ردود الأفعال حول قرار ترامب.. محاولة للرصد والفهم

مقدمة

صدقت التوقُّعات التي وصفت ترامب بأن موقفه هو الأكثر وضوحًا بشأن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس(1)، فقد سبقه رؤساء أمريكيون -جمهوريون وديمقراطيون- أعلنوا عن عزمهم نقل السفارة أثناء حملاتهم الانتخابية، لكنهم لم ينفِّذوا هذه الوعود، حتى أعلن ترامب ذلك واصفًا نفسه بأنه “وعد فأوفى” على عكس من سبقوه. ونحاول في السطور التالية رصد مواقف الدول العربية والإسلامية والمواقف الدولية تجاه القرار الأمريكي، وسينصب التركيز بالأساس على المواقف الرسمية للدول، وتوجُّهات المنظَّمات الإقليمية والدولية، باعتبار القرار الأمريكي تسبَّب في اندلاع أزمة دولية جديدة يتعدَّد فيها الفاعلون المؤثرون، وعلى رأسها الدول والمنظمات الإقليمية والدولية.

أولًا- المواقف الرسمية العربية

1- فلسطين
أدانت كافة الأطياف الفلسطينية القرار الأمريكي، وأكَّدت حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني في بيان لها، رفض واستنكار الإجراءات الأميركية التي أعلن عنها ترامب، إذ قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة، يوسف المحمود، إن “الشرعية الدولية تتحدَّث عن مدينة تحت الاحتلال وهي عاصمة دولة فلسطين، ولا تتحدَّث عن جواز منحها للآخرين بواسطة خطاب يلقيه ترامب، هذا أمر لم يحدث في تاريخ الدول ولا في تاريخ البشرية إلا في الفترات الأشد ظلامًا”(2).
ووصف خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية(3) القرار بأنه يؤسِّس لنهاية مرحلة سياسية وبداية أخرى، وذكر فيه أن “الانحياز السافر من الإدارة الأمريكية للعدوِّ الصهيوني، وهذا التحالف الشيطاني الذي يقرِّر وحده مصير القدس ومكانة القدس، يستوجب منَّا وضوحًا كالشمس وقولًا لا لبس فيه ولا تأويل ولا غموض، ليؤكِّد اليوم بأن القدس موحَّدة لا شرقية ولا غربية، هي فلسطينية عربية إسلامية، وهي عاصمة دولة فلسطين كل فلسطين”، ودعا إلى اتِّخاذ عدَّة مواقف وقرارات، منها التحلُّل من اتفاقية “أوسلو” وإعلان وفاة عملية التسوية، والإسراع في خطوات المصالحة الفلسطينية، وإطلاق شراراة انتفاضة ضد الاحتلال، ورفع العقوبات عن غزة، وإيقاف التنسيق الأمني مع الاحتلال في الضفة الغربية.
2- مصر
قبل إعلان ترامب بيومين أجرى سامح شكري وزير الخارجية المصري اتصالًا هاتفيًّا(4) بوزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون تناول مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، وتطورات الأوضاع الإقليمية على خلفية ما تردَّد إعلاميًّا وقتها بشأن احتمالات إعلان اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وصرَّح أحمد أبو زيد -المتحدث الرسمي باسم الوزارة- بأن شكري تناول خلال الاتصال التعقيدات المرتبطة باتخاذ الولايات المتحدة مثل هذا القرار، وتأثيراته السلبية المُحتملة على الجهود الأمريكية لاستئناف عملية السلام.
وعقب إعلان ترامب رسميًّا؛ صدر بيان عن وزارة الخارجية عبَّرت فيه عن استنكارها لقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، ورفضها لأيَّة آثار تترتَّب على ذلك.
3- الأردن
أصدرت الحكومة الأردنية(5) بيانًا على لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة أعلن فيه رفض بلاده للقرار الذي يزيد التوتُّر ويكرِّس الاحتلال، ونبَّه إلى أن القرار الذي يستبق نتائج مفاوضات الوضع النهائي يؤجِّج الغضب، ويستفزُّ مشاعر المسلمين والمسيحيِّين على امتداد العالمين العربي والإسلامي.
4- السعودية
أصدر الديوان الملكي(6) في السابع من ديسمبر بيانًا ردًّا على القرار، جاء فيه: “تابعت حكومة المملكة العربية السعودية -بأسف شديد- إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها. وقد سبق لحكومة المملكة أن حذَّرت من العواقب الخطيرة لمثل هذه الخطوة غير المبرَّرة وغير المسؤولة، وتعرب عن استنكارها وأسفها الشديد لقيام الإدارة الأمريكية باتِّخاذها، بما تمثِّله من انحياز كبير ضدَّ حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والثابتة في القدس والتي كفلتها القرارات الدولية ذات الصلة وحظيت باعتراف وتأييد المجتمع الدولي”.
5- المغرب(7)
قبيل القرار بعث ملك المغرب -بصفته رئيسًا للجنة القدس المنبثقة عن “منظمة التعاون الإسلامي”- رسالةً إلى ترامب، جاء فيها: “أودُّ أن أنقل إلى فخامتكم انشغالي الشخصي العميق، والقلق البالغ الذي ينتاب الدول والشعوب العربية والإسلامية، إزاء الأخبار المتواترة بشأن نية إدارتكم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إليها، ولا يخفى على فخامتكم ما تشكِّله مدينة القدس من أهمية قصوى، ليس فقط بالنسبة لأطراف النزاع، بل ولدى أتباع الديانات السماوية الثلاث، فمدينة القدس، بخصوصيَّتها الدينية الفريدة، وهويتها التاريخية العريقة، ورمزيَّتها السياسية الوازنة، يجب أن تبقى أرضًا للتعايش، وعَلمًا للتساكن والتسامح بين الجميع”، مبيِّنًا أن هذه الخطوة ستؤثِّر سلبًا على آفاق إيجاد تسوية عادلة وشاملة للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وذلك اعتبارًا لكون الولايات المتحدة الأمريكية -على حدِّ قوله- أحد الرعاة الأساسيِّين لعملية السلام وتحظى بثقة جميع الأطراف.
أعقب ذلك استدعاء وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي(8) القائمةَ بأعمال السفارة الأمريكية وتسليمها رسالة عاهل المغرب إلى ترامب، واستدعى كذلك سفراء كل من روسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة المعتمدين في الرباط، باعتبارهم أعضاء دائمين بمجلس الأمن للأمم المتحدة، وذلك بحضور السفير الفلسطيني بالرباط جمال الشوبكي.
6- الجزائر(9)
جاء في بيان لوزارة الشؤون الخارجية الجزائرية: “لقد اطَّلعت الجزائر -بانشغال كبير- على قرار الإدارة الأمريكية المتضمِّن الاعتراف بالقدس الشريف عاصمة لإسرائيل”، وأضاف البيان أن الجزائر “تندِّد بشدَّة بهذا القرار الخطير باعتباره انتهاكًا صارخًا للوائح مجلس الأمن ذات الصلة والشرعية الدولية، وباعتباره يقوِّض إمكانيةَ بعث مسار السلام المتوقِّف منذ مدَّة طويلة”.
7- تونس
أصدرت وزارة الشؤون الخارجية التونسية بيانًا(10) أعربت فيه عن عميق انشغالها لما يمثِّله القرار من مساس جوهري بالوضع القانوني والتاريخي للمدينة، وخرقٍ لقرارات “الأمم المتَّحدة” ذات الصلة، وللاتِّفاقات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي التي تمَّت برعاية أمريكية، والتي تنصُّ على أنَّ وضع مدينة القدس يتمُّ تقريره في مفاوضات الحلِّ النهائي.
واستدعى الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، السفير الأميركي في تونس، لإبلاغه رفض القرار(11).
8- موريتانيا(12)
أصدرت الخارجية الموريتانية بيانًا استنكرت فيه القرار وعبَّرت عن رفضها المطلق لكل الآثار المترتبة على هذا القرار وما يعنيه من انتهاك للمشاعر باعتبار مكانة القدس الروحية والتاريخية لدى الشعوب العربية والإسلامية ومحبي السلام في العالم. وقالت إن “انتهاج الأحادية بواسطة القرارات المخالفة للشرعية الدولية لا يمكن أبدًا أن يغيِّر الوضعية القانونية لمدينة القدس الشريف التي تستند إلى جملة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن”.
9- السودان(13)
صرح السفير قريب الله خضر -الناطق الرسمي باسم الخارجية السودانية- بأن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل يعد استفزازًا لجميع أهل الديانات ويشكِّل تهديدًا للأمن والسلم الدوليِّيْن، وستكون له تداعيات خطيرة على أمن واستقرار المنطقة، وأن السودان يدين هذا القرار ويؤكِّد التزاماته وتضامنه الثابت مع الشعب الفلسطيني الشقيق في قضيته العادلة وحقه الشرعي في إقامة دولته الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
10- الكويت
اعتبرت وزارة الخارجية الكويتية اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها مخالفة للقرارات الدولية، وأعرب مصدر رسمي عن قلقه من التداعيات الخطيرة لهذا القرار بما يؤدِّيه من تقويض لمسيرة السلام، فضلًا عما يمثله من تهديد مباشر للأمن والاستقرار في المنطقة، التي تعيش وضعًا أمنيًّا صعبًا ودقيقًا.
11- البحرين
أصدرت وزارة الخارجية البحرينية بيانًا(14) أكَّدت فيه على أن قرار الإدارة الأمريكية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يهدِّد عملية السلام في الشرق الأوسط ويعطِّل جميع المبادرات والمفاوضات للتوصُّل إلى الحل النهائي المأمول، ويُعَدُّ مخالفة واضحة للقرارات الدولية التي تؤكِّد على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني وعدم المساس بها، وعلى أن القدس الشرقية هي أرض محتلة يجب إنهاء احتلالها
12- قطر
ذكر موقع وزارة الخارجية القطرية(15) رفض قطر التام لأي إجراءات تدعو للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأكَّد مصدر مسؤول بوزارة الخارجية، في تصريح لوكالة الأنباء القطرية، أن من شأن مثل هذه الإجراءات تقويض الجهود الدولية الرامية إلى تنفيذ حل الدولتين، وجدَّد المصدر موقف دولة قطر الداعم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق وفي مقدِّمتها إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشريف.
13- العراق
أصدرت الخارجية العراقية بيانًا على لسان المتحدث الرسمي باسمها(16) أكَّدت فيه موقف العراق الدائم والداعم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق وفي مقدِّمتها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وتُبيِّن رفض العراق حكومة وشعبًا للقرار، لما فيه من تَعَدٍّ على هوية المدينة وقيمتها الدينية والعقائدية لدى أبناء الديانات كافَّة والمسلمين خاصَّة، أعقب ذلك استدعاء السفير الأمريكي لتسليمه مذكرة احتجاج على القرار.
14- الإمارات
صرَّحت وزارة الخارجية والتعاون الدولي في بيان(17) لها أن مثل هذه القرارات الأحادية تعدُّ مخالفة لقرارات الشرعية الدولية ولن تغيِّر من الوضعية القانونية لمدينة القدس باعتبارها واقعة تحت الاحتلال ويعتبر انحيازًا كاملا ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والثابتة في القدس والتي كفلتها القرارات الدولية ذات الصلة وحظيت باعتراف وتأييد المجتمع الدولي، وأعربت الوزارة عن بالغ القلق من التداعيات المترتبة على هذا القرار على استقرار المنطقة لما ينطوي عليه من تأجيج مشاعر الشعوب العربية والإسلامية نظرًا لمكانة القدس في الوجدان العربي والإسلامي.
15- عُمان
عقب صدور القرار أعربت الحكومة العمانية(18) عن أسفها الشديد، وذكرت وكالة الأنباء العمانية أن سلطنة عمان تؤكِّد أن مثل هذا القرار لا قيمة له، وأن هذه المسائل يجب أن تُترك للأطراف الفلسطينية والإسرائيلية للتفاوض عليها في إطار مفاوضات الحل النهائي.
16- لبنان
أصدرت وزارة الخارجية والمغتربين(19) بيانًا صرَّحت فيه بأن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، والإذن بنقل سفارة بلاده إليها خطوة مدانة ومرفوضة تتنافى ومبادىء القانون الدولي وقرارات “الأمم المتحدة” ذات الصلة التي اعتبرت القدس الشرقية جزءًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، ورفضت وأدانت بشدَّة كل السياسات والإجراءات التي تؤدِّي إلى إجهاض حلِّ الدولتين وإلى تشويه هوية مدينة القدس العربية وكل محاولات تغيير الوضع التاريخي والقانوني للأراضي المقدسة، كما حذَّرَتْ من مخاطر ضرب قيم المحبَّة والتسامح بين أتباع الديانات السماوية.
بناءً على رصد المواقف السابقة يتَّضح أن ردود الأفعال لم تخرج عن الآتي:
– بيانات رسمية للتنديد بالقرار، والتحذير من عواقبه على عملية السلام، والتذكير بكونه مخالفًا للقرارت الدولية، ومعيقًا لحلِّ الدولتين، وهذا ما اشتركت فيه كلُّ الدول العربية بلا استثناء، وتشابهت الخطابات إلى حدٍّ كبير في التعبير عن مشاعر “الاستياء” و”الأسف” و”القلق”.
– استدعاء السفير الأمريكي وإبلاغه التنديد بالقرار، كما حدث في دول المغرب وتونس والعراق.
– طلب انعقاد جلسة استثنائية للمجلس الوزاري لجامعة الدول العربية، كما فعلت فلسطين والأردن وجيبوتي.
– الدعوة إلى انتفاضة جديدة والإعلان صراحةً عن انتهاء عملية التسوية، وهو ما أعلنته حركة “حماس” وحدها، خلافًا لباقي البيانات الرسمية التي جعلت قرارات عملية التسوية -التي لم يلتزم بها الجانب الإسرائيلي- معيارًا على عدم مشروعية قرار ترامب.
لعل مراجعة السياقات التي سبقت إعلان القرار تقودنا إلى أن الظروف الإقليمية أصبحت مواتية ومُهيَِّئة لمثل هذا القرار، ومن ثم فردود الأفعال الباهتة ليست بالغريبة، وإنما هي امتداد طبيعي لسياسات الأنظمة العربية في الفترة الأخيرة، لاسيما الدول الفاعلة التي يناط بها قيادة المنطقة كمصر والسعودية.
فعلى صعيد العلاقات المصرية مع إسرائيل(20) ليس من المبالغة القول إنها تشهد تعاونًا غير مسبوق، والأدلَّة تكثر على ذلك، منها تصريحات السيسي في “الأمم المتحدة” التي وجَّهها للشعب الإسرائيلي والقيادة الإسرائيلية بأهمية إيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية، وسحب مصر للقرار المقدَّم إلى مجلس الأمن الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة، ومنها على مستوى العلاقات الدبلوماسية لقاء السيسي بنتنياهو في سبتمبر 2017، واللقاءات المتعدِّدة التي جمعت السيسي ووزير خارجيته بقيادات “اللجنة الأمريكية اليهودية”، بالإضافة إلى استقبال شكري لوفد “الصندوق اليهودي المتَّحد” من الولايات المتحدة الأمريكية، وهي منظمة أمريكية غير حكومية يتشكَّل أغلب أعضائها من مسؤولين أمريكيِّين سابقين وأعضاء بالكونجرس ورجال أعمال في مجالات مختلفة.
وفي المقابل لم يَدَعِ الجانبُ الإسرائيليُ فرصة إلا أكَّد فيها دعمَه للنظام المصري ضدَّ “الإرهاب” بعد كل عملية تخريبية، في ظلِّ الحديث عن تنسيق مصري-إسرائيلي، مكَّن طيران الأخير من شَنِّ ما يقارب من مئة ضربة جوية داخل سيناء متخطيًا الحدود المصرية، ولم يعد هناك داع لوساطة أمريكية للتنسيق بين البلدين، بل العكس، فقد تساعد إسرائيل في تبرير المواقف المصرية لدى الإدارة الأمريكية.
ومن ناحية السياسات السعودية(21) فقد صار التهديد الإيراني مبرِّرًا لتحوُّل السياسات الإقليمية، بدايةً من التحالف السُّني الذي يعتبر إيران وأذرعتها في المنطقة -كحزب الله والحوثيِّين- الخطرَ الأكبر، وتسعى المملكة لتقود عملية السلام مع إسرائيل بدلًا من مصر أو بالتنسيق معها، سعيًا للحصول على رضا القيادة الأمريكية الجديدة، خاصَّة مع التغيُّرات الداخلية الجذرية التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، وذلك في إطار تكوين تحالف في المنطقة -قد يضم الكيان الصهيوني- في مواجهة إيران والحركات الإسلامية كذلك، من أجل الحصول على شرعية داخلية وإقليمية.
الفارق الكبير الذي نلمسه بين التصريحات الرسمية للحكومات والأنظمة العربية يجعلنا نستعير طرح أستاذ العلاقات الدولية جون ميرشايمر وهو يتحدَّث عن “الكذب في العلاقات الدولية”(22)، ويفرق بين نوعين: أولهما يُعرف بـ”الكذبة الاستراتيجية” والتي يستخدمها القادة ذريعة للحفاظ على مصلحة بلدانهم في وجه التقلُّبات السياسية مع الغير، وثانيهما يُعرف بـ”الأكاذيب الشخصية الأنانية” التي لا علاقة لها بمصلحة الدولة، ويزعم ميرشايمر الذي ركَّز في كتابه على الأكاذيب الاستراتيجية أن القادة -ويركِّز بالطبع على رؤساء أمريكا- لا يكذبون لأنهم ضعفاء أو فاسدون، بل لأن الكذب أحيانًا يكون وسيلة مفيدة للدول في عالم تتجاذبه المخاطر، والسؤال الذي نطرحه في سياق عرض مواقف الدول العربية ولن نجيب عليه، هل حقًّا يَصْدُقُ قادةُ الدول العربية وحكوماتها الرسمية في التصريحات والمواقف التي لم تثمر شيئًا منذ عشرات السنين، أم أنهم يلجؤون للأكاذيب الشخصية وهم يَعون جيدًا أن هذه المواقف لن تؤتي ثمارها!
يجب التأكيد هنا أن تلك الردود الرسمية بالإضافة إلى الأزمات الداخلية التي تعصف بشعوب المنطقة لم تمنعهم من التعبير عن تضامنهم الكامل والصادق أيضًا تجاه القضية الفلسطينية وتنديدهم بالقرار. ظهر ذلك في المظاهرات التي خرجت في شوارع القاهرة(23) بعد صلاة الجمعة من الجامع الأزهر، وعلى سلالم نقابة الصحفيين المصرية، رافعين لافتات وهاتفين بشعارات تندِّد بالقرار، ولعل هتاف “عيش.. حرية.. القدس عربية” يوضِّح أن حل القضية الفلسطينية يرتبط بالضرورة بنيل شعوب المنطقة العربية حريتها وتخلُّصها من الاستبداد.
كانت بداية التحرُّكات الشعبية بالتأكيد في فلسطين المحتلة، فقد تدفَّقت المظاهرات في رام الله وبيت لحم والخليل، واندلعت مواجهات مع قوات الاحتلال التي استخدمت فيها الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والمطاطي في مواجهة شُبَّان يرمون حجارة ويشعلون الإطارات المطاطية.
كذلك خرجت مظاهرات في الأردن والسودان والمغرب وتركيا، وكذلك إندونيسيا وماليزيا، وتظاهر مئات الفلسطينيِّين والعرب والأتراك وسط مدينة شتوتجارت الألمانية، ونظَّم محتجُّون اعتصامًا أمام السفارة الفلسطينية في موسكو احتجاجًا على القرار، وهتف بعض الحضور بشعارات المقاومة والكفاح المسلَّح.

ثانيًا- ردود فعل دول الجوار

1- تركيا

صرَّح(24) المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية التركية أن اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس لإسرائيل، يعتبر في حكم الملغي بالنسبة لأنقرة، وأنه تصرُّف غير مسؤول، وصرَّح أردوغان(25) قائلًا: “القدس تعتبر مكانًا لعبادة المسلمين والمسيحيِّين واليهود بشكل عام، إلا أن الطابع الإسلامي هو الأكثر ظهورًا، حيث إن “الأقصى” كان القبلة الأولى للمسلمين، وإن اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل يُلقي بالمنطقة والعالم داخل حلقة من نار، لافتًا إلى أن القادة السياسيِّين يعملون لأجل الإصلاح، وليس لإثارة الفوضى”، ودعا أردوغان لعقد قمة استثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول لبحث تداعيات القرار الأمريكي وكيفية مجابهته.

2- إيران

أصدرت الخارجية الإيرانية بيانًا(26) ردًّا على القرار أكَّدت فيه أن القدس “جزء لايتجزَّأ من فلسطين، وإحدى أهم الأماكن الإسلامية الثلاثة المقدسة وتتمتَّع بمكانة وأهمية خاصَّة لدى المسلمين”، ووصف البيان قرار ترامب بأنه “تحريضي وغير حكيم، وأنه لا يهدِّد فقط الأمن والاستقرار بالمنطقة بل يفضح النوايا الأمريكية السيِّئة”.

ثالثًا- ردود فعل الدول الأوروبية(27)

أحدث قرار ترامب شرخًا في التحالف المعتاد بين ضفَّتي الأطلسي، فقد كان رفض القرار والتنديد به هو الموقف السائد بين الدول الأوروبية منفردة أو مجتمعة في الاتحاد الأوروبي، فقد صرَّحت ميركل قائلة: “لا نوافق على قرار ترامب بشأن القدس”، وذكرت أنها تتمسَّك بقرارات الأمم المتحدة التي “توضِّح أنه يتعيَّن التفاوض على وضع القدس ضمن مفاوضات حلِّ الدولتين، ولهذا نريد إعادة إحياء عملية السلام على هذا الأساس”، وكذلك وصفت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قرار ترامب بأنه “لا يساعد آفاق السلام في المنطقة”، وأن “السفارة البريطانية ستظل في تل أبيب، وليست لدينا خطط لنقلها إلى مكان آخر”.
الجدير بالذكر أن وزير خارجية ليتوانيا كان قد دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى زيارة الاتحاد الأوروبي في بروكسل بشكل منفرد، وهي الزيارة الأولى لرئيس وزراء إسرائيلي منذ 22 عامًا، وهو ما أثار الغضب داخل المنظمة، مما دفع مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية إلى دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى زيارة مماثلة في يناير، وكانت فيديريكا موجيريني قد أعلنت معارضتها للقرار وأن موقفها يحظى بتأييد جميع وزراء الخارجية في الدول الثماني والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وشدَّدَتْ على أن “السياق العام هشٌّ للغاية، وأن إعلان القرار ينطوي على احتمال العودة بالمنطقة إلى حقبة أكثر ظلامية ممَّا عايشناها من قبل، وقد أبلغت موجيريني وزيرَ الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، خلال اجتماعهما في بروكسل عشية خطاب ترامب “بأننا نؤمن أن الحل الواقعي الوحيد للنزاع بين إسرائيل وفلسطين يقوم على أساس وجود دولتين مع اعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل وعاصمة لفلسطين”، وحذَّرت من مغبَّة “تصعيد التوترات في المناطق القريبة من المواقع المقدسة وفي المنطقة أيضًا بسبب أن ما يحدث للقدس يهم كل المنطقة وكل العالم”.

رابعًا – ردود أفعال المنظمات الإقليمية والدولية

1) جامعة الدول العربية

كانت تصريحات(28) أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية هي أول رد فعل رسمي للجامعة عقب قرار ترامب، وحملت تصريحاته عدَّة رسائل تحمل استنكارًا لقرار ترامب، وتأكيدًا على مكانة مدينة القدس في قلوب العرب جميعًا مسلمين ومسيحيِّين، مذكِّرًا بمخالفة تلك الخطوة لقرارات مجلس الأمن والقانون الدولي، مناشدًا كافَّة زعماء العالم المحبِّين للسلام الإسراع بالتواصل مع الولايات المتحدة لتجميد تطبيق هذه الخطوة المشؤومة.
رافق ذلك اجتماع لمجلس الجامعة على المستوى الوزاري في التاسع من الشهر ذاته بمقر الأمانة العامة في القاهرة بناءً على طلب من دولتي الأردن وفلسطين لبحث تداعيات القرار الأمريكي، أكَّد فيه على التمسُّك بقرارات مجلس الأمن التي تجعل القرارت أحاديَّة الجانب لن تُوجِدَ حقًّا ولن تُنشئ التزامًا، ومن أبرز ما قرَّر البيان:
1- رفض القرار الأمريكي باعتباره خرقًا للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، وهو ما يؤدِّي إلى تعويق جهود تحقيق السلام، ويهدِّد بدفع المنطقة إلى هاوية المزيد من العنف والفوضى وإراقة الدماء.
2- التحذير من المحاولات الإسرائيلية العبث بالقدس ومحاولة تغيير الهوية العربية للمدينة، والاعتداء على مقدَّساتها الإسلامية والمسيحية.
3- مطالبة الولايات المتحدة بإلغاء القرار، والعمل مع المجتمع الدولي على إلزام إسرائيل تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967.
4- العمل على استصدار قرار من مجلس الأمن يؤكِّد على بطلان القرار الأمريكي، وانعدام أثره القانوني.
5- تكليف لجنة مبادرة السلام العربية بتشكيل وفد من أعضائها للتواصل مع المجتمع الدولي والمؤسَّسات الدولية للحدِّ من التَّبِعات السلبية للقرار الأمريكي، والعمل على إطلاق جهد فاعل ومنهجي للضغط على إسرائيل لالتزام قرارات الشرعية الدولية.
6- التنسيق في ضوء هذا القرار مع “منظمة التعاون الإسلامي” و”الاتحاد الأفريقي” و”الاتحاد الأوروبي” و”دول عدم الانحياز” والدول الصديقة.
7- الالتزام بالقرارات السابقة بزيادة موارد صندوقي القدس والأقصى دعمًا لصمود الشعب الفلسطيني.
ورحَّب المجلس الوزاري بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة(29) الذي أكَّد على أن أي قرارات أو إجراءات تهدف إلى تغيير طابع مدينة القدس الشريف أو مركزها أو تركيبتها الديمُجرافية ليس لها أثر قانوني، وأنها لاغية أو باطلة، والإشادة بـ”مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس”، ودعوة الفصائل والقوى الفلسطينية لسرعة إتمام المصالحة الوطنية.

2) منظمة التعاون الإسلامي

كانت “منظمة التعاون الإسلامي” أسبق بخطوة بخصوص قرار ترامب بتهويد القدس، فقد بادرت بعقد اجتماع استثنائي(30) على مستوى المندوبين الدائمين للدول الأعضاء في مقر المنظمة بجدَّة في الرابع من ديسمبر، أعربت فيه عن قلقها من محاولات تغيير الوضع التاريخي والقانوني لمدينة القدس المحتلَّة، وأدانت المواقف والتصريحات الرامية لذلك، مؤكِّدةً على الطابع المركزي للقضية الفلسطينية وفي القلب منها القدس، باعتبارها المقر الدائم والنهائي للمنظمة، كما دعا إلى التنسيق مع “جامعة الدول العربية”، وسفراء المجموعة الإسلامية في “الأمم المتحدة” لاسميا “مجلس الأمن” لاتخاذ التدابير اللازمة للتحرُّك في الوقت المناسب لمواجهة الإجراءات الرامية لتغيير وضع القدس.
أوصى البيان كذلك بعقد اجتماع استثنائي للمنظمة في حال اتِّخاذ الولايات المتحدة هذه الخطوة، وهو ما حدث بالفعل في الثاني عشر والثالث عشر من ديسمبر في إسطنبول بناءً على دعوة تركية، وحمَّلت القمة في بيانها الختامي الإدارة الأمريكية المسؤولية الكاملة عن جميع تداعيات عدم التراجع عن هذا القرار غير القانوني واعتبرته بمثابة إعلان عن انسحاب الإدارة الأمريكية من ممارسة الدور الذي كانت تضطلع به في رعاية السلام، كما اعتبرته مكافأة لإسرائيل على تنكُّرها للاتفاقات وتحدِّيها للشرعية الدولية.
وفي دعوة لتدويل رعاية السلام، دعا البيان(31) الأطراف الدولية الفاعلة إلى رعاية مسار سياسي متعدِّد الأطراف، يهدف إلى إطلاق عملية سلام ذات مصداقية برعاية دولية تهدف كذلك إلى تحقيق السلام القائم على حلِّ الدولتين، وقال الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، الدكتور يوسف بن أحمد العثيمين: “إن انعقاد القمة يعد دليلا قاطعًا على المركزية التي تتحلَّى بها قضية فلسطين والقدس بين الأمة الإسلامية، خاصَّة وأنها تنعقد بعد أن تمَّ المساس بقدسية وعروبة مدينة القدس الشريف نتيجة الإعلان الأحادي، للإدارة الأمريكية”.
بعد عرض موقفي كلٍّ من “جامعة الدول العربية” و”منظمة التعاون الإسلامي”، وهما الدائرتان الأقرب لتأييد واحتضان القضية الفلسطينية والدفاع عنها، ثمَّة نقاط مهمَّة تعليقًا على هذه المواقف:
● شهد العالم العربي والإسلامي في السنوات السبع الماضية عدة أزمات واضطرابات أثَّرت سلبًا على أداء كلا المنظمَّتين، فالمنطقة العربية شهدت انقسامات حادَّة مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وزاد الأمر سوءًا الأزمةُ الخليجية التي بدأت مع مقاطعة الدول الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) لدولة قطر في الخامس من يونيو 2017، وهو ما أحدث أزمة في النظام الإقليمي العربي فوق أزماته المزمنة، وانعكس ذلك على مجلس دول التعاون الخليجي الذي أصبح مهدَّدًا بالتفكُّك نتيجة لهذه الأزمة.
● بخصوص “منظمة التعاون الإسلامي” فقد تضرَّر أداؤها كثيرًا بسبب الخلافات بين أعضائها، لاسيما العلاقات بين تركيا من جهة ومصر والسعودية والإمارات من جهة أخرى، وهو ما ظهر في القمَّة الاستثنائية التي عُقدت في إسطنبول، فاكتفت مصر بحضور وزير الخارجية وكذلك الإمارات، وحضر عن السعودية وزير الدولة للشؤون الإسلامية والدعوة.
● كذلك ثمَّة من يرى أن مشروع القرار الذي تقدَّمت به مصر -كما سيأتي- في مجلس الأمن كان هدفه الرئيسي ألا تنفرد تركيا بمشهد التنديد بالقرار، لكون الأخيرة طالبت بانعقاد جلسة عاجلة للجمعية العمومية للأمم المتحدة تدين القرار الأمريكي، في حلقة جديدة من سلسلة الخلافات المصرية-التركية التي بدأت منذ الثالث من يوليو.

3) الأمم المتحدة

أولى خطوات التحرُّك(32) داخل أروقة “الأمم المتحدة” كانت تقديم السلطة الفلسطينية لدى “الأمم المتحدة” في نيويورك شكوى لدى “مجلس الأمن” من القرار، وصرح السفير رياض منصور المراقب الدائم لفلسطين أن الشكوى تعترض على الإجراء الأمريكي ضدَّ القدس وتدعو “مجلس الأمن” إلى معالجة هذه المسألة الحرجة دون تأخير والعمل بسرعة على الوفاء بمسؤولياته.
وتقدَّمت مصر باعتبارها عضوًا غير دائم في مجلس الأمن بمشروع قرار ينصُّ على أن “القدس مسألة يجب حلُّها عبر المفاوضات، وأن أي قرارات وأعمال تبدو وكأنها تغيِّر طابعَ أو وضعَ أو التركيبةَ الديمُجرافية للقدس، ليس لها أي مفعول قانوني، وهي باطلة ويجب إلغاؤها”، ودعمت 14 دولة القرار إلا أن الولايات المتحدة استخدمت “حق النقض (الفيتو)” لتعطيل المشروع.
أعقب ذلك انعقاد جلسة طارئة(33) للجمعية العامة للأم المتحدة بناءً على طلب عدَّة دول عربية وإسلامية، قدَّمت فيها تركيا واليمن مشروع قرار ينص على أن “أي قرارات وإجراءات تهدف إلى تغيير طابع مدينة القدس الشريف أو مركزها أو تركيبتها الديمُجرافية ليس لها أي أثر قانوني، وأنها لاغية وباطلة ويجب إلغاؤها امتثالا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة”، وجاء التصويت بموافقة 128 دولة في مقابل رفض 9 دول وامتناع 35 دولة عن التصويت.
لفهم الحدود التي يقف عندها دور “الأمم المتحدة” في القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا سنتطرَّق لجدال نظري بين أنصار مدرستين من مدارس نظريات السياسة الدولية، “الواقعية الجديدة” و”الليبرالية المؤسَّسية”(34)، حول مدى تأثير المؤسَّسات الدولية في سلوك الدول، وقدرتها على الحدِّ من الصراعات والنزاعات بين الوحدات السياسية في النظام الدولي، فالواقعيون يرون أن المؤسَّسات الدولية لا تستطيع أن تتعدَّى حدود الدولة القومية وسلطاتها، في حين يرى الليبراليون أن التعاون والاعتماد المتبادل بين الدول يقلِّلان من الصراعات، وأن المؤسَّسات الدولية قادرة على تحقيق السلام والتعاون بالتأثير على سلوك واتجاه الدول القومية، سنتناول فيما يلي بعض المشاهد التي وقعت في أروقة “الأمم المتحدة” لنرى أي الفريقين أقرب لفهم حقائق الواقع الدولي.
يكفينا أن نتوقَّف مع تصريحات ومواقف نيكي هايلي سفيرة أمريكا لدى “الأمم المتحدة”، والتي استخدمت “حق النقض (الفيتو)” لإبطال القرار الذي تقدَّمت به مصر، وكانت قد صرَّحت قبلها في جلسة للجمعية العمومية التي أقيمت في السابع من ديسمبر الماضي قائلةً: “لن أدع هذه اللحظة الختامية تمرُّ دون تعليق عن “الأمم المتحدة” نفسها، لقد ظلَّت “الأمم المتحدة” على مدى سنوات عديدة واحدة من أكبر المراكز في العالم التي تناصب العداء لإسرائيل، لقد أَضرَّت “الأمم المتحدة” بآفاق السلام في الشرق الأوسط أكثر ممَّا نفعت، ولن نكون طرفًا في ذلك، فالولايات المتحدة لن تقف موقف المتفرِّج بعد الآن عندما تتعرَّض إسرائيل لهجوم غير عادل في “الأمم المتحدة”، ولن تستمع للمحاضرات من قبل الدول التي تفتقر إلى أي مصداقية عندما يتعلَّق الأمر بمعاملة الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين على حدٍّ سواء”.
ثمَّ عادت وصرَّحت تصريحًا فجًّا بأنها ستدوِّن أسماء كل الدول التي ستصوِّت ضدَّ الولايات المتحدة بناء على طلب ترامب، الذي أخبرها أن التصويت ضدَّ الولايات المتحدة هو تصويت ضدَّه شخصيًّا، ثم جاء التصويت باكتساح بإدانة أمريكا، قامت لتهاجم المنظمة بأكملها بأنها لطالما ناصبت إسرائيل العداء، وعلى الرغم من ذلك فقد صبرت إسرائيل على ذلك وتمسَّكت بعضويتها لتمارس حقها الشرعي في الدفاع عن نفسها، وقالت إنها تذكِّر الجميع بأن الولايات المتحدة هي أكبر مساهم في ميزانية المنظمة والوكالات التابعة لها، وأننا نطعم الفقراء، ونساهم في تعزيز السلام، ونعاقب الأنظمة المارقة، ثم أنهت كلمتها بأنه “ما من صوت في الأمم المتحدة قادر على أن يحدث فرقًا في القرار الذي تمَّ اتخاذه بنقل السفارة، وفي المقابل فإن قرار التصويت ضدَّ الولايات المتحدة سيحدث فرقًا في وجهة نظر الشعب الأمريكي وحكومته تجاه المنظمة”.
تؤكد التصريحات والمواقف السابقة على صحة مقولات المدرسة الواقعية بشأن فعالية المنظمات الدولية، وأنها “في حقيقة الأمر انعكاس لحسابات الدول لمصالحها الذاتية، التي تعتمد بصورة رئيسية على عمليات توزيع القوى الدولية، فالقوى الدولية تُنشئ المنظمات من أجل الحفاظ على حصَّتها ونصيبها من القوة في النظام الدولي، فالمنظمات الدولية ما هي إلا ساحة لممارسة علاقات القوة”، وعلى هذا الأساس تتصرَّف الولايات المتحدة وكأنها شرطي العالم بأكمله، تستغلُّ “الأممَ المتحدة” إن وافَقَت سياساتها، وتضرب بقراراتها عرض الحائظ إن خالفَتها.
ختامًا، فقد صدقت هايلي عندما قالت بعد يومين من قرار ترامب “عندما أدلى الرئيس بالتعليق يوم الأربعاء قال الجميع إن السماء ستطبق على الأرض، ولكن مرَّ الخميس والجمعة والسبت والأحد والسماء في مكانها.. لم تسقط”(35)، فلم يُحدث العرب شيئًا غير الإنكار اللفظي أو اللجوء إلى المنظمات الدولية، فزيادة على الأزمات التي تمر بها المنطقة العربية غابت الإرادة التي تستطيع أن تتبنَّى مواقف تتلاءم مع الحدث الجلل، كما لا يظهر أن المستقبل القريب يحمل لنا واقعًا أفضل من اللحظة الراهنة، ويا ليت العرب يفهمون أن العالم يعيش بمنطق “ساعد نفسك بنفسك”، ومن ثم فإن عليهم توظيف متغيِّرات القوة (المادية والمعنوية) المتاحة، والسعي لرسم استراتيجية تُوظَّف للحصول على أكبر مكاسب ممكنة في الوقت الحالي، والسعي لتضخيم تلك المكاسب في المستقبل.
*****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية.
(1) مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، التقدير الاستراتيجي (96): سيناريوهات ترامب لنقل السفارة الأمريكية للقدس، موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/EuprxJ
(2) ردود أفعال فلسطينية رافضة ومنددة بإعلان القدس عاصمة إسرائيل، موقع العربي الجديد، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2mDybzs
(3) نص خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية تعقيبا على القرار الأمريكي بشأن القدس، موقع حركة حماس، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/hamas127
(4) وزير الخارجية يستعرض مع نظيره الامريكي مسار العلاقات الثنائية والأوضاع الإقليمية واحتمالات اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، موقع وزارة الخارجية المصرية، 3 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/ma1WzF
(5) الأردن: قرار أميركا بشأن القدس انتهاك للشرعية الدولية، موقع الجزيرة نت، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/aja4T1N
(6) بيان من الديوان الملكي السعودي حول القرار الأميركي، موقع صحيفة البيان، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/nrRsDT
(7) رسالة الملك محمد السادس إلى ترامب بخصوص القدس، موقع الأيام 24، 5 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/mH1SA4
(8) محمد الطاهري، بأمر من الملك.. المغرب تستدعي سفراء الولايات المتحدة روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وتنقل قلقها بخصوص قرار ترامب بشأن القدس، موقع رأي اليوم، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/SfT8Lf
(9) قرار الإدارة الامريكية بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل: الجزائر تندد بـ”قرار خطير”، موقع وكالة الأنباء الجزائرية، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2uXzXQt
(10) انظر: الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية التونسية على موقع فيس بوك، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/zs8XGG
(11) السبسي يستدعي السفير الأمريكي بشأن قرار القدس، موقع القدس العربي، 8 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://www.alquds.co.uk/?p=840958
(12) موريتانيا ترفض قرار ترامب حول القدس وترفض ما يترتب عليه، موقع مصراوي، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/m2vSLa
(13) رفض واسع في السودان لقرار ترامب جعل القدس عاصمة إسرائيل، موقع القدس العربي، 9 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/tCd9C4
(14) مملكة البحرين تؤكد بأن قرار الإدارة الأمريكية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يهدد عملية السلام في الشرق الأوسط، موقع وزارة الخارجية البحرينية، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/BmceF1
(15) دولة قطر ترفض أي إجراءات تدعو للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، موقع وزارة الخارجية القطرية، 5 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/ZfnBsm
(16) وزارة الخارجية: العراق يرفض قرار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية اعتبار القدس عاصمة الاحتلال الإسرائيلي، موقع وزارة الخارجية العراقية، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2LtHyAm
(17) دولة الإمارات تستنكر بشدة القرار الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، موقع وزارة الخارجية الإماراتية، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/HGNtrq
(18) السلطنة تعرب عن أسفها لقرار ترامب حول القدس، موقع صحيفة الرؤية العمانية، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/7DRBZw
(19) الخارجية تُدين إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، موقع وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/uvPhpq
(20) انظر: د. ناهد عز الدين، انكشاف التحول في السياسة المصرية تجاه إسرائيل، في الباب الثاني من هذا الكتاب.
(21) انظر: عمر سمير، التحول في مواقف السعودية والإمارات تجاه إسرائيل، في الباب الثاني من هذا الكتاب.
(22) جون ميرشايمر، لماذا يكذب القادة: حقيقة الكذب في السياسة الدولية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 443، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ديسمبر 2016).
(23) مظاهرات بالقاهرة تنديدا برد فعل السيسي والأنظمة العربية على قرار ترامب بشأن القدس، موقع القدس العربي، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/iBiCiw
(24) الرئاسة التركية: قرار ترامب بشأن القدس في حكم الملغي بالنسبة لنا والعالم، موقع ترك برس، 7 ديسمبر 2017 متاح عبر الرابط التالي: https://www.turkpress.co/node/42720
(25) أردوغان: اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل يلقي المنطقة في حلقة من نار، موقع ترك برس، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://www.turkpress.co/node/42736
(26) إيران ترد على قرار ترامب بتحويل القدس عاصمة لإسرائيل، موقع قناة العالم، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/9nwAVZ
(27) محمد الشرقاوي، ما بعد قرار ترامب بشأن القدس: مستقبل عملية السلام في الشرق الأوسط، موقع مركز الجزيرة للدراسات، 21 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/AJASAi
(28) أبو الغيط: التلاعب بوضعية القدس استفزاز غير مبرر لمشاعر العرب ويضاعف عدم الاستقرار بالمنطقة، الموقع الرسمي لجامعة الدول العربية، 6 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/G7kf4Z
(29) سيأتي ذكره عند الحديث عن موقف الأمم المتحدة.
(30) اجتماع مندوبي “التعاون الإسلامي” يوصي بعقد “وزاري طارئ” و”قمة إسلامية” في حال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، الموقع الرسمي لمنظمة التعاون الإسلامي، 5 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/afyx5X
(31) انظر البيان الختامي على موقع منظمة التعاون الإسلامي، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/n4nhyJ
(32) شكوى فلسطينية لدى مجلس الأمن ضد قرار ترامب وجلسة مفتوحة غدا بشأن القدس، موقع القدس العربي، 7 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/jpejdA
(33) الجمعية العامة تصوت بأغلبية كبيرة ضد قرار ترامب بشأن القدس، موقع BBC عربي، 21 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/JSJU1w
(34) أحمد محمد أبو زيد، تأثير المنظمات الدولية في سلوك الدول القومية: دراسة نظرية، المجلة العربية للعلوم السياسية العدد 33، شتاء 2012.
(35) سفيرة أمريكا الأممية: توقعنا سقوط السماء بعد قرار ترامب.. ولكن، موقع عربي 21، 11 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2LGQEJx

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى