جدل الأنا والآخر بين المشرق والمغرب العربيين: الحالة الثقافية في المغرب 2010 نموذجًا

السياسة الثقافية العمومية في مغرب 2010:

أُسنِدت أول وزارة للثقافة في المغرب إلى عالم في التراث ومتخصص في الأدب الأندلسي إسمه محمد الفاسي تحت إسم “وزارة العلوم والمعارف والفنون الجميلة”. وكان الوزير حينها يتمتع بشخصية ذات هيبة تاريخية؛ إذ يعتبر من بين المُوقِّعين على وثيقة استقلال المغرب سنة 1944م، كما تميز بعمق إبداعي واطلاع واسع وإلمام متنوع بالتراث مع انفتاح على الثقافة الغربية خصوصًا الفرنسية، وكان من أعضاء اليونسكو البارزين. هذا ما جعل وزارته مزيجًا من اختصاصات التعليم والإبداع والفنون؛ مما سيتغير لاحقًا وسيستقل كل قطاع علمي بوزارة خاصة.
ففي الحكومة المغربية لسنة 1956م تحمل محمد الفاسي حقيبة بوزارة التهذيب الوطني تأثرًا بالمفاهيم المشرقية أي وزارة “المعارف والتهذيب”. وكان معروفًا عليه استقطاب كفاءات مصرية للتدريس في المعاهد والمدارس المغربية، كما دعم التعليم المغربي بكفاءات عراقية وسورية. إلا أن حضور الكفاءات المشرقية في المعاهد المغربية سيقل بسبب حرب الجزائر على المغرب سنة 1963، وتورط بعض الدول المشرقية فيها، بحسب تقدير المغرب، وبذلك ستضيع على المغرب فرصة تدريس مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطبيعيات باللغة العربية والتي كانت تتولاها الكوادر المشرقية ليعود تدريسها بالفرنسية في الثانوية إلى سنة 1982؛ حيث سيبتدئ التعريب في الثانوي، ويبقى التدريس بالفرنسية في الجامعي إلى اليوم وهذا مارسخ ازدواجية النخبة المغربية التي قادت الحركة الوطنية بين الانتماء للداخل والارتماء في أحضان مدارس الاستعمار وبعثاته. فغدت أزمة التعليم في المغرب إلى اليوم أزمة فكرية؛ أزمة أسس وأزمة بنيات وأزمة أهداف[1]، وإصلاحه اليوم مازال يتطلب تعرية جذوره والكشف عن طبيعة هياكله، وفضح المضامين الفكرية القاتلة التي يحملها، والاقتناع بالمبادئ الأساسية التي أقرت كأسس مركزية لمذهب التعليم في المغرب وهي التعميم والتوحيد والتعريب ومغربة الأطر؛ فالتعليم في المغرب، بنظر المرحوم محمد عابد الجابري، يحتاج إلى ثورة ثقافية واسعة وشاملة[2]، لإيقاف النزيف الذي يغذي المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى اليوم[3].
وقد دافع الجابري، رحمه الله، عن مدرسة وطنية غير محافظة وغير مستلبة للماضي، وغير مشتغلة في أجندة الاستعمار وبقاياه اللغوية والثقافية[4]؛ مدرسة ذات دور ثقافي تنويري يتجاوز ازدواجية الأصالة والمعاصرة، تجمع بين همّ التكوين العلمي والتأطير النضالي والانخراط في قضايا التنمية[5]. وفي سنة 1968 سيتقلد محمد الفاسي وزارة الثقافة المغربية تحت إسم “الشؤون الثقافية والتعليم الأصيل”، وهذا الاسم مؤشر على حدث مفصلي في تاريخ التعليم المغربي وهو الفصل بين التعليم العتيق/الأصيل والتعليم العصري. وسيلعب الوزير محمد الفاسي دورا أساسيا في تأسيس جامعة محمد الخامس، وقد عرف الرجل بميله إلى عوالم الفكر والإبداع والابتعاد عن السياسة وشؤونها.
وما قبل 1968 لم يكن أي اهتمام بالقطاع الثقافي في الحكومات المغربية، وكانت المجالات الثقافية موزعة بين وزارات التعليم والشباب والرياضة والإعلام والتلفزيون، ثم أعيد ربط الثقافة بالشؤون الإسلامية. ولم يكن اختيار تدبير الشأن الثقافي العمومي بالمغرب يقع على وزراء محسوبين على الثقافة؛ إذ سبق لوزير سابق في الأشغال العمومية، وزارة تقنية جدًا، أن شغل منصب وزير الثقافة والتعليم العالي والثانوي وتكوين الأطر، كما عُيِّن وزير قادم من التجارة والصناعة وزيرًا للثقافة. وبقي الأثر الكبير في تدبير الشأن الثقافي العمومي للفقهاء أمثال محمد الفاسي والمكي الناصري، كما برز الأثر الأكاديمي الاستثنائي للوزير محمد علال سيناصر، كمفكر تولى مقاليد الوزارة، وكذا الدور الطلائعي الذي قام به محمد بنعيسى.
ويبقى محمد الفاسي أبرز واضعي الأسس الأولى للسياسة الثقافية العمومية في المغرب، وكان من معارضي رؤية بعض وزراء السياحة إلى المجال الثقافي والفنون الجميلة كأدوات استهلاكية لإنعاش سياحة الفرجة.
ومع دخول المغرب سياسيًا إلى مرحلة “التناوب الديمقراطي” على السلطة منذ سنة 1998، وتحمل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية رئاسة الحكومة، هيمن الحزب على وزارة الثقافة منذ 1998 إلى اليوم؛ إذ تولت الوزارة رموز كلها محسوبة على حزب الاتحاد الاشتراكي؛ محمد الأشعري، وثريا جبران، وبنسالم حميش، فأصبحت السياسة الثقافية العمومية في المغرب شأنًا حزبيًا محدودًا.
وفي عام 2010 تحمل مسؤولية وزارة الثقافة في المغرب مفكر معروف هو بنسالم حميش[6]، عرف بنقده للعولمة ونماذجها التنميطية من خلال المرئيات، واعتبر منتوجاتها مواد استهلاكية لتزجية الوقت، ودعا إلى إدماج الثقافة المغربية في منظومة التنمية البشرية وإعادة تحقيق “النبوغ المغربي”. كما دعا إلى رفع ما يسميه بـ”غبن المشرقين” للمغاربة، كما دعا إلى إشراك القطاع الخاص/الأهلي في الشأن الثقافي؛ وقد تحقق له بعض من ذلك من خلال تسليم صندوق الإيداع والتدبير (بنك رسمي) لدار ثقافة مجهزة لوزارة الثقافة. كما جعل في برنامجه لسنة 2010، حسب تصريحاته لعدد من وسائل الإعلام، وضع مخطط لدعم الكتاب المغربي، وتقديم مقترح إلى وزارة المالية لإعفائه من الرسوم. ودعا إلى عقلنة دعم الكتاب وكذا الفنون، وإلى إنشاء “شرطة التراث” تكون مهمتها حماية القطع الأثرية المغربية، والتي تعرضت للنهب بيعًا أو سرقة أو تهريبًا، وقد تم إنشاء “المؤسسة الوطنية للمتاحف” وهي مؤسسة خاصة يكون رئيس إدارتها وزير الثقافة. كما اعتبر الوزير/المفكر أن الورش الكبير لعمله في سنة 2010 هو تنفيذ فكرة ومشروع “أولمبياد القراءة”، إيمانا بأن لا شيء يمكن أن يحل محل الكتاب، وأن التكنولوجيات الحديثة يجب أن تدعم الكتاب لا أن تقتله. وخلال هذه السنة تم تدعيم المجال الثقافي المغربي بفتح “المكتبة الوطنية للمملكة” بالرباط. كما أن “المعهد الوطني للموسيقى والرقص” في مراحله النهائية من التشييد، ويتم إعداد “متحف للأيكيولوجيا وعلوم الأرض” سيوضع فيه هيكل “الديناصور” المغربي الذي تم تهريبه إلى الخارج (باريس). ويواجه وزير الثقافة في سنة 2010 معضلة ظاهرة دعارة بعض المغربيات ببلدان الخليج بموجب عقود “فنانات”؛ وقد ضيق على هذه الظاهرة وجعل وزارة الثقافة هي الحجة الوحيدة الوصية والمخولة إصدار بطاقة فنان، وبذلك سحب هذا الاختصاص من النقابات والجمعيات الفنية. ويتم التنسيق في ذلك مع السفارات والقنصليات المغربية في الخارج. كما يواجه الوزير الوضعية المزرية لأضرحة مجموعة من الشخصيات المغربية التاريخية كيوسف بن تاشفين، وهي مسؤولية مشتركة بين وزارة الثقافة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. كما يواجه التحدي اللغوي من خلال التغلغل الفرنكفوني في أجهزة الدولة ومؤسساتها الثقافية والفنية. وعرف عن الوزير/ المفكر غيرته على اللغة العربية؛ لكن سياسة الوزارة في هذا الاتجاه ما زالت غامضة ومترددة أمام الهجمة الفرنكفونية المدعومة من لوبي سياسي واقتصادي قوي ومتجذر في أجهزة الدولة. كما تتعرض سياسة وزارة الثقافة لنقد عنيف من طرف التيار الأمازيغي، خصوصًا بسبب موقف الوزير من الحرف الأمازيغي الأصلي المسمى “تيفيناغ”، وانحيازه لكتابة الأمازيغية بالحرف العربي وهو موقف الحركات الإسلامية والقومية العربية في المغرب، ضد موقف جل الحركات الأمازيغية التي مالت إلى الحرف اللاتيني. لكن المؤسسة الأمازيغية الرسمية في المغرب وهي “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” رجح الحرف الأمازيغي الأصلي هروبًا من التقاطبات السياسية في الموضوع وخصوصًا بين الإسلاميين والأمازيغيين (في عمومهم) والذين ما زالوا يعتبرون الانحياز للعربية هو تلمذة كسولة على الشرق!
وعلى الصعيد الثقافي المغاربي (بين دول المغرب العربي) دعا بنسالم حميش إلى إقامة “سوق ثقافية مغاربية مشتركة” لتحقيق المقروئية الواسعة وترويج الكتاب وتداوله؛ كان ذلك خلال اجتماع الدورة الثانية لمجلس وزراء الثقافة بدول اتحاد المغرب العربي المنعقد في ليبيا، كما زكى اختيار تلمسان ونواكشوط عاصمتين للثقافة الإسلامية. وتعمل وزارة الثقافة المغربية في إطار برنامج مشترك مع منظمة الأمم المتحدة سمي بـ”الصناعات الثقافية الخلاقة كقاطرة للتنمية” (2009-2010). ولا يخفى التصور النظري الذي يبشر به وزير الثقافة المغربي كمثقف قومي بأن الثقافة التي يسعى إلى نشرها في المجتمع هي الثقافة التي تعتبر روح الأمة وعنوان هويتها. وهذا يتناقض مع تراجع دور الثقافة في التنوير والقيادة للفعل التنموي في البلدان العربية اليوم، وما تعكسه التقارير التي تصدرها مؤسسة الفكر العربي وترصد فيها الأوضاع الثقافية في الوطن العربي على مستوى المعلوميات أو التعليم أو الإعلام أو الإبداع أو الحصاد الفكري.
فالموسم الثقافي في المغرب غير محدد إلا في أجندة البعثات الأجنبية، خصوصًا الفرنسية والأمريكية والبريطانية، والتي تملك مواعيد قارة ومضبوطة في غالبها، أما البرامج المحلية فيطبعها الارتجال والتفكك وضعف الإنجاز إلا إذا استثنينا المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، وعلى هامشه جائزة المغرب للكتاب، مما يعني غياب “سياسة ثقافية عمومية حقيقية”. وبقيت الأنشطة الثقافية الضخمة (مهرجانات/مؤتمرات…) في أيدي لوبيات اقتصادية وسياسية ليست بالضرورة تستهدف التنمية الثقافية والبشرية لعموم المواطنين بعيدًا عن الطابع الفرجوي السطحي مع احترام أفق انتظار المتلقين وهم أبناء الوطن الواسع. وبقيت الأنشطة الثقافية المشبوهة أو في أحسن الأحوال مدفوعة برهانات سياسية وحزبية وغير ثقافية هي السائدة، مع الإغداق عليها من الأموال العمومية والأموال مجهولة المصدر، في غياب أية محاسبة لكشف الحساب والتدقيق في الصرف. وقد طالب كثيرون بإحداث “هيئة عليا لتنظيم المهرجانات” أمام سيطرة الأسماء الفنية السوقية الأجنبية على جل الحفلات والمهرجانات والتي كثيرًا ما تتحول إلى خليط من الرقص الفوضوي والتدافع أودت بحياة الكثيرين من الأبرياء (نموذج مهرجان الرباط)؛ حيث توفي أكثر من إحدى عشر فردًا في تدافع عند حضور سهرة غنائية في ملعب رياضي طاقته الاستيعابية محدودة، مع دعوات متكررة إلى تفعيل المراسيم التطبيقية لقانون الفنان، فليست هناك برامج سنوية منظمة وموزعة على مجموع مناطق المغرب بشكل متوازن ومعروف سلفًا. يزيد من حدة هذا ضعف البنيات التحتية الأساسية الثقافية (قاعات عرض، متاحف، مسارح، دور سينما مجهزة…)[7]. وما فتئ الكثير من المثقفين المغاربة يلحون على أن الثقافة ليست احتفالا خاليًا من المعنى، أو ملحقًا ثانويًا، بل هي المستقبل، والدعامة الأساسية للتنمية. ففي فرنسا تم إلغاء مادة التاريخ والجغرافيا من المقررات المدرسية، وصارت تدرس للتلاميذ اعتمادًا على زيارتهم للمتاحف الإثنوغرافية والجيولوجية وغيرها، واليابان بدورها لن تكون أقل ذكاء من فرنسا بتبنيها لمشروع بناء عشرة متاحف في السنة. وقد نكتفي بهذا المؤشر وحده للتدليل على وجود سياسة ثقافية في هذه البلدان[8].
فمازالت بعض الأصوات في وزارة الثقافة في المغرب، رغم العمق الثقافي الذي يميز وزيرها كمفكر وفيلسوف، تلح على أن المهرجانات تخلق دينامية ورواجًا اقتصاديًا واجتماعيًا فترة تنظيمها[9]، ولو كان ذلك على حساب الهوية الثقافية وقيم المجتمع بل وسلامة المواطنين!
فالكثيرون في وزارة الثقافة يتحدثون عن التنمية الاقتصادية، ولايتحدثون عما تسببه هذه المهرجانات من فساد للذوق والبصر والجمال عبر ترويج أقراص مدمجة وسط النشء “لفنانين نجوم” في الملاهي. كما لايتحدثون عن الإيقاعات الأصلية التي تشن عليها حملات التهميش، كالغيوان، والأندلسي، والأمازيغي والحساني (الصحراوي المغربي)… وهي إيقاعات مغربية أصيلة؛ فالمنتوج المغربي الأصيل بعمقه الحضاري والديني لا يحضر في تلك المهرجانات إلا كمنتوج احتفالي فولكلوري للتزيين وإضفاء مسحة الإثارة ومحاولة ترسيخ الادعاء بالانتماء إلى الوطنية في ملتقيات باذخة[10].
والسؤال المحرج الذي لا ينبغي التهرب من طرحه في ضوء المعطيات الثقافية لسنة 2010 هو: هل للدول العربية سياسة حقيقية في تدبير الشأن الثقافي المحلي في تفاعل مثمر مع الشأن الثقافي العربي في كل البلاد العربية بحكم الانتماء إلى رصيد ثقافي تاريخي وحضاري مشترك، رغم وجود خصوصيات محلية، لن تكون إلا عناصر إغناء وتكامل مع المعطى الحضاري والقومي المشترك؟

1- صحوة المثقفين في مغرب 2010:

عرفت سنة 2010 بروز مجموعة من المثقفين المغاربة من خلال نقد الأوضاع الثقافية الرسمية، ونقد سياسة وزارة الثقافة من حيث اقتصار تواجد المؤسسات الثقافية الأساسية على مدينتي الرباط والدار البيضاء؛ فعلى سبيل المثال يوجد في الرباط “المتحف الوطني للفنون المعاصرة” و”المعهد الوطني العالي للموسيقى وفنون الرقص”، و”مركز الفنون الكرافيكية”، و”المتحف الوطني للآثار وعلوم الأرض”. أما في الدار البيضاء، فقد تم تدشين “مسرح الدار البيضاء”، وسيعد الأكبر إفريقيًا على مساحة تتجاوز 30 ألف متر مربع، كما تم تدشين “مكتبة الدار البيضاء” على مساحة 12 ألف متر مربع. هذه المعالم الثقافية الأساسية تنحصر بين الرباط والدار البيضاء، في حين تعاني مدن الهامش، رغم عمقها التاريخي والحضاري، من التهميش الثقافي على صعيد البنيات التحتية.
كما يسجل معارضو السياسة الثقافية الرسمية خجل المشاركة المغربية في جائزة “البوكر”[11]، وجائزة القاهرة للإبداع القصصي، وقد سجلت سنة 2009 فوز الروائي والناقد عبد اللطيف اللعبي بجائزة الكونغور الفرنسية.
وعبد اللطيف اللعبي[12] برز خلال هذه السنة بدعوته إلى إلغاء وزارة الثقافة، والدعوة إلى الرهان الثقافي في الانتقال الديمقراطي الذي يعرفه المغرب. وينتقد اللعبي السياسة الثقافية الرسمية لافتقادها للرؤية. وربط بين الثقافة والتربية، كما ينتقد غياب النصوص المغربية في المقررات المدرسية. كما يرى أن وضع الكتاب المغاربة وضع سيء؛ إذ غالبية المغاربة بنظره يعتبرون الثقافة غير ضرورية وليست من المستلزمات، كما عرف بدفاعه عن حرية الصحافة والرأي. ودعا المفكرين والمثقفين المغاربة إلى المشاركة في الحياة اليومية السياسية ومتطلباتها، كما دعا في أكثر من منبر إعلامي إلى أن الكاتب اليوم في المغرب يكتب للمستقبل مما يجعله أكثر صدقًا وحرية.
وانتقد اللعبي، وهو ذو توجه فكري يساري، حديث الدولة عن الحداثة واعتبره فارغًا؛ ذلك أن طريقة اشتغال السلطة لا علاقة له بالحداثة إطلاقا! كما دعا إلى فتح حوار جاد بين كتلة المثقفين والسياسيين والمجتمع الأهلي؛ فدور المثقف، بنظر اللعبي، يتمثل في تعبئة المواطنين حول القضايا المركزية مع احتفاظهم باستقلاليتهم التي تميزهم عن الفاعلين السياسيين. ولا يخفي عبد اللطيف اللعبي أن كتاباته، ولو أنها باللغة الفرنسية، تنبع من انتمائه العربي وهويته المغربية. والمثقف العضوي، بنظر اللعبي، يمارس النقد المزدوج، بتعبير المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي؛ نقد السلطة والحاكم والبنيات السائدة، ونقد النقد والمجتمع ذاته. ويذهب اللعبي إلا أن المغرب يعرف تدنيًا في الحس المدني مقارنة بشعوب في مستواه الاقتصادي والثقافي.
ولم يكل اللعبي كمثقف عضوي من الدعوة إلى الالتحام بالقضايا القومية كقضية فلسطين؛ فوعيه السياسي كان موافقًا لوعيه بالقضية الفلسطينية وباكتشاف مأساة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني، فقد زار الأراضي الفلسطينية وخصوصًا القدس ووقف على المعاناة. ويعتبر اللعبي الكتابة باللغة الفرنسية في المغرب نوعًا من الأدب العالمي الخاص، وقد سماه الكاتب الكاريبي إدوارد غيسموت بأدب العالم Littérature monde يكتبه كتاب في أوروبا أو أمريكا جاؤوا من الهند والباكستان وأفغانستان وإيران وإفريقيا السوداء وشمال إفريقيا وجزر الكريبي والعالم العربي؛ كتاب هربوا من الهامش (بلدانهم) إلى المركز (أوروبا وأمريكا)، (باريس ولندن ونيويورك).
وإلى جانب الأنشطة الثقافية والإعلامية خلال سنة 2010 التي ميزت المسار النضالي للمثقف اليساري عبد اللطيف اللعبي من خلال حوارات وندوات ولقاءات متكررة ومختلفة أعاد إلى النفوس مفهوم المثقف العضوي عند غرامشي والمثقف الملتزم عند سارتر، برز مفكر مغربي آخر وكاتب باللغة الفرنسية هو الطاهر بن جلون[13]، كان قد انخرط في تجربة مجلة “أنفاس” اليسارية التي أسسها عبد اللطيف اللعبي والمتخصصة في الشعر. عمل أستاذ الفلسفة، وغادر المغرب إلى فرنسا سنة 1971 احتجاجًا على اقتحام الشرطة للثانويات واعتقال التلاميذ يومذاك، وكان قد سجن بتكنتي الحاجب وهرممو كمناضل يساري. وعن المشهد الثقافي المغربي يرى الطاهر بن جلون أن الكتاب بدأ يعاني من منافسة وسائل الاتصال الجديدة، لذلك ضعف فعل القراءة في مغرب 2010، وعليه دعا الطاهر بن جلون إلى ضرورة خلق جمهور قارئ. كما اعتبر مشكلة اللغة محورية في المغرب؛ إذ عندنا اللغة العربية الدارجة (أي المغربية) واللغة العربية الفصحى التي تكتب بها الكتب، وهناك العربية (المتوسطة) وهي لغة الإعلام والصحافة، وكثيرا ما تدخل فيها كلمات أجنبية، وهناك الفرنسية إلى جانب الانجليزية والاسبانية وإن بشكل هامشي. ويرى ابن جلون أن البلد إذا لم تكن له لغة قوية تعبر عن الروح والهوية فيه فإنه سيبقى بلدًا ضعيفًا، وهذه مسؤولية علماء اللغة والنفس والاجتماع.
ولم يفقد الطاهر بن جلون الأمل في الدفاع عن مغرب جديد حر فيه عدالة، واعتبر أن أخطر ما يهدد المغرب هو الرشوة والوساطة. وقد طالب بمسيرة خضراء ضد الرشوة في المغرب. ويذهب إلى أن القيم الإسلامية، وخاصة قراءة القرآن، بصفة ذكية، تقدم لنا طرق الخروج من هذه المشكلات؛ فالإسلام نجح في إصلاح مجتمع بدوي فاسد ومتحلل هو المجتمع الجاهلي. ودور المثقف في مغرب اليوم، بنظر الطاهر بن جلون، هو نشر الوعي الجديد وتشجيع القراءة والاهتمام بأمور الناس. لذلك قام بزيارة عدد من المدارس والإعداديات والثانويات العمومية والأهلية بمدينة الدار البيضاء لتشجيع القراءة.
فالمغاربة لم يكتب عليهم أن يكونوا ملاعين الأرض الأبديين! وحمل ابن جلون في أنشطته الثقافية والإعلامية لسنة 2010 على البلدان الأوروبية التي تستغل البلدان الإفريقية وتعمق جراحاتها بدعم أنظمة ديكتاتورية وتشجيع الإدارات الفاسدة والمرتشية فيها. فأوروبا عليها أن تتحول إلى “كلية أخلاقية” لمعالجة هذا الاختلال الرهيب في رؤيتها ومنهج عملها؛ فهي المسؤولة عن مأساة الأفارقة والشعوب الأخرى، وإلا لماذا تتوفر البلدان الغنية في أفريقيا وآسيا على شعوب فقيرة؟ فالمسألة أخلاقية بالنسبة لأوروبا وليست اقتصادية! ولم يُخفِ ابن جلون الحرج الذي يقع فيه الكاتب بلغة غير لغته الأم، ولكنه يقر بأن الأصول تلاحق صاحبها وإن حاول طمس آثارها؛ فالكتابة الشعرية عند الطاهر بن جلون يعتبرها مُشكَّلة من التراث المغربي ولو أنه يكتب باللغة الفرنسية. كما عبر عن انتمائه العربي لما رفض التصويت في لجنة جائزة الكونكورد لشخص معروف بعدائه للعرب وللقضية الفلسطينية خاصة وأن كل أعضاء لجنة التحكيم صوتوا لصالحه إلا ابن جلون! ويبقى دور المثقف عنده هو الدفاع عن ملاعين الأرض بتعبير فرانزفانون.
أكيد أن البروز الثقافي سنة 2010 لكاتبين مغربيين يكتبان باللغة الفرنسية كان لافتًا، وهما اللذان كان يحجزهما عامل اللغة عن التواصل مع عموم الجمهور المغربي الذي يشتغل على القراءة أكثر باللغة العربية. ويبدو تأثرهما بالمدرسة الفرنسية التي قادها سارتر في الالتزام الفكري والأخلاقي من خلال مجلته (الأزمنة الحديثة) أو في (الدفاتر البروليتارية)، وما كتبته رفيقته سيمون دوبوفوار في روايتها (المثقفون)[14]. وإلى جانبهما كان مفكرون آخرون يساهمون بشكل وافر في النقاش الثقافي بالمغرب خصوصًا العلمان البارزان عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، رحمه الله، هذا الأخير سنخصه بالذكر في فقرة خاصة به كمثقف استثنائي ودعه المغرب والعالم العربي سنة 2010.
أما عبدالله العروي، وهو المؤرخ والفيلسوف والأديب المعروف، فقد أصدر سنة 2009 كتاب “من ديوان السياسة”، مازال يثير النقاش في الوسط الثقافي المغربي، والذي نزل فيه من البرج العاجي الذي يتحصن فيه عادة المفكر والمثقف الأكاديمي إلى “حضيض” السياسة ومصالحها وحروبها وهمومها اليومية؛ فقد تكلم عن الملكية والبرلمان والدستور والقضاء واللغة. واعتبر في كتابه أنه لم يحصل بعد عندنا انفطام الفرد بين الغريزة والعقل وبين الإتباع والاستقلال، ولم ننتقل من التوكل إلى الهمة، ومن المبايعة إلى المواطنة. وما يجعل السياسة بئيسة هو بالضبط شموليتها؛ فلا تتكون نخب سياسية تتأهل وتتجدد باستمرار. ففي ظل الأمية السياسة طاغية ومنحطة، وفي ظل الديمقراطية مجال السياسة ضيق وقيمتها عالية. فالديمقراطية تحرر السياسة وتنقذها من كل ما ليس منها، فتصبح الرياضة رياضة والفن فنا وكذلك العلم والفلسفة، أما إذا طغت السياسة على الكل جرَّت الكل معها إلى الحضيض.
وذهب العروي على عادته في الكتابة، إلى نقد الأوضاع السياسية والثقافية في المغرب مع التركيز على المرجعيات والأسئلة المثيرة لا الأخبار والأجوبة العابرة، كما اشتغل على صياغة المقدمات وتجاهل الخلاصات؛ فبدون مقدمات ومرجعيات لا تفهم الأجوبة. وكان أسلوبه في خرجاته الثقافية والإعلامية يميل إلى النقد الصارم وهو صاحب تجربة سياسية وانتخابية سابقة سنة 1971م؛ إذ كان يوزع على الناس في حملته الانتخابية كتبًا وليس مناشير. وبقي العروي حاضرًا في الساحة الثقافية والمعرفية بكتبه وحواراته وخلاصاته التي ما زالت الأيام تثبت نجاعتها وصدقيتها. وهو صاحب الطقوس في البحث والإبداع ذات مسلك صارم ومخيف؛ إذ يحكى عنه أنه إذا كان منهمكا في تفكير أو كتابة أو إبداع، من عادته أن يشعل مصباحًا بلون أحمر، ويعني أنه يمنع على الجميع، بما فيهم أفراد أسرته الاقتراب من باب المكتب! ويبقى عبد الله العروي نموذج المثقف الشجاع والحاضر باستمرار في الفضاء الثقافي المغربي والذي يملك القدرة على الانتقال من الأيديولوجيا إلى التاريخ ومن الحرية إلى الدولة ثم إلى العقل ومفاهيمه، ليعرج على عوالم الإبداع والرواية؛ من خلال رباعيته الرائعة: “الغربة” و”اليتيم” و”الفريق” و”أوراق”.
كما عرفت سنة 2010 صحوة مثقف في المغرب من نوع خاص هو حسن أوريد، كان زميل ملك المغرب محمد السادس في الدراسة في المدرسة المولوية بالقصر الملكي. وبعد تقلد الملك الجديد مسؤولية الحكم في المغرب عينه ناطقًا رسميًا باسم القصر الملكي، ثم تولى منصب محافظ مدينة مكناس التاريخية. وعُيِّن سنة 2009 مؤرخًا للمملكة خلفًا للدكتور عبد الوهاب بن منصور، لكنه أعفي من هذا المنصب سنة 2010. وتذهب المناقشات الثقافية في المغرب والتحاليل الإعلامية إلى أن سبب التخلي عنه هو تأليفه كتاب بعنوان “مرآة الغرب المنكسرة”، تضمن مجموعات من الإشارات المشفرة التي تنتقد الوضع الثقافي بالمغرب خاصة في مجال التربية والتكوين والتعليم، وهناك من ربط الأمر بلعنة الثقافة التي ترافق المسؤول المثقف، وتؤكد استحالة أن يكون الإنسان مثقفًا ورجل سلطة في الآن نفسه في المغرب.
كما عرفت الأحداث الثقافية بالمغرب إصدار “المرصد الوطني للثقافة” وهو منظمة ثقافية أهلية يقودها مثقفون وأساتذة جامعيون، بلاغ يدعو فيه إلى مقاطعة أنشطة وزارة الثقافة وخاصة جائزة المغرب للكتاب والمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء في فبراير 2011.

2- الصراع حول الخطاب الديني في مغرب 2010:

‌أ- التنصير في المغرب تحت غطاء العمل الخيري:
انفجرت خلال هذه السنة ظاهرة التنصير بالمغرب بشكل غير مسبوق؛ إذ تم ضبط ثمانية عشر منصرًا كانوا يشتغلون تحت الغطاء الخيري للترويج للأفكار المسيحية بمنطقة ريفية نائية تسمى “عين اللوح” بضواحي مدينة إيفران التابعة لمحافظة فاس، يبلغ سكان جماعة عين اللوح 5278 نسمة. تأسست فيها “قرية الأمل” المسيحية منذ 1951 في عز الاحتلال الفرنسي، أسستها سيدتان أمريكيتان هما “إلين كريستين دوران” وصديقتها “إماجين”. وإلين تعتبر من أهم رموز الكنيسة المعمدانية بمينيا بوليس، تخرجت من مدرسة “الكتاب المقدس” بمينيا بوليس ثم من مدرسة الإنجيل المقدس بشيكاغو، وهناك التقت برفيقتها “إيماجين” والتي قضت شهورًا عديدة في التدريب على العمل الميداني التنصيري؛ حيث “لبتا نداء الله” في بعثة ميدانية إلى المغرب بقرية “عين اللوح”، حسب وثيقة أمريكية تسربت إلى جريدة المساء المغربية. وأصبحت “قرية الأمل” بعين اللوح أول نواة تنصيرية ثابتة في المنطقة. وقد اشتغلت فيها “إلين” وصديقتها ما يزيد على الخمسين سنة (توفيت سنة 2007 بمسقط رأسها)، و”إيماجين” (سنة 1995)، وكانت تمولهما منظمة “الاتحاد من أجل التبشير”. وتعتبر إلين مشروعها الخيري يشتغل على حوالي 30 ألف طفل مغربي يحتاجون بنظرها إلى رعاية خاصة، ليكونوا متشبعين بقيم المسيحية الإنجيلية ومحققين اكتفاءهم الروحي الديني!
كما اعتقلت السلطات المغربية ثلاثة مغاربة بمدينة العرائش (تابعة لمحافظة طنجة)، وهم رجل مغربي وزوجته وأحد معارفهما اعتنقوا المسيحية ويروجون لمفاهيمها وسط المواطنين. وهم أسرة تحولت بسرعة من الفقر والحاجة إلى الثراء؛ تملك شقة فاخرة في أحد أرقى الأحياء بالمدينة، وهذا ما أثار أسئلة مقلقة حول هذه الظاهرة وأبعادها ومن المسؤول عنها. ففي مدينة العرائش توجد مؤسسة تبشيرية تدعى “دار الرهيبات” تتكفل بأبناء الأيتام والمتخلى عنهم من خلال الحصول على كفالة قانونية للطفل المعني دون معرفة ما يجري داخل الدار ونوعية التربية والتعليم اللذين يتلقاهما الطفل المتكفل به. وقد شوهد أطفال مغاربة ينتمون إلى هذه الجمعيات الخيرية في مدن إيفران والعرائش والقصر الكبير وأزرو يحملون الصلبان في أعناقهم ويتحدثون عن المسيح والأناجيل وبعض ماورد فيها من قصص وحكايات. وقد نشرت كتيبات كثيرة مترجمة إلى اللغة العربية تدعي أنها تقدم للقارئ المغربي تلخيصًا وفيًا لتعاليم كلام الله وتثبت صحته بالحجج التاريخية والمنطقية والروحية ليثق بصدق الإنجيل كمرشد روحي. وهذه الكتب تقدم إلى مغاربة يريدون الاستفادة من خدمات جمعية في تعلم اللغة الاسبانية بالرباط.
كما يشتغل التنصير المسيحي عبر جمعيات خيرية مختصة في مجال الإعاقة وإعادة إدماج المعاقين وتأهيلهم وتقديم الخدمات الصحية (تصحيح النظر، وتقديم نظارات للفقراء)، وتوفير المياه للأسر الفقيرة في البوادي الجبلية النائية عن المراكز. كما تقدم خدمات ترفيهية للأطفال في مجال الألعاب والغناء والموسيقى والرقص، لتسهيل وصول الثقافة المسيحية للأطفال المسلمين في المغرب. ويدخل في هذا الإطار مشروع “البشارة للأطفال” من أجل تأمين فضاء مسيحي واعٍ ومتنور للأطفال، وهو مشروع انطلق بأربعين قصة من الكتاب المقدس، في أفق الوصول إلى ثلاثمائة وخمسة وستين قصة مقتبسة من الكتاب المقدس ليقرأ الطفل قصة في اليوم تضاف إلى ما يتعرض له يوميًا الطفل المغربي وكذا العربي من غسل دماغ وجداني وعاطفي عبر أفلام الكارتون تعمق تمزقه واضطرابه.
وتذهب التحاليل التي استنتجها متخصصون في الأديان والسوسيولوجيا والخبراء في هذا الشأن، من خلال التقارير والأبحاث والندوات التي عقدت في المغرب لهذا الغرض، إلى أن هذه الحملات التنصيرية منظمة ومخطط لها سلفًا؛ اتباعًا لما ورد في إنجيل متى بأمر من المسيح 28 الفقرة: 18-19 “إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والإبن والروح القدس”. كما أن المغرب بلد استراتيجي على نطاق العالم، وهو المدخل إلى إفريقيا وغيرها، ويهتم به خصوصًا الإنجيليون رأس حربة التبشير الجماهيري؛ فقد أعلن المجلس العالمي للكنائس سنة 2002 سنة دولية للتنصير في المغرب. وتظهر الدراسات والتقارير الكنسية اهتمامًا خاصًا بالمغرب، وخاصة في مدن الأطراف؛ مدينة وجدة على الحدود الشرقية مع الجزائر التي تعرف بدورها حركة تنصيرية واسعة خصوصًا في مناطق القبائل، ومدينة طنجة على الحدود الشمالية. وتحدد الجماعات التنصيرية أهدافها في تشكيل نسبة 10 % من المتنصرين في المغرب سنة 2020م. والأهداف التبشيرية في المغرب تأمل في خلق أقلية دينية في البلد لتستغل في الضغط السياسي ولتكون صناعة في يد العملاء خصوصًا وأن تجارب السنغال ونيجيريا وإندونيسيا والسودان ماثلة أمامنا؛ إذ يسهل التدخل في الشؤون الداخلية في أي بلد عبر تفجير الصراعات الطائفية وإلهاء الدولة بتداعياتها السلبية. وهذا ما يلمسه المتتبع لحالة المغرب؛ إذ طالب المحتجون على إجراءات المغرب ضد المبشرين بمراجعة “وضعه المتقدم” كمتعامل مع الاتحاد الأوروبي، وكذا مراجعة الاتفاقيات التجارية مع المغرب. فالإنجيليون يهتمون بالجماهير، والفاتيكان بالنخبة من خلال تعهد ملتقيات الحوار بين الأديان. وقد أشارت نائبة في البرلمان المغربي إلى أن مثقفين كثر لهم علاقة بمنظمات تنصيرية في المغرب، ويتلقون الدعم لتنظيم أنشطة فكرية وفنية وثقافية، وتنظيم سفريات بالجملة إلى الخارج. وكثيرًا ما يتعمق إغراء المثقفين بالمال أو بالمكانة المعنوية والإعلامية، أو بتوريط البعض في أخطاء مادية أو أخلاقية أو عبر التهديد.
وتعمل منظمات التنصير في المغرب اليوم من خلال استراتيجيات القرب والاندماج، بتكوين قساوسة في الداخل واستثمار العناصر الثقافية والتواصلية المحلية. والقس المغربي هو الذي تنصر ودرس علم اللاهوت خارج المغرب لمدة ثلاث سنوات، والقس الواعظ وهو الذي يقوم بإلقاء الدروس في المسيحية داخل المغرب. وكثيرا ما تعطي الأولوية للقرى والبوادي النائية والتي تعاني من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك للفوز بثقة الفقراء كاختيار تبشيري محوري. فلم يعد غريبا في هذه القرى المستهدفة تداول منشورات وأقراص مدمجة وأناجيل ومطويات عن حياة يسوع والمعتقدات النصرانية.
ويحكي كثير من الشباب المغربي الذي تراجع عن اعتناقه المسيحية إلى أنهم التُقِطوا وهم في وضعية ضياع أسري وهشاشة اجتماعية وجهل ثقافي.
ورغم خطورة هذه الظاهرة فمازالت المعطيات الرسمية حول الموضوع شحيحة، مع العلم أن الجميع يتحدث عن مخيمات للمسيحيين المغاربة بمكناس وإيموزار- فاس، وإفران، والمحمدية، وعن عائلات مغربية كاملة اعتنقت المسيحية، والعديد من البعثات المسيحية التي تدخل المغرب باستمرار. فمنظمة “كارتياس” وتعني “الصدقة” أو “الحسنة” تنشط في مجموعة من المدن المغربية (الرباط، طنجة، تطوان، أصيلة، العرائش) تمول من “مجلس الكنائس العالمي”، وتقوم بأعمال تبشيرية تحت غطاء المساعدات الإنسانية وهي تابعة للفاتيكان، وتتمتع بشخصية قانونية دولية من الأمم المتحدة مما يكسبها قوة وتأثيرًا أكبر. وأيضا منظمة “ساماريتا نزبورس” والإنقاذ الكاثوليكي تتلقى الدعم من اليمين الأمريكي المتطرف، ويسمونها بـ”كتائب القلوب”، كما أشارت إلى ذلك اليومية الأمريكية “نيويورك تايمز” وبجرأة كبيرة؛ فالمتطوعون ينظمون الصلوات قبل أن يعلموا الناس كيف ينشؤون مساكن مؤقتة.
إن مسألة التنصير في المغرب اليوم يتداخل فيها الثقافي والتربوي بالسياسي والمحلي؛ فقد أثارت الاحتجاجات الرسمية للسفير الأمريكي بالرباط ووزير الخارجية الهولندي على السفير المغربي بأمستردام إلى جانب احتجاجات المنظمات المسيحية ووسائل الإعلام الأوربية والأمريكية إثر طرد المنصرين من المغرب علامات استفهام حول هذا المشروع الثقافي والعقدي الرهيب! وهذا ما يُحمِّل الدولة مسؤولية كبيرة وخصوصًا وزارة الثقافة ووزارة التعليم لتعميق البعد الديني والوطني في الأطفال وحمايتهم من الشوارع وإكراهاتها. ولن تنفع أشكال المقاومات الذاتية الفردية التي أبدعها بعض الشباب المغربي عبر شبكة الإنترنت لمواجهة زملائهم من الذين اعتنقوا المسيحية وتنكروا لأوطانهم وانتمائهم الحضاري الإسلامي؛ إذ الأمر يحتاج إلى سياسة تأهيل ثقافي شامل يقدر خطورة هذا التهديد المتطور والمالك لإمكانيات ضخمة؛ فالتنصير في عمقه مشروع ثقافي متكامل يحتاج إلى مشروع مضاد خلاق وفعال ومستمر في المغرب وفي غيره من البلاد العربية والإسلامية.

‌ب- صراع الفتاوى الإعلامية:
أثارت فتاوى نشرت على صفحات جريدة التجديد ذات التوجه الإسلامي، والناطقة باسم حركة التوحيد والإصلاح الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية، في ركن (قال الفقيه) نقاشًا حادًا تجاوز الجريدة إلى اشتباك بين الإسلاميين والتيارات الأخرى خاصة من اليسار. وأبرز الفتاوى المثيرة للجدل متعلقة بمواضيع مختلفة مثل: قص الحاجب يؤثر على الصحة، والدولة لا توافق شرع الله خصوصًا في موضوع التعدد؛ إذ تشترط مدونة الأسرة في المغرب موافقة الزوجة الأولى، وفتاوى حول تحريم التأمين الصحي، ومعالجة القرآن الكريم لمرض السحر، وعنف الوالدين ضد الأبناء، ودفع الرشوة مع الاستغفار وغيرها… وتحول النقاش من الفتاوى إلى مناقشة الأفكار والأنساق الثقافية المؤطرة للإعلام الإسلامي وموقف الإسلاميين من الحداثة والديمقراطية والعلوم.
واستعمل نقد هذه الفتاوى لاتهام الإسلاميين بزرع بذور المنهج التفكيري التكفيري في المجتمع كما أبرز ذلك مدير دار الحديث الحسنية الدكتور أحمد الخمليشي؛ والمؤسسة تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. كما اتُهِمت المجالس العلمية ذات الطبيعة الرسمية من لدن مثقفي اليسار بنشر الأصولية والانغلاق، واتُهِمت وسائل الإعلام الرسمية بالتهمة نفسها.
ويرى الباحث والأستاذ الجامعي محمد الساسي، أبرز المناهضين للإسلاميين في الثقافة والفكر، وأول المدافعين عنهم من الوجهة الحقوقية، يرى أن مواجهة فتاوى الإسلاميين من صميم عمله كباحث وحقوقي وكإنسان يعترف بأن العقل البشري قادر على حل المشكلات، وأن تنظيم الحياة يجب أن يستقيم مع ما يقرره العقل. ودعى بالمقابل إلى ضرورة نشر فكر إسلامي مستنير وتقدمي، وحث الحركات الإسلامية على الاقتداء بالأحزاب الديمقراطية المسيحية. فتلك الفتاوى، بنظر محمد الساسي، التي ينشرها الإسلاميون في إعلامهم تدعو الناس إلى تنظيم حياتهم بشكل مخالف للقانون بدعوى أن ذلك يخالف شرع الله، وهذا، بنظره، هو عين ما تدعو إليه السلفيات الجهادية. واعتبر الإسلاميون حملة أقلام يسارية عليهم يدخل في إطار التحريض على الحركة الإسلامية وتقوية جبهة التيار الاستئصالي والأمني في السلطة، وأن الفتاوى المنشورة هي مجرد آراء لأفراد لا تلزم الناس. لكن الأستاذ محمد الساسي، وهو القيادي اليساري في حزب “اليسار الاشتراكي الموحد”، يرى أن من حق المفتي أن يبدي رأيه، لكن أن يقول أيضا للسائل إن الحكم الذي سيطبق عليه في إطار مؤسسات الدولة هو كذا وكذا، ويمكن للمفتي عندها أن ينتقد ذلك الحكم، لكن أن يقدم فتواه مجردة من أية إشارة للقانون فهذا خطر على المجتمع والدولة! وأثارت فتوى التمييز في ممارسة الطب بين النساء والرجال وذهاب المرأة إلى طبيب مسلم أو غير مسلم نقاشًا حادًا انتقل إلى ما هو فكري وتصوري، وإلى موضوع المرأة ومشكلة المجتمع وثقافته وعاداته وكيفية تطويره وتغييره. وخلص محمد الساسي إلى أن الخطاب الإسلامي في المغرب يتميز بأربعة مظاهر؛ هي التناقض والغموض والانتقاء والازدواجية، كما أن الفتاوى يحركها الهاجس السياسي والاستقطاب الانتخابي الذي تمارسه الحركة الإسلامية في المغرب بنظر اليسار.
أما الإسلاميون فكانوا يدافعون عن أنفسهم بأن الفتاوى مجرد آراء فردية لأشخاص علماء، تأتي في إطار الخدمات الاستشارية التي تقدمها الجريدة لقرائها في المجالات القانونية أو التربوية أو النفسية أو الفقهية. كما يؤكدون بأن الحركة الإسلامية المغربية تسعى إلى نشر وعي ديني فقهي معاصر يعتمد التيسير ورفع الحرج، وأن الفتاوى والآراء الفقهية تختلف عن الأحكام القانونية؛ إذ إن هذه الأخيرة ملزمة بقوة القانون، أما الرأي الفقهي فهو بنظرهم مبني على الاختيار. كما أن دور الإعلام الإسلامي في إثارة الفتاوى هو تشجيع الاجتهاد والتفاعل بين المؤسسات الرسمية وبين وزارة الأوقاف والمجلس العلمي الأعلى والهيئة العليا للإفتاء مع علماء الحركات الإسلامية ومطالب المواطنين. كما أن الجريدة التي تنشر الفتاوى تفتح الفرصة للردود المخالفة لتنشيط النقاش الفقهي خصوصًا في القضايا الفردية. أما انتقادات اليسار للفتاوى فهي تسم بالانتقائية، بنظر الإسلاميين، إذ يتخيرون بضعة فتاوى من مئات الفتاوى لإدانة الإسلاميين وتشويه صورتهم عند جمهور المغاربة.
فقضية الفتوى تفتح النقاش، ومازالت، في المغرب على قضايا الدين واستعمالاته، وأصبحت أداة لرصد تمثل الإسلاميين للمجتمع وحدود تصورهم لتطبيق الشريعة الإسلامية. وبقي موضوع الفتوى أهم المجالات التي يتشابك فيها مثقفو اليسار بفقهاء الحركة الإسلامية.

‌ج- المغرب ملتقى الأفكار:
عرف المغرب خلال سنة 2010 زيارة الكثير من المفكرين الذين يروجون لمشاريعهم وسط الجمهور المغربي. كان أبرزهم حَمَلة مشاريع التجديد الديني؛ فقد تردد على المغرب الأستاذ جمال البنا (الأخ الشقيق والأصغر للإمام الشهيد حسن البنا) صاحب المؤلفات والأفكار الدينية المعروفة والمثير للجدل، وكانت كل محاضراته تدور حول التجديد الديني والنظر في المنظومة المعرفية الإسلامية وشروط الحداثة الدينية. والملاحظ أن التيارات الإسلامية في المغرب متبرمة من جمال البنا، في وقت يجد حظوة كبيرة عند المثقفين اليساريين والليبراليين وكذا بعض الدوائر الرسمية.
كما تردد على المغرب المفكر الجزائري محمد أركون صاحب مشروع (الإسلاميات التطبيقية) والمعروف باستثمار منهج العلوم الإنسانية خصوصًا اللسانيات في قراءة النصوص الدينية، وهو متزوج بمغربية، وأوصى بدفنه بالمغرب بعد موته. تستدعيه القنوات التلفزيونية الرسمية خصوصًا القناة الوطنية الثانية، ومؤسسة آل سعود للدراسات والعلوم الإنسانية[15]، الممولة من طرف المملكة العربية السعودية ومقرها بمدينة الدار البيضاء، ويشرف عليها مثقفون يحسبون على التيار العلماني في المغرب. كما كانت تستدعي المؤسسة باستمرار المرحوم نصر حامد أبوزيد وكل المثقفين أصحاب المشاريع النقدية للفكر الديني والمعروفين بمناهضتهم لأفكار الحركات الإسلامية. ويكفي الدخول إلى موقع المؤسسة للاطلاع على برنامجها الثقافي الذي يميزه تناول الفكر الديني بخلفية نقدية وعلمانية.

3- الصراع الثقافي على القيم في مغرب 2010:

عرف المغرب خلال سنة 2010 سجالا ثقافيًا حادًا حول مجموعة من الظواهر والمسلكيات؛ صراع يخفي تباينًا شاسعًا في الأفكار والمصادر الثقافية والنماذج السلوكية، ويتعلق الأمر بالمهرجانات الموسيقية والسينمائية وموضوع الخمور.
وقد صرح وزير الثقافة المغربي بأن قضية العري والإباحية لا تعطي قيمة مضافة للعمل الفني لأن أمرها سهل ولا إبداع فيه، ولا هدف له إلا التزيين والتسويق، هذا مع العلم أن قطاع السينما غير تابع قانونيًا لوزارة الثقافة في المغرب. تصريحات وزير الثقافة رفضها مثقفون علمانيون يدافعون عن “الحريات الفردية” مهما كانت مزعجة لعواطف الناس وشعورهم، ويدعون إلى وضع الثقة في القارئ والمشاهد والمتفرج ليختار ما يناسب ذوقه وأفكاره وسلوكه. وصدرت مقالات صحفية عديدة تهاجم “حملة الإسلاميين على الفن”، عند إصدارهم بيانات ضد موسم حب الملوك، وملكة الجمال (ينظم في مدينة صفرو، منطقة أمازيغية تبعد على مدينة فاس بـ20 كيلومترًا)، وكذا ضد مهرجان “العيطة” بمدينة آسفي، تبعد بـ200 كم عن الدار البيضاء، وهي منطقة عربية ذات أهازيج وألوان فنية تاريخية ومحلية. ويعتبر خصوم الإسلاميين أن تلك الأشكال الفنية المحلية والشبيبية ولو كانت “مبتذلة” و”رخيصة” تمجد الجسد والجنس والحياة الشعبية القريبة من كل ما هو مادي ومحسوس، فهذه الأشكال الثقافية هي اللبنات الأساسية التي تقوم عليها شخصية الإنسان المغربي بانفتاحها وتعددها وتوهجها.
وفي مقابل هذا التوجه يبرز في المغرب نموذج جديد من الفنانين يؤكدون باستمرار أنهم فنانو الرسالة والمسؤولية؛ أبرزهم الفنان نعمان لحلو رئيس جمعية (نجوم مواطنة) التي تأسست هذه السنة والذي يعتبر رسالته هي الدفاع عن الوطن والأمة وخصوصًا داخل المؤسسات التعليمية. كما أن الجمعية تستلهم من تجربة فناني مصر ولبنان الذي استثمروا الفن للاستنهاض والتوعية والتحريض.

أ‌- صراع المهرجانات الموسيقية:
شهدت المدن المغربية خلال سنة 2010 مجموعة من المهرجانات الموسيقية أحدثت خلافات حادة في المجتمع بين من يعتبرها تضييعًا للأموال العمومية وترسيخ لنموذج فني ماجن وغير هادف، وبين من يعتبرها أداة للتنشيط السياحي والاقتصادي، بما توفره من مناصب شغل للشباب وبث للحيوية في الحركة الاقتصادية داخل المدن التي تحتضن هذه المهرجانات.
وقد أثار حضور مغني البوب البريطاني إلتون جون إلى مهرجان الرباط جدلا شعبيًا وسياسيًا واسعًا؛ حيث عارضت الحركات الإسلامية دعوته إلى المغرب لأسباب دينية وسياسية وأخلاقية؛ فإلتون جون معروف بموالاته لإسرائيل وبشذوذه الجنسي كما عرف بتهجمه على السيد المسيح. ونالت انتقادات الإسلاميين فنانين من بلدان عربية مختلفة كتامر حسني وإليسا وكارول سماحة ونوال الزغبي والشاب خالد. ورغم ما اكتنف أجور هؤلاء الفنانين من تكتم إلا أن وسائل الإعلام المغربية تناقلت مبالغ ضخمة خصوصًا للفانين الأجانب مع تهميش كبير للفنانين المغاربة خصوصا ذوو التوجه الرسالي الملتزم كعبد الهادي بلخياط ومجموعة ناس الغيوان ومجموعة إزنزارن الأمازيغية.
وانتقدت المعارضة البرلمانية المغربية ممثلة في حزب العدالة والتنمية الإسلامي هذه المهرجانات، ودافعت عن حق البرلمان المغربي في مساءلة المسؤولين حول مضمون الأنشطة الفنية والمهرجانات، كما ترى بأن للبرلمان حق المراقبة، وهو الأمر الذي رفضته بعض النقابات الفنية، مع الاحتفاظ للبرلمان بالحق في وضع قوانين متوافق حولها تنظم الأنشطة الفنية، وتمنع خدش الحياء العام أو المس بالمقدسات. وكان البرلمان المغربي قد شهد مناقشات حادة حول حفلات الفنانين الأجانب والعرب في المغرب خصوصًا من المعروفين، عند معارضيهم، بنشر الإثارة الجنسية والمس بالهوية الأخلاقية للمواطنين.
وهكذا عرف مهرجان مدينة الصويرة لكناوة وموسيقى العالم (مدينة جنوب المغرب) غياب مجموعة من الفنانين العالميين الذي اعتادوا المشاركة في هذا المهرجان، ومن المنتظر أن تعرف هذه المهرجانات تراجعًا في المغرب لتكلفتها السياسية الباهظة على الدولة وعلى المنظمين.
وفي المقابل كان يستقبل الفنانون العرب الأصلاء بحفاوة كبيرة مثل المغني السوري صباح فخري الذي استقبلته مدينة فاس في مهرجانها للموسيقى العالمية العريقة والذي تنظمه مؤسسة “روح فاس”، وحدد المهرجان أهدافًا أساسية خلاصتها نشر ثقافة السلام والإخاء بين الشعوب. وتتخلل هذا المهرجان، على عكس المهرجانات الموسيقية الأخرى، لقاءات فكرية متنوعة تتناغم مع أهداف المهرجان في التعمق في الأجواء الروحانية واكتشاف العالم والتعرف على الدواخل. وشارك إلى جانب صباح فخري المغني الأمريكي “بين هاربر” صاحب الأسلوب الفني الذي يزاوج بين القيم والكلمة المعبرة، إضافة إلى فنانين من إفريقيا وإيران وأفغانستان ومنغوليا والأناضول وموسيقى وادي النيل من منطقة الأقصر المصرية الذين يغنون أغاني صوفية مصحوبة بنعمات المزمار.
وتبقى المهرجانات الموسيقية في عمومها في المغرب معبرة عن رغبة لوبي اقتصادي في نهب المال العام والمال الخصوصي وترسيخ ثقافة التسطيح والتجهيل وتعميق ثقافة الفرجة والفولكلور مع تسجيل ندرة مهرجانات المسرح والكاريكاتور والشعر وغيرها من ملتقيات الكلمة الهادفة.

ب‌- حرب الخمور في مغرب 2010 والصراع الثقافي بين المنطق التجاري والمنطق الديني الأخلاقي:
أظهرت إحصائيات مكتب الصرف (بنك رسمي مركزي) أن المغرب استورد من الخمور سنة 2009 ما قيمته 36 مليار سنتيم و595 ألف درهم[16]، بعد استيراده لـ16220 طنًا وبالمقابل صدر المغرب سنة 2009 ستة ملايير سنتيم ونصف من الخمور والمشروبات الكحولية، أي 4971 طنًا من هذه المواد. وأوردت وكالة الأنباء الأمريكية (أسوشتيد بريس) أنه من أصل 27 مليون زجاجة من الخمور ينتجها المغرب، تقوم أكبر شركة للخمر في المغرب (هولدينغ أبا هيبم زنيبر) بتصدير مليوني زجاجة فقط إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية[17].
وعرفت سنة 2010 حربًا شرسة حول قانونية بيع الخمور في المغرب. وقادت الأحزاب المحافظة في المغرب هذه الحرب خصوصًا حزب الاستقلال الذي يقود الحكومة المغربية، وحزب العدالة والتنمية، في المعارضة. وقد هدد عمدة مدينة فاس وهو من حزب الاستقلال بسحب رخص المؤسسات التي تبيع الخمور. وبسبب ذلك الإجراء عرف المغرب نقاشًا سياسيًا بمضمون ثقافي وأخلاقي حول قضية الخمور. ودخلت على خط النقاش السياسي الحركات الإسلامية مستندة إلى مواقف مؤسسات رسمية كرابطة علماء المغرب التي دعت منذ مؤتمرها التأسيسي سنة 1961 السلطة إلى الوقوف بصرامة ضد بيع الخمر وشاربيه، كما استنكرت في مؤتمرها منذ 1964 بيع الخمور في المغرب وترويجها، وطالبت بنزع الرخص لمن أعطيت لهم. كما طالبت بتحويل معامل إنتاج الخمور إلى معامل لعصر الفواكه، وشنت حملة شرسة على تناول الخمور في الحفلات الرسمية التي يحتفى فيها بالأجانب، بل طالبت في مؤتمرها التاسع سنة 1984 بمنع استيراد الخمور وإخضاع الأجانب لقانون المنع وتزعم هذه الحملة في الستينيات والسبعينيات كبار علماء المغرب كعبد الله كنون وعلال الفاسي في كتابه (النقد الذاتي). وأصدر المفكر المغربي أحمد الريسوني، عضو المجمع الدولي للفقه الإسلامي بجدة، فتوى حرَّم فيها التسوق من المحلات التجارية التي تبيع الخمور.
وعرف المغرب تظاهرات عديدة ضد بيع الخمور، واعتمدت الحكومة المغربية على زيادة جديدة على ضريبة الاستهلاك الداخلي مست الخمور والمشروبات الكحولية في خطوة اعتبرها بعض المحللين إرضاء للإسلاميين وخوفًا من تأليبهم للشارع المغربي عليها. وفي مقابل هذه الحملة والإجراءات انتقدت مؤسسة علمانية تدعى (بيت الحكمة) فتوى أحمد الريسوني وكذا إجراءات الحكومة، داعية إلى إلغاء قانون “منع بيع الخمور للمسلمين”، مفسرة ذلك بأن استهلاك الخمور بالمغرب يدخل في باب “الحريات الفردية الأساسية” التي لا مجال فيها لتدخل السلطة أو غيرها بالردع أو بالمنع أو المصادرة.
واعتبر دعاة رفض بيع الخمور من يسمونهم “أنصار الخمر” بتهديد أمن المجتمع الروحي وأخلاقه وخرق الدستور المغربي. كما دخل عل الخط مثقفون وجامعيون، من وجهات نظر مختلفة، اعتبروا أن موضوع الخمر تم تسييسه في المغرب، ويجب دراسة الموضوع من وجهة اجتماعية ونفسية وثقافية تعتمد التوعية وإبراز مخاطر الخمور على المجتمع. وما زال الواقع الثقافي في المغرب منقسمًا في هذا الموضوع بين أغلبية، بغض النظر عن منطلقاتها، تؤمن بخطورة الخمر على الناس، وبين أقلية ذات توجهات علمانية تلح على أن المجتمع المغربي مؤهل ليختار ما يريد في إطار “الحريات الفردية الأساسية” بعيدًا عن الوصاية الثقافية والدينية للإسلاميين والمتحالفين معهم من المحافظين.
ويبقى النقاش الثقافي مستمرًا حول الخمر، يختزل صراعًا عميقًا في الرؤى والتصورات وأنماط النظر إلى الحياة والمجتمع. وتبقى لوبيات الكحول في المغرب من المؤسسات التجارية ذات يد طولى وإمكانيات كبيرة لإجهاض حتى النقاش الفكري حول الخمور في المغرب، مع العلم أن الجميع يعرف أن حوادث السير تحصد سنويًا 4 أربعة آلاف قتيل وآلاف الجرحى في المغرب بمعدل 10 عشرة قتلى وألفي جريح كل يوم حسب المعطيات الرسمية، وهي من بين المعدلات العليا عالميًا بحسب تقارير لجنة الوقاية من حوادث السير بالمغرب، كما لا تخفى العلاقة الوطيدة بين حوادث السير المميتة وتعاطي الكحول. ويبقى النقاش الثقافي والسياسي والحقوقي حول الخمور مدخلا أساسيًا لولوج امتحان تجارب ناجحة في مكافحة الخمر ومنعه، بعد محاصرة الخطاب الداعي إلى التطبيع مع الخمر ورفع الحظر القانوني عن استهلاكه؛ فالخطاب العلماني حول الخمر في المغرب بقي، ربما من دون وعي، أسيرًا للسياسات التجارية للشركات المنتجة للخمور، ما يتطلب مراجعة فكرية شجاعة في هذا الخطاب بما يحقق التنمية في المغرب وغيره من البلاد العربية والإسلامية.

4- سؤال اللغة والتعدد اللغوي في مغرب 2010:

وجه أستاذان جامعيان بكلية ابن مسيك التابعة لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء رسالة[18] إلى رئيسة الجامعة الباحثة الاجتماعية الدكتورة رحمة بورقية، تختزل الصراع اللغوي الذي عاشه المغرب ويعيشه إلى اليوم. فقد عبرا عما تعانيه اللغة العربية من تجاهل مستمر في الإدارة، كما حمَّلا رئيسة الجامعة مسؤولية فرنسة العديد من التخصصات التي كانت تدرس باللغة العربية ومنها علم الاجتماع والجغرافيا. فاللغة العربية في المغرب، بحسب الرسالة، لا تواجه تحديات العولمة، بل تواجه حرب فرنكوفونية داخلية تعمل على تقليص مساحاتها؛ فرئاسة الجامعة مثلا تراسل الشعب والمسالك والأساتذة باللغة الفرنسية، إضافة إلى تدعيم البحث بالفرنسية وحسب. كما أن الموقع الالكتروني للجامعة بالفرنسية، ولا يعلن إلا عما كتب بالفرنسية. وتلح الرسالة على أن الجامعة مغربية والأساتذة مغاربة. ويشتغل كاتبا الرسالة في كلية الآداب التي تعطى فيها جل الدروس باللغة العربية، ورغم ذلك تصر رئيسة الجامعة على المراسلات الإدارية بالفرنسية! بغرض إدامة هيمنة الفرنسية وطمأنة المستفيدين من هذه الهيمنة. ووزارة التعليم نفسها تراسل الجامعات المغربية بالفرنسية، كما أن القانون المنظِّم للجامعات مكتوب بالفرنسية. وهذا، بنظر الرسالة، خرق سافر للدستور؛ إضافة إلى المرسوم الذي أصدره الوزير الأول المغربي سنة 2008، والمرسوم الذي صدر قبله في حكومة الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، والقاضي بضرورة استعمال اللغة العربية في التواصل داخل الوزارات والإدارات والمؤسسات العمومية للدولة. وهذا يتناقض، بنظر المهتمين بالموضوع، مع سلوكات بعض الوزراء الذين يستعملون اللغة الفرنسية حتى في لقاءات المجلس الوزاري.
وتأسست في المغرب “الجمعية الوطنية لحماية اللغة العربية” يترأسها رئيس شعبة اللغة الفرنسية بجامعة محمد الخامس في الرباط، للدلالة على أن المعركة اللغوية في المغرب خصوصًا بين العربية والفرنسية هي معركة ثقافية وسياسية وحضارية. فالدفاع عن اللغة العربية، بنظر الجمعية، هو دفاع عن الأمن اللغوي للوطن وتعميق التفكير الوحدي العربي في ارتباط وثيق مع النسيج المغربي المتنوع. والتمكين للغة العربية يعني احتراماها تداولا وقواعد واستعمالا في الإدارة ومراكز القرار دون إلغاء التنوع الثقافي واللغوي والإقليمي الذي يعرفه المغرب؛ ذلك أن الهوية المغربية هوية متعددة الأبعاد؛ إلا أن بروز التيار الأمازيغي، في شقه العلماني والفرنكوفوني، حول النقاش عن الأمازيغية من إغناء الهوية المغربية إلى عامل في التدافع الهوياتي في المغرب. وهذا يبرز في التوجهات الكبرى للحركة الأمازيغية ذات التوجه العلماني ويمكن اختصارها في النقط الآتية:
‌أ- تفضيل المرجعية الدولية على المرجعية الإسلامية.
‌ب- الدعوة الصريحة إلى العلمانية.
‌ج- إحداث تعارض متوهم بين الأعراف الأمازيغية والمرجعية الإسلامية في مجالات الأسرة والمجتمع وما يتعلق بهما من تشريع وقواعد منظمة للحياة.
‌د- مناهضة البعد العربي في الهوية المغربية بالترويج لقراءات تاريخية مزورة ومتحيزة، والتلويح عند بعض الغلاة الأمازيغ بأن العرب مجرد غزاة يتوجب عليهم العودة إلى الشرق، مع التمركز حول البعد الأمازيغي وحده في الهوية المغربية.
‌ه- اعتبار الحركة الأمازيغية عنصر صد وتوازن مع الحركة الإسلامية.
‌و- إهمال قضايا الأمة الإسلامية، بل قد يصل الأمر عند بعض الغلاة الأمازيغ إلى مستوى دعم التطبيع مع الكيان الصهيوني من خلال تنظيم سفريات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما تأسست في جنوب المغرب جمعية سوس العالمة للصداقة الأمازيغية-الإسرائيلية، تعرضت لمحاصرة شعبية وأهلية شديدة ولم تستطع تنظيم ولو نشاط واحد منذ إحداثها في إحدى الصالات سنة 2007.

وتبقى أغلب هذه الحالات فردية ومعزولة ومحدودة الانتشار مع تنامي مد إثني شعبوي وتلقائي غير منظم أمام حالة تعدد شديد ومتناقض في الوسط الجمعوي الأمازيغي؛ إذ تتجاوز الجمعيات الأمازيغية في المغرب 700 جمعية يشتغل أغلبها في المجال الثقافي العام، مع وجود مؤسسات أخرى ذات طابع حقوقي مثل: “الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة” و”المرصد الأمازيغي للحقوق والحريات”، و”العصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان”. وعرف المغرب تأسيس تنظيم سياسي يدعى “الحزب الديمقراطي الأمازيغي” لم يرخص له، إضافة إلى وجود تنظيم دولي فيه مغاربة وجزائريون يسمى “الكونغرس الأمازيغي العالمي”. وأغلب هذه الجمعيات الحقوقية ذات توجه علماني يلح في مذكراته المطلبية على مراجعة التشريعات الوطنية لملاءمتها مع التشريعات الدولية لحقوق الإنسان، وإزالة كل النصوص المكرسة للتمييز ضد الأمازيغية في التشريع المغربي، وإقرار دستور ديموقراطي يفصل السلطة والدين عن السياسة والدولة، بل ذهب البعض إلى الحديث عن جوهر أمازيغي للثقافة المغربية، وأن بقية الأبعاد مجرد عناصر وافدة.
وجاء إحداث مؤسسة رسمية تعنى بالشأن الأمازيغي وهي “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” لاختيار نهج معتدل ومتناغم مع الأبعاد المتعددة للهوية المغربية وهي البعد الأمازيغي والبعد الإسلامي والبعد العربي والبعد الإفريقي والبعد العالمي. يضاف إلى هذا أن تجربة تدريس الأمازيغية في بعض المؤسسات التعليمية أثبتت أن الأمازيغية ليست لغة واحدة بل لغات متعددة، لكن الخطاب الإيديولوجي الأمازيغي مافتئ يتحدث عن لغة واحدة موحدة، وهي في الحقيقة لغة افتراضية بتعبير المفكر اللساني المغربي محمد الأوراغي. وقد اختير التعليم والإعلام كمدخلين أساسيين لإدماج الأمازيغية في منظومة الدولة في إطار تنشئة اجتماعية موحدة ومتناسقة[19].
ويبقى الازدواج اللغوي أمرًا ملحوظًا في مغرب 2010؛ إذ بدأ النقاش يشتد حول توحيد اللغة، واعتماد اللغة العربية بشكل عملي وواقعي وملموس لغة العلم والمعرفة والتعليم والإدارة والبحث أمام الانحسار الشديد الذي تعاني منه اللغة الفرنسية في المجال التداولي العالمي، الأمر الذي تعترف به المؤسسات الفرنكوفونية العالمية؛ فقد تقلصت رقعة انتشار الفرنسية، وقل الناطقون بها وكذا مستخدموها في العالم خصوصًا في البحث العلمي والتواصل التجاري؛ وبدأت تفقد مواقع كثيرة أمام الانجليزية والصينية والإسبانية والعربية والهندية. فقوة اللغة في الثقافة والعلوم التي تحملها، وفي قوة مجتمعها. وقد انتهى الزمن الذي تأتي فيه اللغة على دبابة مستعمر لتفرض نفسها على المستضعفين بقوة الحديد والنار؛ فالمتشبثون بالفرنسية اليوم في المغرب ليسوا إلا حاملي فيروس عبودية واستتباع أو حافظي مصالحهم المرتبطة باللغة الفرنسية، وهؤلاء يضعون مصلحتهم الذاتية هي العليا. كما أن الفرنسية في المغرب اليوم هي حاجز أمام العالمية، بتعبير المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز؛ إذ يرى أن مشكلة المغاربة لم تكن مع اللغة الفرنسية، “ولكن مع الفرنكفونية كإيديولوجيا وكأداة من أدوات تجديد السيطرة الثقافية واللغوية الاستعمارية على مجتمعاتنا”[20].
وتبقى اللغة العربية في وضعية غير مريحة بسبب التهميش والمهانة والنظرة الدونية خصوصًا من لوبي سياسي واقتصادي يحتل مواقع القرار في العديد من المؤسسات الرسمية.

5- الصدى العربي لموت محمد عابد الجابري، رحيل مفكر استثنائي:

هز خبر موت محمد عابد الجابري الرفاق والأهل والأحباب والأصدقاء وكل التيارات الفكرية والسياسية والشبابية في المغرب في ذلك الصباح من يوم الاثنين 03 ماي 2010، فتحول بيته المتواضع في إحدى أحياء الدار البيضاء إلى محج للجميع. رحل وهو الذي أصر على كتابة مقاله “حديث الأربعاء” الذي نشر في موقعه الالكتروني، ثم جلس في لقاء حميمي مع أقربائه إلى وقت متأخر من الليل يناقش قضايا الفكر والتجديد قبل أن يخلد إلى نوم دائم دون سابق إعلان إثر نوبة قلبية.
مات الجابري الذي كان معلمة مغربية وعربية وإسلامية، وكان نموذج المفكرين من الجيل الجديد الذين أحيوا عهد الموسوعيين، وهم القادرون على الجمع في عملهم العلمي بين تخصصات مختلفة؛ والجابري كان يعمل على حدود العلوم، ويستثمر جزءًا من أرض العلوم المجاورة، ويضع قدمين على أكثر من تخصص، وهو يشتغل بناء على القاعدة الطبيعية التي تعتبر منجم الذهب موجودًا دائمًا بقرب المناجم الأخرى. وعرف الجابري بثقافته الموسوعية؛ فهو لا يؤمن بالاحتماء تحت سقوف التخصصات، ولذلك كانت شهرته خارج تخصصه. وعليه كان الجابري يحاضر في الرياضيات ونظرية الطبيعة، والميتودولوجيا، والجغرافيا الطبيعية، والمنطق، والميتافيزيقيا، والفلسفة الأخلاقية، واللاهوت الطبيعي، والدراسات الإسلامية، وعلوم التربية. وأظهر رحمه الله، قدرة على استثمار تخصصات مختلفة لتشييد بناء فكري ونقدي ومعرفي متكامل.
كان منغمسا في العمل السياسي إلى حدود الثمانينيات ليطلق السياسة بما هي شأن حزبي دون أن يودعها بما هي شأن عام. وظل يدعو إلى الكتلة التاريخية، وهي تكتل قوى الأمة المؤمنة بالمشروع الوحدوي العربي الإسلامي. وبقي الجابري ضمن الأموات الذين كان لهم بعد تاريخي كبير، والتزام لصالح الديمقراطية والتقدم الاجتماعي لبلده بحسب نعي الجريدة الإسبانية (إيل باييس 9 ماي 2010) للجابري.
وقد نعاه المفكر المصري حسن حنفي في مقالة بعنوان “صديق العمر”، واعتبر مشروعه “نقد العقل العربي” من أهم أربعة مشاريع فكرية في العالم العربي اليوم إضافة إلى مشروع حسن حنفي “التراث والتجديد”، و “التراث والثورة” للطيب تيزيني، و”نقد العقل الإسلامي” لمحمد أركون. فالجابري، بنظر حنفي، أصبح يمثل الفكر العربي المعاصر، بجمعه في ثلاثيته في نقد العقل العربي بين كانط في “نقد العقل الخالص” وهيجل في “ظاهريات الروح”؛ أي العقل النقدي والعقل التاريخي.
وكتب عن رحيل الجابري المفكر السوري طيب تيزيني مقالة بعنوان “صفحة هامة طويت” أكد فيها أن رحيل الجابري يُشكِّل له صدمة كبيرة وعميقة رغم التباعد الذي حصل بينهما منذ أن تعارفا في تونس لمدة ثلاث ساعات. وكان الجابري حافزًا للطيب تيزيني في التوغل في القضايا التي طرحها، ويعتبر نفسه طرفًا في طرحها، لأن الجابري كان يتوجه إليه بالنقد في أبحاث كثيرة كتبها. كما نشرت صحيفة (الخليج) الإماراتية ملفًا وفاء لمسار الفقيد، أوردت فيه شهادات لمثقفين عرب عن وفاة الجابري؛ إذ وصفه المفكر المصري اللامع المستشار طارق البشري بأنه “من كبار المفكرين الذي تركوا فكرًا مدروسًا وممنهجًا، له وجهات نظر ذات شأن” وبات من الضروري، بنظر المستشار البشري، “التواصل مع هذا الفكر بإقامة ندوات لدراسته، وإعادة إصدار كتبه ومؤلفاته، وأن تحظى باهتمام من المفكرين والكتاب في الوطن العربي”.
ووصف محمد سلماوي الأمين العام لاتحاد الكتاب العرب رحيل الجابري بالخسارة الكبيرة للكتاب والمفكرين العرب، ويرى الروائي المصري يوسف العقيد أن اسم الجابري ارتبط بطرح أسئلة العصر على التراث؛ فقد طرح أسئلتنا جميعًا كما أحيا قيمة العقل في التفكير العربي. أما المفكر الموريتاني ولد باه فيري في الجابري نموذجًا واضح التفكير وواسع الاطلاع وصاحب عقل منطقي ضارب في العمق والرجاحة. كما خصصت جريدة “الصباح” التونسية ملفًا لرحيل الجابري، وهو الذي كان يكتب فيها مقالا أسبوعيًا يحلل فيه جملة من القضايا والمواضيع الإسلامية، وأشارت الجريدة في تقديم الملف إلى أن رحيل الجابري جاء “بعد نحو نصف قرن من الإنتاج الفكري والثقافي، من دون كلل أو ملل، فكان مع كل إنتاج يضيء شمعة جديدة في ظلمة الفكر العربي المعاصر”.
وأكد اتحاد كتاب مصر أن رحيل الجابري خسارة للفكر العربي؛ وقال السيد عيد نائب رئيس الاتحاد بأن المرحوم الجابري كان أحد المفكرين الذين “تعتز بهم الثقافة العربية ونعتز بهم في مصر”. وكتبت جريدة “القبس” الكويتية عن وفاة الجابري واعتبرته مفكرًا مرموقًا. كما جاء في مجلة “الشروق الجديد” المصرية: “مات محمد عابد الجابري، مات أحد أهم العقول العربية في وقتنا الحاضر، مات أحد أفضل من تعامل مع التراث الديني”.
أما المفكر السوري صادق جلال العظم فقد صرح للإذاعة الألمانية “ويتشه فيله” أن الجابري أوجد توازنًا في الفكر العربي بين المشرق والمغرب العربيين مذكرا بالمساجلات التي دارت بين الجابري وجورج طرابشي، والتي تذكر بالمناظرة التاريخية التي جرت بين الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب. ومعلوم أن ترجمة كتاب “نقد العقل العربي” بالألمانية سنة 2009 أثارت نقاشًا في الأوساط الإعلامية والثقافية والفكرية الألمانية احتضنت إحدى حلقاته “دار ثقافات العالم” في برلين. كما نعى الجابري المفكر التونسي هشام جعيط واعتبر وفاته نكبة للفكر العربي والإسلامي.
ولم يفت المفكر السوري جورج طرايشي نعي الجابري وهو الذي ساجله طويلا من خلال كتابه (العقل المستقيل في الإسلام) (صدر عن دار الساقي سنة 2004)، والذي استغرق منه مشروع الجابري حوالي ربع قرن في الاطلاع والتتبع والنقد. وذكر بأن الجابري حفزه على تحقيق نقلتين في حياته الفكرية؛ الأولى: نقله من الأيديولوجيا إلى الابستمولوجيا، والثانية إعادة بناء ثقافته التراثية خصوصًا في العلوم الإسلامية. كما أن دور الجابري، بنظر جورج طرابشي، يتمثل في عمله البحثي عن مفهوم العقل في التراث والمساهمة بحفرياته النقدية في تقصي أصول العقل ومساره التاريخي ومآلاته.
وخصصت أغلب الصحف اللبنانية حيزًا مهمًا لوفاة الجابري؛ ففي مقال تحت عنوان: “مشروع بحجم دولة” كتب الأديب اللبناني عباس بيضون المشرف على القسم الثقافي بجريدة (السفير) اللبنانية، أن الجابري صار له في كل جامعة وبلد مريدون بقدر ما صار له من خصوم ومخالفين، وأن فكره ساد على حقبة الثمانينيات في العالم العربي حتى أصبح سلطة فكرية وثقافية راسخة. كما اعتبر مشروعه نظيرًا إيديولوجيًا للدولة القومية. أما الكاتب اللبناني علي حرب فذكر أن الجابري دشن في الفكر العربي انفجار المشاريع النقدية. وذهب الكاتب والمترجم التونسي الطاهر لبيب مسؤول المنظمة العربية للترجمة إلى أن الجابري ذهب وترك خلفه جيلا يتآكل، وهو الذي علمنا الجمع بين المعرفة والتواضع والتعلق بالأمل بغد يأتي.
كما كتب المحرر الثقافي بصحيفة (المستقبل) يقظان التقي أن الجابري خلَّف وراءه مسيرة حافلة بالعطاء بهمومها الفكرية ورؤاها المقلقة، وهو الذي جعل من الجدلية الفكرية منهجية وجوهر ممارسته للكتابة والبحث. كما خصصت صحيفة (الأخبار) اللبنانية صفحتيها (ثقافة وناس) للحديث عن رحيل الجابري، ونقل آراء ومواقف وشهادات الكثير من المثقفين حول الجابري ومشروعه الفكري. أما المفكر اللبناني رضوان السيد فقد اعتبر الجابري صاحب الدور الكبير في ترسيخ التيار البرهاني في الفكر العربي الحديث، وخصوصًا في المغرب، وأن أثره بالغ القوة والاتساع بين شباب الباحثين وكهولهم، وهو محايد في شخصيته، أراد ختم حياته بتفسير القرآن الكريم رغم أنه لم يكن ضمن أجندته البحثية كما ذكر في مشروعه النقدي “نقد العقل العربي”. ونعى المجلس القومي للثقافة العربية الجابري كمثقف عضوي في أوج عطائه الفكري؛ فقد شكلت وفاته فاجعة كبرى للثقافة العربية بكل أطيافها.
وتم إحداث مجموعة لأصدقاء الجابري على موقع (فايسبوك) يتضمن نبذة عن مساره الفكري والعلمي والسياسي، وتسلط الضوء على مكانته في الفكر العربي المعاصر. كما نعته المؤسسة العربية للديمقراطية بالدوحة وهو عضو مجلس أمنائها، ووصفته بفقيد الفكر والنضال من أجل الحرية.
ويبقى دور الجابري أساسيًا في التقريب بين الحداثيين والإسلاميين؛ إذ كانت له علاقات طيبة مع كل الأطياف الفكرية والثقافية؛ وقد التقى في جنازته بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء الإسلاميون واليساريون والليبراليون؛ بل أعطي لجنازته طابع رسمي؛ وألقى مستشار الملك محمد السادس رسالة تعزية من الملك وكلمة تأبينية في حق الفقيد ووصفه الملك بأنه أحد كبار المفكرين المغاربة، وأنه كان نموذجًا عاليًا في العصامية والجدية والاستقامة والعطاء الفكري المتنور. وأضاف العاهل المغربي في رسالته إلى أسرة الجابري أن الفقيد سيظل خالدًا في سجل الفكر المغربي والعربي.
ومعروف أن الجابري لم يكن مثقفًا رسميًا وكان ينأى بنفسه عن الاقتراب من الدوائر الرسمية؛ فقد اعتذر مرتين عن الترشح لجائزة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، والتي تبلغ قيمتها 100 ألف دولار، كما اعتذر عن قبول جائزة العقيد معمر القذافي لحقوق الإنسان، والتي تبلغ قيمتها 32 ألف دولار، كما اعتذر مرارًا عن قبول جائزة المغرب على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، كما رفض عضوية أكاديمية المملكة المغربية رغم إلحاح مستشار الملوك الثلاثة (محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس) الدكتور عبد الهادي بوطالب عليه أكثر من مرة، وهي عضوية يحصل صاحبها على أجر شهري ليس بالقليل. فالجابري اعتذر عن هذه الجوائز وفاء وليس تمردًا بتعبيره، وفاء لمسار فكري ونضالي وزهد صارم. وكانت آخر مقالة كتبها المرحوم الجابري هي “الاعتزال وهوية الدولة الأولى في المغرب” لفائدة جريدة الاتحاد الإماراتية، ونشرت في اليوم الموالي لوفاته.
ويبقى ما أثار انتباه المثقفين في وفاة الجابري هو صمت عبد الله العروي عن الحديث عن وفاته، ومعروف أن الفيلسوفين كان بينهما قلة تواصل وتناقض كبير على مستوى المشاريع الفكرية والنقدية؛ ففي وقت كان العروي يدعو إلى التعامل المفتوح مع الحداثة الأوروبية الغربية مادامت فكرًا إنسانيًا كونيًا متاحًا للبشرية جمعاء، كان الجابري، رحمه الله، يبلور أطروحة مضادة تقوم على مفاهيم الخصوصية العربية الإسلامية والكتلة الحضارية، وضرورة استنبات الحداثة من داخل التراث نفسه.

خاتمة:

لقد سعينا في هذا التقرير الشامل إلى اختيار ظواهر نموذجية تجسد الجدل الثقافي الذي عرفه المغرب سنة 2010؛ سواء من حيث نقد السياسة الثقافية العمومية التي تنهجها الحكومة والتي تعرضت لنقد عنيف من طرف الفاعلين الثقافيين بالمغرب إلى درجة تأسيس (المرصد المغربي للثقافة) يدعو إلى مقاطعة أنشطة وزراة الثقافة، أو من حيث صحوة مثقفين وسعيهم إلى التحريض الثقافي والبحث عن رهان ثقافي جديد لمغرب اليوم، أو من حيث الصراع على الخطاب الديني في المغرب عبر عمليات التنصير أو عبر الصراع حول الفتاوى الدينية والسياسية، وكذا اتخاذ المغرب كفضاء مناسب ومنفتح للترويج لمجموعات من المشاريع والأطروحات الفكرية، وكذا الصراع الثقافي على القيم من خلال حرب الخمور، وقضية التعدد اللغوي وهيمنة اللغة الفرنسية في الإدارة والمؤسسات الاقتصادية والمعاهد العلمية والتكوينية، هذه الهيمنة التي تختزل محنة المغرب مع الثقافة الامبريالية، والرغبة في فصله عن محيطه العربي والإسلامي وإلحاقه بالثقافة الفرنسية خصوصًا.
فالجدل الثقافي في المغرب يختزل المخاض الذي تعرفه البلاد من خلال التفاعل بين القيم والمجتمع في إطار المجال الحضاري؛ ومازال هذا الجدل الثقافي في حاجة إلى التخفف من الإيديولوجيات السياسية، والتحول إلى جدل فكري بأن يستخرج القوانين الذاتية لخصوصيات الثقافة المغربية العربية الإسلامية مثل ما أبدعه الفيلسوف الاجتماعي المغربي عبد الرحمن بن خلدون. فالأزمة الفكرية التي تعرفها الأمة اليوم، نعتقد بأن المجهود الثقافي المغربي قادر على المساعدة في حلها عبر نفاذ الجدل الثقافي بمنطق تحليلي إلى قوانين الحركة والصيرورة وبتداخل المحلي مع القومي والإسلامي والعالمي في سياق جدلي مثمر لا يعرف توقفًا ولا انقطاعًا. وهذا العمل يمكن أن تنجزه الكتلة التاريخية، بتعبير محمد عابد الجابري، وهي تجمع بين كل القوى الثقافية الوطنية والإسلامية، خصوصًا وأن منظومة القيم العلمانية الوضعية عجزت في المغرب عن ملء الفراغ لعدم امتلاكها لأية مشروعية دينية أو تاريخية أو اجتماعية أمام مد وطني وإسلامي مازال يشكل ظاهرة فكرية وسياسية وثقافية هي الوحيدة المتحركة لأحداث التغيير في وطننا العربي والعالم الإسلامي، مع تراجع بين القوى الليبرالية والشمولية وفقدانها للحاسة الاجتماعية والخلفية المحلية التداولية.
*****

الهوامش:

[1] – محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم في المغرب، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1973 ص 135.
[2] – المرجع السابق، ص 58.
[3] – المرجع السابق، ص 69.
[4] – المرجع السابق، ص 89.
[5] – انظر: محمد عابد الجابري، من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، الدار البيضاء، 1977.
[6] – ولد بمدينة مكناس سنة 1948، حاصل على الإجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع من جامعة السوربون بباريس سنة 1970، وعلى دكتوراه السلك الثالث سنة 1974، وعلى دكتوراه الدولة من الجامعة نفسها سنة 1983، مفكر وروائي وكاتب سيناريو؛ نشرت له أعمال فكرية وأدبية بالعربية والفرنسية، فاز بجوائز عدة؛ كجائزة الناقد للرواية (1990)، وجائزة الأطلس الكبير (2000)، وجائزة نجيب محفوظ (القاهرة 2002)، وجائزة الشارقة لليونسكو باريس 2003، وجائزة نجيب محفوظ (اتحاد كتاب مصر 2009م).
[7] – هذا ما أكده تقرير مفصل أنجزه الإعلامي المغربي الدكتور يحي اليحياوي وآخرون حول الصناعات الثقافية بالمغرب، انظر:
Industries culturelles au Maghreb: Réalisés et perspectives, Hassan EL OUAZZANI et Yahya EL YAHAOUI et autres.
[8] – عبد الواحد المهتاني، في الهندسة الثقافية، جريدة المساء المغربية، عدد 1042، الأربعاء 27 يناير 2010. ص 13.
[9] – تصريح الكاتب العام لوزارة الثقافة أحمد كويطع، في اليوم الدراسي الذي نظمته النقابة الحرة للموسيقيين، توفيق نادرير، جريدة المساء المغربية، عدد 1034، الاثنين 18 يناير 2010، ص 18.
[10] – فريد لمريني، المغرب الثقافي: الملامح الهاربة ورائحة الكون، ضمن: تقرير حالة المغرب 2009-2010، منشورات وجهة نظر، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء.
[11] – انظر: نبيل منصر، أسرار الصمت المغربي حول جائزة البوكر، مجلة أوال المغربية، عدد 6، دجنبر 2010، ص 42-43.
[12] – شاعر وكاتب مغربي باللغة الفرنسية، ولد سنة 1942 بمدينة فاس، أسس مجلة أنفاس سنة 1966، اعتقل سنة 1972 لأفكاره السياسية اليسارية، ولم يسترجع حريته إلا سنة 1980 على إثر حملة دولية واسعة. من أعماله: العين والليل (رواية)، وعهد البربرية (شعر)، أزهرت شجرة الحديد (شعر)، يوميات قلعة المنفى (رسائل سجن). وترجم عدة أعمال خصوصًا شعر المقاومة الفلسطينية، أشعار عبد الله زريقة، ومحمود درويش، وعبد الوهاب البياتي.
[13] – كاتب مغربي بالفرنسية، ولد سنة 1944 بفاس، اعتقل سنة 1966 لمشاركته في مظاهرات طلابية. درس الفلسفة في الرباط، ثم درسها إلى غاية 1971 حيث غادر إلى فرنسا وحصل على شهادة عليا في علم النفس. عمل كاتبًا مستقلا لجريدة لوموند، وبدأ ينشر الشعر والرواية. من أعماله: ليلة الغلطة 1996، وتلك العتمة الباهرة، وأن ترحل، وليلة القدر، وطفل الرمال.
[14] – ونسجل هنا اختلاف اللعبي والطاهر بن جلون عن سارتر في نزاعه مع ألبير كامو، وموقفه الملتبس من إسرائيل. انظر: محمد الهرادي، أي دور للمثقفين المغاربة، مجلة أوال، عدد 3، نونبر 2010، ص 42-43. وانظر: جيرار ليكلورك، سوسيولوجيا المثقفين، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى، بيروت، 2008، ص 115.
[15] – افتتحت سنة 1995م، تضم مسجدا ومرافق ثقافية وإدارية وتحتوي مكتبتها الضخمة على رصيد كبير من المخطوطات، وخاصة النادرة وآلاف الكتب القديمة والحديثة والمجلات المختلفة والوثائق. وتلعب المكتبة دورًا كبيرًا في التنشيط الثقافي بالمغرب، تصدر مجلة “دراسات تاريخية”.
[16] – دولار واحد يساوي 8 ثمانية دراهم، ودرهم واحد يساوي مائة سنتم.
[17] – جريدة الحياة الجديدة المغربية، عدد 89، بتاريخ 21-27 يناير 2010.
[18] – صحيفة الوطن الآن المغربية، العدد 366، بتاريخ 07 يناير 2010.
[19] – انظر: التقرير الاستراتيجي المغربي 2006-2010، مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، ص 335.
[20] – “اللسان الفرنسي، اضمحلال لغة”، عبدالاله بلقزيز، جريدة أخبار اليوم المغربية، العدد 182، بتاريخ 07 يوليوز 2010.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2011

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى