الأمة والطائفية من منظور حضاري إسلامي

الدعوي والسياسي في العلاقة مع إيران والشيعة

من الملاحظ الذي ينبغي التنبه له، أن فئة من الدعاة المسلمين السُّنة لا يثيرون قضية الخلاف السني – الشيعي إلا كلما كانت هناك حرب مع الكيان الصهيوني أو أمريكا وتكون إيران أو بعض حلفائها -كحزب الله أو الحوثيين- طرفا فيها، فيخرج هؤلاء الدعاة يوجهون الشعوب والأفراد والحركات والحكومات لعدم الانخداع بهؤلاء الشيعة أو التعاون معهم، ويحذرونهم من بدع الشيعة، ومؤامراتهم، وغالبا ما لا يفعلون الشيء نفسه بالنسبة للكيان وأمريكا والغرب، فلا يخصونهم بهجوم خاص في هذه الأوقات. واضح أن بعض هؤلاء وراءهم –بوعي منهم أو بغير وعي- لاعبو سياسة في بعض الدول يوظفون خطابهم الدعوي لأغراض سياسية غير معلنة لهؤلاء الدعاة، لكنها تتسق مع صراعهم السياسي مع إيران وحلفائها.

حدث هذا المشهد الدعوي أثناء حرب يونيو-يوليو 2006 بين حزب الله والكيان الصهيوني من إثارة الخلاف السني-الشيعي وتأجيجه وإدارة حرب إعلامية ودعائية ضد إيران وحزب الله أكثر منها ضد الكيان الصهيوني، مدة الحرب (33 يوما)، قبل أن تتراجع ثم تخمد هذه الهائجة -أو الفاشية كما أسماها المستشار طارق البشري من قبل- بعد الحرب مباشرة، وكان المشهد واضحا ومكشوفا، ونبه إليه نابهون من مفكري الأمة[1]. ومن العجب أن كثيرا من هؤلاء سكتوا عن الدور الإيراني في سوريا بعدما استتب الأمر للنظام السوري (نظام بشار الأسد)؛ وما هذا إلا لأن حكومات كثير منهم -أو التي يوالونها- صارت متفاهمة ومتعاونة مع هذا النظام بعد انتصاره المؤقت على معارضيه ومحاربيه.

وبالحديث عن الدعاة حسني النية، الراغبين في التحذير من الشيعة وبدعهم الخطيرة، ومن التشيع، ومن التشييع -التبشير الشيعي وتصدير الثورة الإيرانية وشراء الواء للنظام الإيراني- فإننا لا زلنا نلخبط -ولا أقول فقط نخلط- بين الدعوي والسياسي، وعمل الدعاة وعمل الساسة، وأكثر الشباب المتدين المرتبط بدعاة من هذا اللون الملخبط ارتباطا حياتيا لا يتخيلون السياسي أصلا ولا يعرفون مقاصده ولا متطلباته ولا أدواته ويرونه شأنا دعويا محضا، وكثير من السياسة والمشتغلين بالسياسة لا يتفهمون الدعوة ولا أهميتها ولا مستلزماتها، ولا يستوعب الأمرين إلا ساسة متدينون، أو مثقفون جامعون بين الثقافة الدينية والسياسية، وقليل ما هم.

وفي هذا الصدد يمكن أن نورد عددا من الحقائق الواقعية والمفاهيم النظرية التي يمكن أن تخفف أو تفكك بعض هذه اللخبطة الممتدة:

1. إيران شيعية الحكم، ومعظم شعبها ينتمي إلى المذهب الشيعي عقيدة والاثنى عشري الجعفري فقها، وقد عملت إيران على تصدير المذهب الشيعي بأشكال مختلفة منذ نجحت ثورتها 1979 بقيادة الخوميني، وتقدم هذا وتأخر بحسب أحوالها الداخلية والخارجية.

2. من هذه الاستراتيجية شكلت إيران بذور محور استراتيجي، تطورت وظهرت تجلياته بقوة عقب الاحتلال الأمريكي للعراق منذ أبريل 2003، وأصبحت الجماعات العربية التابعة سياسيا واستراتيجيا لإيران مسلحة وأقوى سياسيا في بلدانها، خاصة بعد الثورات العربية 2011: في لبنان (حزب الله)، في العراق (عدد كبير من الجماعات والعصابات المسلحة، فضلا عن نظام الحكم وعدد من أجهزة الدولة العراقية الأساسية)، وفي سوريا: نظام الحكم السوري نفسه برئاسته وجيشه ونخبته العلوية خاصة منذ اندلاع الثورة السورية 2011، وفي اليمن (الحوثيين)، وفي البحرين (جمعية الوفاق الوطني، وجمعية العمل الإسلامي-أمل، وسرايا الأشتر وسرايا المختار)، غير قواها التابعة في أفغانستان وباكستان ودول وسط آسيا.

3. وإيران أيضا خصم سياسي لأمريكا وللكيان الصهيوني، ومن وراءهما خاصة في أوربا. وقد بدأت هذه الخصومة منذ نجحت الثورة الإيرانية 1979، وأعلنها الطرفان؛ إيران بقيادة الخوميني أعلنت لعشر سنين أن أمريكا هي الشيطان الأكبر والكيان الصهيوني هو الشيطان الأصغر، والغرب والكيان يعلنان دائما أن إيران خصم وخطر على الأمن والسلام وينسبان إليها التطرف والإرهاب، وكانت إيران واحدة من ثلاث دول جمعتها الولايات المتحدة ضمن ما أسمته “محور الشر” بعد ضربة سبتمبر 2001. ومع جاء العدوان الأمريكي على أفغانستان 2002 والعراق 2003؛ ليجد تعاونا أو تهاونا إيرانيا؛ لأن إيران ستتخلص من خضمين منافسين إسلاميا بقوة: طالبان وصدام حسين. وبالفعل كانت السنوات الثماني من 2003-2011 هي سنوات نضوج واستقواء المحور الاستراتيجي الإيراني في المنطقة العربية على وجه الخصوص، بالخريطة المشار إليها أعلاه.

4. من ناحيتهم يقول الدعويون إن إيران شيعية، عدوة للسنة؛ ومن ثم عدوة للإسلام نفسه (لأنهم يشتمون الصحابة ويفترون على الله ورسوله افتراءات عديدة)؛ وينطبق ذلك على كل شيعي مثل حزب الله وشيعة العراق وربما الحوثيين شيعة اليمن (رغم أنهم زيدية)؛ ومن ثم يجب اتخاذهم عدوا من قبل أهل السنة، مهما حاربوا الكيان الصهيوني أو عادوا أمريكا، وأكثر هذا الفريق الدعوي يقول إنه لا فرق بين الشيعة وإسرائيل وأمريكا (أو اليهود والنصارى بالتعبير الديني)، بل إن الشيعة شر منهم عند البعض. ويرى أكثر الدعويين أن الصراع الإيراني مع أمريكا وإسرائيل إنما هو تمثيلية؛ سواء اتفق عليها أو تمثيلية من جانب واحد، ويؤيدون ذلك بتوقف السلوك الإيراني والشيعي عند حدود الخطاب، والتناوشات الشكلية غير المؤثرة.

5. لكن الساسة العرب -الذين أكثرهم لا يبالون بسنة ولا شيعة- يرون إيران دولة قومية ذات مصالح سياسية واقتصادية وذات أهداف قومية، وأنها تسعى إلى إحراز مكانة استراتيجية في المنطقة العربية، وتستغل المذهب الشيعي والطائفية في التغلغل في العراق وسوريا ولبنان واليمن وشرق الخليج، فضلا عن القوقاز ووسط آسيا، ونسبيا في أفريقيا وغيرها. وهي فعلا خصم للكيان الصهيوني، لكن ضمن حدود عملية معينة، لكن الأهم أنها منافس إقليمي يسعى للهيمنة على المنطقة والتغلغل في دورها، وأنها تستغل القضية الفلسطينية غطاء لأطماعها ومصالحها القومية الذاتية. وصراعها مع الولايات المتحدة هو صراع أيديولوجي استراتيجي أيضا، لكنه يتضمن العديد من التوافقات والتسوية فيما وراء الكواليس التي تعرفها أجهزة الدول جيدا.

6. من المنظور الحضاري الأكثر جمعا بين تلك الثنائيات في رؤية إسلامية منظومة، فإن إيران فعلا دولة قومية ذات مصالح ومطامح ومطامع، وهي دولة ذات مرجعية دينية؛ إسلامية الدين (وفق دستورها وخطابها)، شيعية المذهب (الاثنى عشري الجعفري). ينبغي ألا ننكر أيا من الوجهين، وينبغي حمل كل منهما على مجاله. موقفها الديني يدرسه ويناقشه العلماء والمفكرون والدعاة، يدرسون واقع المذهب لا تاريخه فقط، ويحكمون عليه وفق الفقه السني الذي اتسع لتنوعات الأمة وخلافات مذاهبها العديدة عبر التاريخ الإسلامي الطويل، لا بأيديولوجيات يختلط فيها السياسي بالدعوي من غير منهج واضح ولا مقاصد محددة، ولا مبادئ معبرة عن ثوابت الإسلام وأمته. وموقفها السياسي شأن الساسة والمفكرين السياسيين المسلمين من أهل السنة يهتمون به ويدرسونه أيضا ويتعاملون معه من منطلق تدافع المصالح السياسية، والتهديدات السياسية المتبادلة، لكن في إطار الأمة الإسلامية الجامعة لأقطار متعددة، ومصالح مختلفة، لكن يمكن -ويجب- جمعها في رؤية استراتيجية واحدة.

7. شاركت إيران بصورة بشعة في تأجيج النظرة الطائفية تجاهها من أهل السنة، حين دخلت العراق من مدخل الضباع المتطفلة، التي تقتات على جثث العراقيين، وتشكل لها مكانة ومكانا على حساب المبادئ والقيم، ومفهوم الأمة الواحدة، ثم ظهرت بشاعتها وشناعتها في الثورة السورية، وتركت لكلاب طائفيتها المجال إظهار أسوأ صورة لها أمام أهل السنة، تجعلهم لا يفرقونها عن الصهاينة والأمريكان. وفي المقابل عانى شيعة كثيرون من مظالم منتسبين لأهل السنة في العراق واليمن وغيرهما، وينبغي التمييز بين مظالم سياسية لا يجوز الدفاع عنها بحال، ويجب إدانتها والقائمين بها، وبين مذاهب فقهية لا تدعو إلى هذه البشاعات ولا تبررها إلا بترجمات أيديولوجية معاصرة وآثمة ومعززة من سياسات تفريقية لا تصب إلا في صالح أعداء الأمة ودينها.

8. وعليه، فشأن الدعاة من أهل السنة أن يهتموا بمذهب إيران ونهجها الشيعي وتطوراته، وكيف تنشر التشيع -في المنطقة العربية وآسيا وأفريقيا- بدعوتها الدينية وأساليبها، المسنودة بسياسات الدولة. ولا يدفعهم ذلك إلى أن يفتوا في شأن السياسات والاستراتيجيات، والمواقف السياسية من الأصدقاء والأعداء، فهذه لها شأنها المختلف، وتنبني على معلومات ومناهج نظر مختلفة، عماده النظر في المصالح القومية والوطنية، ويحيط بها مفهوم “المصلحة العامة للأمة”. ومن ناحية فقهية فكرية، فإن المذهب الشيعي فيه وفيه، ولكنه تاريخيا عاش داخل الأمة لا خارجها، واستوعب أهل السنة أهل البدعة حياتيا، ولم يكفروا جميعهم، إلا من شذ شذوذا كبيرا واضحا. فالأصل هو الاستيعاب، مع استمرار التدافع الفقهي والفكري والدعوي، على نحو ما تشهد به كتابات الفقهاء عبر تاريخنا.

9. لكن تفاعلات الدولة الإيرانية السياسية وتفاعلات القوى التابعة لها أو المتحالفة معها من حكومات العراق وسوريا واليمن الحوثية، وحركات سياسية عسكرية مثل حزب الله وغيرها هي محل عناية الساسة والعمل السياسي. وينبغي ألا يتم إنكارها بهذه الطريقة الدعوية الساذجة التي نشاهدها. والواقع أن الدول والحركات السياسية السنية تتعامل مع إيران والحكومات والحركات الشيعية من منطلق تدافع المصالح؛ فتارة تتعاون معها لتحقيق مصالح مشتركة، وتارات تتنافس أو تتخاصم أو تتعادى معها، وليس للتشيع أو للتسنن. بل أكثر القوى السياسية العربية والإسلامية السنية لا تعتني بالإسلامية ولا بالسنية التي توصف بها فأكثرها أقرب إلى العلمانية.

10. ما ينبغي الاجتماع عليه هو أمران متكاملان: قواعد الملة ومصالح الأمة، وللأسف الشديد يعاني المسلمون نقصا معرفيا كبيرا بالأمرين، وأخطر منه التفاتا كبيرا لدى الساسة والمتكلمة عن فكرة “الأمة”، وكيفية دمج المصالح الوطنية والقومية في مصلحة عامة للأمة، بحيث نتشارك أصدقاء الأمة، ونصطف ضد أعدائها، مهما كانت الخلافات بيننا.

11. وبالنسبة للصراع مع الكيان الصهيوني، وخاصة بعد ما كشفه طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني الأقسى، فلا يعقل عاقل أن يقدم مسلم سني أو شيعي، الخلاف السني-الشيعي، على مقاومتنا للمعتدين على دمائنا وأعراضنا وأموالنا وديننا، ويلعبون على عقولنا وضمائرنا، وينبغي أن نوجه النزعات الصراعية الكامنة فينا إلى ذلك العدو وأوليائه، ونوجه قدراتنا الاستيعابية إلى مكونات الأمة الواحدة، ذات المذاهب المتعددة.

12. وأخيرا، فإن المنشود ليس الفصل بين الدين والسياسة، فهذه لادينية سياسية غبية ومخالفة لطبيعة الدين والسياسة في أمتنا، لكن التمييز ابتداء بين الأدوار، قبل جمعها في منظور شامل انتهاء. فالساسة المنتمون للأمة ومبادئها وقيمها ومقاصدها يفكرون في مصالحها العامة، ومصالح أقطارها الخاصة، وعليهم أن يصلوا ويوثقوا الرابطة بين هذه وتلك، فيما يعنى الفقهاء والدعاة في بيان أحكام الممارسات والخطابات وما يجب على المسلمين الأخذ به أو تركه شرعا، وتوصيل هذا بأداء عقلاني يليق بقيم الإسلام ومفهوم الأمة الجامعة.

والله أعلم.

————————————-
الهوامش:

[1] طارق البشري، الفتنة بين السنة والشيعة، صحيفة الدستور المصرية، عدد 27/9/2008.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى