا بين الصلاح والفساد، وبين الإصلاح والإفساد. فالصلاح إقرار لأمن الدنيا وأمن الإنسان، والفساد فقدان لأمن العمران وأمن الإنسان. وعلاقة الدين بالظاهرة الإنمائية أولى هذه القواعد التي تحرّك عناصر الالتزام والفاعلية في إطار عقدي يتحرك فيه الإنسان صوب مصلحته وإصلاحه. يقول الماوردي: “إن الدنيا إنما تنتظم أحوالها بستة أشياء: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح”. ومن بين عناصرها: (وأمن عام)، وهو من أهم شروط الاستقرار التي توفر قاعدة ووسطًا للعملية العمرانية. فالفوضى ضد العمران، والتهارج ضد الاجتماع، والأمن قرين العمران: معادلات مهمة تؤسس أصول الأمن المترتب على العدل الشامل. فصلاح الدنيا موصول بصلاح الإنسان وعمرانه وما يتطلبه ذلك من مقتضيات وعناصر، ووسط التنمية البشرية وعمرانها من أصول رؤية الماوردي.

مفهوم الأمن الشامل والحضاري والعمراني هو الذي يجعل مفهوم الأمن إنسانيًّا لا يستثني إنسانًا، ولا ينفي حضارة، ولا يُقصي ثقافة. وإذا كانت الحضارة هي فن عمارة  الأسئلة والأجوبة، فمن المشروع إذن أن نتساءل عن الأمن الإنساني ونحن تملأنا الهواجس: أمنُ مَن؟ ومتى وكيف ولماذا؟ وبأي ثمن؟

إن الحقيقة الإنسانية تعني أننا نعيش في عالم واحد ضمن سفينة الأرض، ولكنه لا يعني: “الغرب وبقية العالم THE WEST AND THR REST”،ومن ثم فإن النهوض بهذا العالم وسدّ منافذ الظلم فيه هي أولى متطلبات الأمن الإنساني الحقيقي. الأمن الإنساني يجب ألا يكون انتقائيًّا أو لتغليب مصلحة حضارة بعينها على مصالح حضارة أخرى، أو تعميم لرؤية حضارية شكلت عناصرُ “العولمة المفترسة” غطاءً لها؛ وهو أمر قد يحيلنا إلى “أنسنة العولمة” وتحقيق معنى إنسانيتها في التعامل والتفاعل الكوني وفي العلاقات الحياتية العمرانية.

خطاب الوسطية يحرك كل فاعليات المدخل السنني والمدخل المقاصدي والمدخل المؤسسي والمدخل   السُّفني؛ ليقدم خطابًا عمرانيًّا يتعلق بسفينة الأرض والحفاظ عليها في ضوء أفق مستقبل الإنسانية المشترك وخطاب “المعروف الحضاري” كما يقول مصطفى صادق الرافعي: “في الأرض كفاية كل ما عليها ومن عليها، ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس”.

*****

هوامش

[1] ملخص من:  أ. د. سيف الدين عبد الفتاح، الأمن الإنساني:رؤية إسلامية بين تكافل المداخل والبحث المقارن، ورقة خلفية ضمن أعمال تقرير التنمية الإنسانية الرابع.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثاني – يونيو 2016

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى