الوحدة العربية: لماذا فشلت القضية الأولى لثورة يوليو؟

لماذا فشلت القضية الأولى لثورة يوليو؟ قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نتساءل عن ماهية القضية الأولى لثورة يوليو، وعمَّا إذا كانت الوحدة العربية هي بالفعل القضية الأولى لثورة يوليو؟
بالقطع لم تكن الوحدة العربية قضية ثورة يوليو عند اندلاعها.. بل -كما نحسب- كان العنوان الأساس لثورة يوليو هو الاستقلال والتحرُّر: وهو ما تحقَّق في 1 يوليو سنة 1957 عقب فشل العدوان الثلاثي على مصر (أكتوبر/ نوفمبر 1956) عندما صادر عبد الناصر آخر ما تبقَّى من معدَّات قواعد البريطانيِّين بمصر ليسدل الستار نهائيًّا على جلاء الاحتلال البريطاني عنها والذي كان كل من عبد الناصر كرئيس لوزراء مصر وأنتوني إيدن وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطاني قد وقَّعا في 19 أكتوبر 1954 اتفاقية بجلاء البريطانيِّين بالكامل عن مصر في غضون عشرين شهرًا من توقيع الاتفاقية وانقضاء معاهدة التحالف التي كانت قد وقِّعت في لندن عام 1936.. وفي 18 يونيو 1956 تمَّ إجلاء آخر جندي بريطاني عن مصر وأُلغيت الملكية وأُعلن قيام النظام الجمهوري.
ويمكننا القول إن ثاني عناوين ثورة يوليو هو القضاء على الإقطاع وإقصاء النخب السياسية التي عجزتْ قبلًا عن تحقيق -وقد تعوق مستقبلًا تحقيق- تطلُّعات المصريِّين في الاستقلال والعدالة الاجتماعية، وهو ما بدأته ثورة يوليو بقوانين الإصلاح الزراعي (سبتمبر 1952) والقرارات الاشتراكية بشأن البناء الاقتصادي وتأميم كبرى المؤسَّسات الاقتصادية والصناعية (1961). وضمن هذا المسار أصبحت ثورة يوليو جزءًا من النظام في مصر وانتهت مهامها الثورية بتحقُّق الاستقلال والقضاء على الإقطاع، ناهيك بتأميم قناة السويس (1956) إنجازًا للتحرُّر من الاستعمار.
وهكذا فإن الوحدة العربية كانت في واقع الأمر قضية تبنَّاها عبدالناصر وصحبه، لا بصفتهم ثوارًا وإنما رجال دولة يحكمون النظام في مصر، ومن ثمَّ كانت قضية الوحدة هي قضية لنظام 23 يوليو، لكنها لم تكن بالقطع قضيَّته الأولى بحكم أن أي نظام يستهدف بالأساس بقاءه واستمراريته. وإنجاز الوحدة العربية لا يمكن أن يتمَّ إلا بتجاوز استقلالية أقطاره العربية ومنها مصر بطبيعة الحال. ومن هنا فإن قيادة عبد الناصر لمصر ونضاله من أجل الوحدة العربية، كان من جانب نضالًا لناصر بصفته قائدًا للتحرُّر العربي وللجماهير العربية داخل وخارج مصر، لكن جوهره كان نضالًا يوظِّف ناصر عبرَه أدوات الدولة الإقليمية المصرية لتحقيق الوحدة العربية، وهي لم تكن كما لا يمكن أن تكون قضية لثورة 23 يوليو، وإنما قضية ما يمكن أن نطلق عليه قوى الثورة العربية([1])، أو ما رأي عبد الناصر في نهاية المطاف([2]) أن يطلق عليه الحركة العربية الواحدة، التي رأى أنه يقع عليها (وليس على النظام القطري العربي) عبء إنجاز الوحدة العربية وتحرير فلسطين.
***
غير أننا نريد أن نسجِّل بداية أن منهجيَّتنا في تناول قضية الوحدة العربية أو غيرها من قضايا المستقبل والواقع العربيَّين هي باختصار منهجية ترى أنه لا يستقيم من جهة، النظر في أي قضية من هذه القضايا بعيدًا عن المستجدات الواقعية: وهو ما يقتضي -ما نطلق عليه- “التَمَثُّل الواقعي”؛ كما أنه يقتضي من جهة أخرى اعتبار النسق المعرفي الذي ينتمي إليه أهل النظر في قضاياهم المجتمعية والقومية وبما يقدِّمه مثل هذا الاعتبار من معانٍ وقيم ومرتكزات مفاهيمية ودروس تاريخية: وهو اعتبارٌ -أو “تمثُّلٌ معنويٌ”- للنسق المفاهيمي الحضاري ينبغي أن ينظر “التمثُّلُ الواقعي” في حصيلته ومخرجاته كتمثُّل معنوي ليجعل من هذه الحصيلة حصيلةً تضبط النظر “الواقعي” في الواقع المعاش وظروفه الـمُعاشة ومستجدَّاتها.
ولعلَّه يفيدنا هنا أن ندلِّل على ما نقوله عبر النظر في كتاب رجل نحبه ونقدِّره وننْهل من فكره وأدبيَّاته وخبرته الغنيَّة: وأقصد به الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.. فهو في كتابه “قذائف الحق” يبيِّن أن كُتَّابًا مسلمين كبارًا كانوا يكتبون في مقدماتهم لكتب أمضاها جمال عبد الناصر “فيها أشرف ما يؤكد زعيم مسلم نحو أمَّته ودينه”؛ والشيخ الغزالي إذ يُبيِّن ذلك، يتساءل من بعد: كيف حدث ذلك التغيير الرهيب في فكر جمال عبد الناصر: فقد رأى شيخنا الجليل أن عبد الناصر كان ينحاز في كل صراع بين الإسلام وطرف آخر إلى هذا الآخر في وجه الإسلام، سواء تعلَّق ذلك بالصراع بين الهند وباكستان، أو الصراع بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونان؛ بل يمضي بعيدًا معتبرًا أن جمال عبد الناصر كان أسدًا هصورًا في قتال اليمن وحملًا وديعًا في قتال الصهاينة. وحقيقة الأمر فإن هذا النظر لا يقتصر على شيخنا الجليل، أو على ما ذكره؛ بل هناك كما هو معروفٌ وشائع من يقف عند قيام عبد الناصر بحلِّ الأحزاب المصرية بُعيد ثورة يوليو، ويتَّخذ هذا دليلًا على النهج الديكتاتوري لعبد الناصر وتجربة نظام 23 يوليو بشكل عام.
أما بشأن ردِّ عبد الناصر على هزيمة 1967، فإن من قادوا وأشرفوا على إعادة بناء القوات المسلحة المصرية بعد هزيمة 1967 يُرجِعون لناصر الفضل الأكبر في القيام بذلك بكفاءة واقتدار ما كان ليتحقَّق بدونها انتصار رمضان 1993ه/أكتوبر 1973م، وهو الانتصار الذي كانت حرب الإستنزاف بين مصر وإسرائيل (من مارس 1968 إلى أغسطس 1970) بشائر ناصعة على قدومه الوشيك([3]). لا نريد هنا نفي هذه الانتقادات في جملتها وتفاصليها وإنما نريد القول بأن تقييم وجاهتها لا يستقيم إلا عبر متابعة الملابسات وسياق الظروف التي حكمت قرارات عبد الناصر ومواقفه. ويمكننا في هذا الشأن أن نضرب بعض الأمثلة:
– إن وقوف عبد الناصر إلى جانب الهند-أو في مواجهة تركيا- كان في حقيقة الأمر وقوفًا ضد طرف شكَّل أحد المرتكزات الرئيسة لحلف بغداد الأمريكي الاستعماري الذي كان يريد جعل العالم الاسلامي أداة طيِّعة لحلف الأطلنطي في مواجهة خصومه الدوليين، سواء تعلَّق ذلك بمعسكر الاتحاد السوفيتي الاشتراكي أم بشعوب العالم الثالث المتطلِّعة للتحرُّر من التبعية والهيمنة الاستعماريَّتين، وقد تُسجَّل هنا تحفظات مُحِقَّة على موقف ناصر إلى جانب الهند المتصارعة مع باكستان المسلمة -أو في مواجهة تركيا بلد المسلمين- لكن يظل أن لناصر معاذيره وهو يخوض معركة مصيرية في مواجهة المعسكر الإمبريالي الأمريكي.
– عندما أرسل عبدُ الناصر عبدَ الحكيم عامر في أول زيارة لوفد مصري إلى موسكو لمناقشة الأمور العسكرية وجس النبض فيما يخص السد العالي، حرص عبد الناصر أثناء زيارة عامر أن يعلن من القاهرة عن الأحكام الصادرة من المحكمة العسكرية في قضية الشيوعية، والتي تضمَّنت أحكامًا بالسجن على 18 متهمًا شيوعيًّا بمدد سجن تتراوح بين 6 و12 سنة. وهو في هذا يريد أن يوجه رسالة بأنَّ له سياسته الداخلية التي يعتبرها تتَّصل بالسيادة الوطنية، وقد أبدت القيادة السوفيتية حينها احترامها لسياسته تلك: وهو ما رصده السفير البريطاني في موسكو حينئذ (نوفمبر 1957) في تقريره إلى وزير خارجيته معتبرًا أنه: لا شك في أن السوفييت يراعون مشاعر مصر الوطنية والقومية ويحاذرون من مسِّها، وأن علاقات القاهرة بموسكو لن تسفر عن أي تغلغل شيوعي بمصر، وأن الحزب الشيوعي سيظل ممنوعًا بينما يقبع أقطابه في السجون بدون أن تتدخَّل موسكو لصالحهم([4]).
إن حلَّ عبد الناصر للأحزاب بُعيد ثورة يوليو هو أمر استدعاه واقع سيطرة رجال الإقطاع بمصر على المشهد السياسي والسياسة الحزبية المصريَّيْن، فكان لا بدَّ لناصر من تصفية نفوذ الإقطاع حتى يمضي قدمًا لإرساء إصلاحاته الثورية([5]) لذا فإنَّ مثل هذا التحفظ لا يصح أن يُوجَّه إليه في السنين الأولى التي تلتْ الثورة مباشرة وإلى أن تحقَّق لناصر تثبيت شرعيَّته الثورية بتأميمه لقناة السويس، ثم تصدِّيه للعدوان الثلاثي (1956)، ونجاحه في الاحتفاظ بقناة السويس تحت السيادة المصرية؛ إلَّا أن التحفُّظ على عدم اعتماد عبد الناصر لحرية العمل الحزبي يمكن أن يستقيم إذا تعلَّق بالمراحل التي تلتْ قيامه بالفعل بالإصلاح الزراعي وتصفية نفوذ الإقطاع بمصر.
– منذ البداية واجه ناصر مشكلة كبرى في إدارة ثورته وإصلاحاته وبالخصوص ما كان يوكِلُ أمره بالضرورة للضباط من رفاقه في مجلس قيادة الثورة الذين نيطت بهم مهام الثورة والحكم.. وهم بطبيعة الحال لم يكن لهم ذات الخلفيات العقائدية: لذا لاذ عبد الناصر بما يتجاوز الخلافات العقائدية، فاتَّكأ على صداقته الحميمة بعبد الحكيم عامر لتثبيت سلطته أمام منافسيه من قيادات الضباط الأحرار على وجه الخصوص، غير أن هذا الاتِّـــكاء قاد عبد الناصر إلى انتكاسات ليست فحسب فيما يتَّصل بإدارة عامر لسوريا خلال وحدتها مع مصر، بل أيضًا في إدارة عامر للقوات المسلَّحة لنظام عبد الناصر، سواء ما اتَّصل من ذلك بقرار التدخُّل العسكري في اليمن أم بحرب 1967 ونكستها([6])، وهناك من رجال ثورة ناصر -كما هو شأن الأستاذ أمين هويدي- من يرى أن ذلك الاتِّكاء على عامر قد قاد من جهة أخرى -في مفارقة ذات دلالة- إلى انعدام التواصل بين القيادة العسكرية وتلك السياسية ممَّا شكَّل عجزًا بنيويًّا واكب أداء ثورة يوليو لمهامها([7]).
– وفي كل الأحوال كان عبد الناصر يجد نفسه مستدرَجًا -أو مضطرًّا- لأن يجعل من الدولة المصرية وجهازها البيروقراطي أداته في تحقيق إصلاحاته ومشروعه الثوري التحرُّري([8])، وإذ أدَّت تداعيات هزيمة 1967 إلى تصفية “مراكز القوى” في الجيش، وإلى استرداد القيادة السياسية هيمنتها على كافَّة مؤسَّسات الدولة وجهازها البيروقراطي؛ فقد أدَّى ذلك إلى تكريس القيادة الفردية لعبد الناصر على رأس الدولة في ظروف بالغة الدقَّة تكاد تكون فيها الأجهزة السياسية الموالية للرئيس عبئًا أكثر من كونها عونًا له في قيادته لمهام إزالة آثار عدوان 1967. ومن هنا فلن يثير الدهشة أن ينجح السادات (خليفة عبد الناصر وخصم الناصريِّين) في الإجهاز على خصومه في مختلف مؤسَّسات الدولة المصرية بعد أن قُيِّضَ له فيها أن يمسك بمفاتيح القيادة السياسية الفردية التي آلتْ إليه عند خلافته لعبد الناصر([9]).
– وواقع الأمر- كما نحسب- أن عبد الناصر كان يدرك أن ثورته كانت ثورة من أعلى: تتمثَّل أداتها بالبيروقراطية المصرية وجهازها في الدولة المصرية، ومن هنا كان بحث عبد الناصر الطويل عن صيغ جماهيرية توفِّر لتطلُّعاته الثورية تنظيم قاعدتها الجماهيرية على أسس نظرية فكرية جامعة في الداخل المصري بدءًا بتجربة هيئة التحرير ومن ثم تحالف قوى الشعب العامل ومن بعد التنظيم الطليعي، وانتهاءً بتبنِّيه عربيًّا لمفهوم الحركة العربية الواحدة (المتحرِّرة من أيِّ تبعيَّة لأي نظام قُطري عربي وبما في ذلك المصري) كسبيل وحيد لبناء الوحدة والمستقبل العربيَّيْن.
***
ويبدو لنا أنَّ ما سبق وبالخصوص منه النقطتين الأخيرتين إنما تتَّفقان مع ما يراه -عن حق- منير شفيق في كتابه “في التجزئة والدولة القطرية”، حينما رأى أن المعضلة والعقبة الأساس التي ينوء بها الواقع العربي هو واقع التجزئة، وأنها لا تعيق وحسب تقدُّم الأمة العربية ككل وإنما تعيق أيضًا تطوُّر الواقع في كلِّ قطرٍ من الأقطار العربية على حدة. وهو هنا لا يرى التعثُّر في تجاوز واقع التخلُّف والعجز العربي حالة كامنة في بنى اجتماعية أو ذهنية أو في واقع التخلُّف بصفة عامة أو في قضية منوطة بالوعي السياسي، بقدر ما يراه أمرًا مرتبطًا بإدارة قوى التحرُّر العربي للصراع في مواجهة العوامل الداخلية والخارجية التي تعترض تحقُّق الوحدة العربية، وفي القلب منها الواقع القُطري الـمُشتِّت للوطن العربي وكذلك تبعيَّته البنيوية والسياسية لقوى خارجية معنيَّة بتكريس التجزئة العربية ومنع قيام الوحدة العربية([10]).
غير أن هذه الرؤية الـمُقَدَّرة للأستاذ منير إذ ترصد الخطورة الكامنة في التجزئة العربية وفي تداعياتها السلبية على عملية الإدارة العربية للصراع في مواجهة خصوم المستقبل العربي التحرري، لا تبدو حاسمة في إعطاء البعد الاجتماعي “القومي” حقَّه الذي يجعل الأولوية لقضية الوحدة العربية على قضية وحدة العالم الإسلامي، إذ يقف عند تأكيده أنه لا يمكن تحقيق الوحدة الإسلامية إلا بتحقيق الوحدة العربية: فهل يتوقَّف الغرض من إقامة الوحدة العربية على تحقيق الوحدة الإسلامية؟ وهل يختلف مضمون الوحدة العربية وبنيتها المنشودة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا عن مضمون الوحدة المنشودة إسلاميًّا؟
ولا يخفى أن الأستاذ منير في هذا إنما يوجِّه رسالةً ضمنيَّة للمنادين بالوحدة الإسلامية كبديل للوحدة العربية، يبيِّن لهم عبرها قصور الرؤية التي تفترض إمكانية تحقيق الوحدة الإسلامية عن غير طريق تحقيق الوحدة العربية؛ إلا أنه من جهة أخرى يقف بدور الوحدة العربية عند حقيقة أنها تشكِّل تعاونًا وتضامنًا في وجه خصوم المستقبل العربي. وذلك دون أن يبيِّن أن هذه الوحدة المرجوَّة هي في واقع الأمر استعادة لوحدة قائمة، حقَّقها الإسلام منذ مئات السنين وشكَّل عبرها مجتمع الأمة العربية الذي أضْحى بذلك يختصُّ بموطنه وطنًا له دون غيره من الناس، وأنه بدون استعادة هذه الوحدة فإن الأمة العربية بمكوِّناتها البشرية والمادية والتراثية تصبح في حكم الـمُعطَّلة؛ ممَّا يعيق قدرة الكتلة المجتمعية العربية عن توظيف قدراتها من أجل تزكيتها وتطورها الاجتماعيَّيْن.
إننا بهذا نريد أن نقف مليًّا عند حقيقة أن الوحدة العربية لا تشكِّل وحسب أفقًا للتضامن والتعاون، وإنما هي شرط للتحرُّر من القيود الحائلة دون التطوُّر. من هنا تطلق أدبيات التحرُّر الوطني هذا المفهوم على التحرُّر من القيود التي تحول دون التطوُّر الاجتماعي، وهي عربيًّا قيود لا تقف فقط عند قيود التحرُّر من التبعيَّة للخارج ومن التخلُّف في الداخل، وإنما تقف بالأساس عند أولوية التحرُّر من التجزئة كطريق لتحرير الإرادة المجتمعية([11])، إذ إن المشروع الوحدوي العربي هو في جوهره مشروع استعادة وحدة تحقَّقت وما زالت متحقِّقة منذ قرون، وهي ما زالت متحقِّقة بأبعادها المختلفة باستثناء بعدها النظامي الذي قام الاستعمار الأوروبي باختراقه وتفكيكه عند احتلاله للوطن العربي ولم يجلُ عنه إلَّا بعد أن تركه فسيفساء مجزَّءًا بالقطرية العربية. وإن “الانتباه” لهذه النقطة الأخيرة على قدر عال من الأهمية، لأنه انتباه تتحدَّد به رؤيتنا للقوى صاحبة المصلحة في تحقيق الوحدة العربية ومواقع غيرها من القوى، سواء كانت مواقع حلفاء (في معسكر التحرُّر) أو أصدقاء (يقفون على الحياد) أو خصوم (إقليميين أو قُطريين) أو أعداء (في المعسكر الاستعماري والإمبريالي).. وكذلك هو”انتباهٌ” يمكِّننا من التمييز بين مَنْ ينظرون في تجربة عبد الناصر ليأخذوا منها الدروس والعبر على طريق تحقيق الوحدة العربية، وبين أولئك الذين يتصيَّدون أخطاء عبد الناصر ليتَّخذوا من تشويه تجربته وإنجازاته ذريعةً يزيِّنوا عبرها لجماهير الأمة العربية الانحراف عن طريق الوحدة العربية والصدَّ عن موجبات النضال من أجلها..
***
كان إخفاق ثورة 1919([12]) بمصر في تحقيق تطلُّعاتها في الاستقلال والتحرُّر من التبعية الاستعمارية، اصطدم في النهاية بحائط مسدود أدَّى إلى إحساس عام بانسداد الأفق أمام المناهج التقليدية للحركة الوطنية في تحقيق تطلُّعاتها التحرُّرية والاجتماعية، وهو ما عرض له أستاذنا المستشار/ طارق البشري بوضوح وتفصيل في الفصل الأول من كتابه “الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970″([13]).
غير أن مصر حتى في جانبها الرسمي كانت تدرك بأحزابها وسياسيـِّيـها الذين عاشوا حقبة الحرب العالمية الثانية الأخطارَ المحدقة بالمنطقة العربية، ولذلك كانت تُستحضر مشاريع الوحدة العربية بين قوى النظام العربي الرئيسة وبالخصوص في القاهرة وبغداد والرياض ودمشق، وهو ما تجلَّى في مشروع ميثاق الجامعة العربية وما أسْفر عنه من تأسيس لجامعة الدول العربية، ذلك التأسيس الذي وإن لم يكن بعيدًا عن التأثير والنفوذ الاستعماري (البريطاني بوجهٍ خاص) إلا أنه كان في جوهره نزوعًا عربيًّا على صعيد القوى العربية الرسمية المتنفِّذة في الشرق من المنطقة العربية([14]).
وقد كان هذا النزوع الوحدوي واضحًا لدى عبد الناصر خلال فترة مبكِّرة من الثورة كما أشار في كتابه “فلسفة الثورة”، ناهيك عن أن هذا الكتاب يشير إلى ما كان يختلج في صدر عبد الناصر الشاب، وهو اختلاج يشترك فيه عبد الناصر مع أقرانه من شباب مصر في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
***
ومن المهم بشأن حضور قضية الوحدة العربية في مصر ألَّا يغيب عن نظرنا أنها ليست وليدة لتجربة عبد الناصر أو حقبته، فقد كان الاتجاه الوحدوي في مصر اتجاهًا كامنًا وعميقًا ألقى بظلاله الواضحة على تجربة علي بك الكبير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والتي باءت بالفشل (عام 1773) نتيجة طابعها المغامر وصراعاتها الداخلية. وكان هذا الاتجاه الوحدوي أكثر وضوحًا في تجربة محمد علي باشا مطلع القرن التاسع عشر، وهي التجربة التي نريد أن نقف عندها لأنها أقرب عهدًا بتجربة يوليو، كما أن تجربة محمد علي باشا كانت أعمق وأوسع من تجربة محمد علي بك الكبير التي سبقتْها وإن كانت تجربتا محمد علي بك الكبير ومحمد علي باشا متشابهتان من حيث مبتدأ ومحطات وحصيلة مسارهما الوحدوي، وكانت التجربتان -وبالخصوص آخرهما- تحملان بذورًا لملامح تجربة ثورة يوليو في منتصف القرن العشرين.
وإذ نستعرض في الفقرات التالية نظرنا في تجربة محمد علي باشا لأن فيها ما يشترك في بعض ملامح وتعثُّرات تجربة ناصر الوحدوية فإن النظر فيها يبرز من جهة، أنها مع أهميتها البالغة كنذير بتجربة أخرى أكثر نجاحًا قُدِّر لاحقًا أن تتحقَّق عبر تجربة عبد الناصر الوحدوية، إلَّا أن النظر فيها يبرز من جهة ثانية تفوُّق وتطوُّر تجربة عبد الناصر الوحدوية بما لا يُقاس، كما أنه من جهة ثالثة يلقي الضوء على العوامل التي أدَّتْ في نهاية المطاف إلى تخلخُل تجربة محمد علي باشا وتواضُع حصيلتها، وهو ما سنوضِّحه عبر إلقاء الضوء على حقب ثلاث في تجربة محمد علي باشا: حقبة عمر مكرم، التي مهَّدت للحقبة الثانية وهي تمكين محمد علي، ثم الحقبة الثالثة التي شهدت إخفاقه. وقد كان ذلك التخلخُل داخليًّا بالأساس، ممَّا جعل تجربة محمد علي مكشوفةً أمام مخاطر تعطيلها والقضاء عليها من الخارج، وهو ما حدث بالفعل، ثم سنمضي بعد ذلك في تتبُّع الرؤى الخاصة بقضية الوحدة، لنستخلص أسباب إخفاق وتعثُّر عبد الناصر وثورة يوليو في تحقيق الوحدة العربية.
***
حقبة عمر مكرم (التمكين المغدور)
تقودنا الرؤية العامة للسياق التاريخي شرقي السويس إلى أن انسلاخ العرب عن السلطنة العثمانية كان نتيجة لعجز بنيتها عن الاستجابة إلى التطلُّعات التزكوية المتنامية في الولايات الواقعة تحت حكمها المباشر الفعلي منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ ولعجز السلطنة عن الصمود أمام التحديات الخارجية (الأوروبية)، ومع ما نلاحظه من اصطباغ المشروع التزكوي العربي بنزوع يستهدف لدى البعض إفراغه من مضمونه الإسلامي (وهو ما يعكسه مثيلات دعوة “الجمعية الوطنية العربية” بباريس إلى جعل الخلافة منصبًا شرفيًّا وحسب)، إلَّا أن مثل هذه النـزوع لم يكن بالقطع غالبًا على تطلُّعات العرب التزكوية، كما أنه لم يكن بالقطع قادرًا على تحقيق مثل هذا الإفراغ، ويظهر ذلك أكثـر جلاءً في مصر (إلى الغرب قليلًا من شرق السويس) حيث كان المطلب الأساسي للحركات الاجتماعية التزكوية هو “العدل وإقامة الشرع ورفع الظلم والمكوسات التي ابتدعها وأحدثها المماليك”، هكذا عبـَّر الثائرون في مصر عن مطالبهم الاجتماعية في ثورة 1795، وهم لذلك كانوا يجدون في الأزهر وعلمائه مرجعًا لتأكيد شرعية مطالبهم من جهة، وللتعبير عنها من جهة أخرى([15]).
وقطع غزو نابليون لمصر عام 1798 الإرهاصات النهضوية ومعها تبعيَّة مصر للخلافة العثمانية إلا أنه سرعان ما يخرج نابليون من مصر نتيجة لتدمير البريطانيِّين لأسطوله البحري، ولمقاومة أهل مصر له، والتي لم تُجْدِ محاولات نابليون للمساومة (وادِّعائه اعتناق الإسلام) نفعًا في امتصاص حدَّتها وإصرار أصحابها (أهل مصر) على قتال “الكفار”، ولم يكد الفرنسيون يخرجون من مصر حتى اندلعت حركة جماهيرية بقيادة العلماء الأزهريِّين عام 1805 والتي حددوا فيها مطالبهم في “ألَّا تُفرض من اليوم ضريبة على مدينة القاهرة إلا إذا أقرَّها العلماء وكبار الأعيان”، ويذهب العلماء وعمر مكرم نقيب الأشراف إلى أبعد من ذلك فيصدرون قرارهم بعزل الوالي واختيار محمد علي مكانه، فهم يرون أن “السلطان العادل وحده هو المعنيُّ [بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا] حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور فإن [أهل البلد] يعزلونه ويخلعونه”([16]).
غير أن محمد علي، الوالي الجديد، نجح في التفرُّد بالحكم والاستبداد بآرائه دون من بايعوه على الشورى والعدل من أولئك العلماء والمشايخ والثائرين على سلفه الذين كانوا قد وضعوا بقيادة نقيبهم عمر مكرم الولاية في يده، فهم قد فوَّضوه بالحكم ووضعوا مقاليد السلطة في إمْرته دون أن يقيِّدوها بمقومات الرقابة والمحاسبة وتكامل المسؤوليات أداءً لأمانة الحكم، فوجد في هذا مسوِّغًا يوجب إعمال الحكم والسلطة على الصورة التي آلتا فيهما إليه.
حقبة محمد علي (إخفاق التمكين)
في تسارع مثير يثبِّت محمد علي سلطتَه في مصر، ثم يضمُّ السودان والولايات العربية الأخرى من السلطنة إلى سلطة حكمه، يبدأ بالحجاز فاليمن فالشام، بل يكاد يهيمن على السلطنة فيوشك على فتح إسطنبول (حاضرة السلطنة العثمانية) لولا أن أجبرته القوى الأوروبية مجتمعة على الانكفاء ثانية إلى حدود مصر، وعلى تأكيد ولائه للخلافة العثمانية (عام 1840)، بل إن البريطانيِّين ينجحون بعد أربعة عقود في ترسيخ انكفاء الحكم في مصر، إذ يتذرَّعون بمساندتهم للخديوي في مواجهته لحركة عرابي عام 1881، ويصطدمون مع الجيش العرابي في معركة التل الكبير ويهزمونه، ليبدأ الاحتلال البريطاني لمصر؛ مجهِضًا بذلك التطلُّع النهضوي فيها، والذي يقول فيه أحد قادة الثورة العرابية (محمود سامي البارودي) إنه كان يرمي إلى إعلان الجمهورية في مصر وانضمام سوريا إليها([17]).
وفي تحليل مسهب للمدركات والمفاهيم التي رسمت المناخ التزكوي في مصر في تلك الحقبة نفهم من حامد ربيع أن أهمَّ ما يميزها هو (أ) تطور من “التعصب الديني” إلى “عصبية دينية”، و(ب) بروز مفهوم “الأخوة الوطنية” كما عبر عنه بوضوح خطيب الثورة عبد الله النديم، فقد اتسمت تقاليد الحركة العرابية بعصبية تتجاوز “التعصب” الديني الذي برز في مواجهة حملة نابليون، إلى “عصبية” ترى في الإسلام بالأساس رابطة تماسك داخلية بين أبناء أمَّته([18])، ومن المهم هنا أن نلحظ تأكيد ممثلي المعارضة الشعبية في مجلس النواب في تلك الحقبة العرابية، على أن ما يريده الأهالي إنما أن يعرض عليهم بواسطة نوابهم كل ما يتَّصل بشؤونهم لينظروا إليه بعين المصلحة([19]). وهو ليس ببعيد عن مطالب الكواكبي في “أم القرى” الذي كتبه في حلب، والتي نوَّهنا إلى أن محمد عبده، رفيق الثورة العرابية في ثورتها، كان يقول بها يومئذ. أما مصطفى كامل مؤسِّس الحزب الوطني، حزب العرابيِّين كما يقال، والمنادي من بعد جمال الدين الأفغاني، “بمصر للمصريين”؛ فهو يهاجم مشروع الخلافة العربية، إذ إن البريطانيِّين “يريدون هذا العقد العربي في يد بريطانيا لا في يد الإسلام”، وينادي بالالتفاف حول السلطنة العثمانية، بل إنه يرى في تقسيمها خطرًا يهدِّد مسيحيِّي الشرق قبل مسلميه([20]).
وهكذا، من محمد علي إلى عرابي، إلى مصطفى كامل، نجد باستمرار القناعة بضرورة تدارك عجز بنية الدولة العثمانية عن تحقيق التطلُّعات التزكوية (في مصر) ممتزجة بالإيمان بالإسلام كمنطلق للتزكية وبمصير مشترك يربط مصر بغيرها من الأمصار العربية وفي مقدِّمتها تلك التابعة للخلافة العثمانية. يعبِّر محمد علي بوضوح عن ذلك في عام 1825، وكان يومها قد أنجز ما ظلَّ طوال خمسة عشر سنة يحجم عن الإقدام عليه وما كان أسلافه من الولاة يحجمون عنه، وأعني بذلك أمره عام 1822 بقبول المتطوِّعين لجيشه من الأهالي في مصر([21])، يقول محمد علي في إحدى رسائله التي كتبها قبيل قيامه بحملته العسكرية الأولى إلى الشام([22]):
“أنا أعرف أن السلطنة (العثمانية) تسير يومًا فيومًا إلى الرَّدَى، وإنه ليصعب عليَّ أن أنشلَها ممَّا هي فيه. فلماذا أحاول المستحيل بوسائلي القليلة. على أني سأقيم على أنقاضها مملكة كبيرة ولديَّ جلُّ الوسائل التي تساعدني على الفوز. إنني أستطيع أن أفتح عكا ودمشق وبغداد (وأحقِّق) مقاصدي على ضفاف دجلة والفرات لأنها حدود ثابتة للدولة التي أسعى إلى إنشائها”.
ولسنا نستطيع أن نرى في هذه التطلُّعات مجرد نزوع إلى التوسُّع والفتح. ولكننا نرى أنه كان ينطلق في تطلُّعاته هذه من مجموعة من الحقائق الواقعية المشهودة، الأولى- تنافس الدول الأوروبية الكبرى على السيطرة على أقاليم الدولة العثمانية ودار الإسلام، وعجز بنية السلطنة العثمانية عن مواجهة عواقب هذا التنافس والصمود أمام محاولات السيطرة الأوربية، الثانية- يعمل تنافس الدول الأوروبية فيما بينها (على الاستحواذ بالهيمنة على أقاليم الدولة العثمانية) على تعطيل تحقق هذه السيطرة الأوربية، وذلك عبر استثمار السلطنة لولاء أقاليمها (الإداري والمعنوي) ملاذًا من أخطار التبديد الأوربي، وأداةً في إدارة تحالُفاتها مع هذه الأطراف الدولية المتنافسة، والثالثة- عجز محمد علي (بطبيعة الحال) عن أيما مواجهة سافرة مع القوى الأوروبية.
بناءً على رؤيته للوضع العثماني والدولي، ظلَّ محمد علي متمسكًا بمجموعة من المواقف. أولها- أن يظلَّ متشبثًا بتبعيَّته الاسمية للخلافة؛ وهو بذلك يستظلُّ بمظلَّة التحالفات الدولية للسلطنة العثمانية، في الوقت الذي لا تستطيع السلطنة التعامل مع سياسته إلَّا على أنها شأن داخلي بها (حتى لا توجد الذريعة للأطراف الأوروبية بتدخُّل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية). وقد ظلَّ محمد علي متمسكًا بهذا المبدأ حتى وهو يكاد ينجح في عزل السلطان العثماني واستبداله بآخر. ثانيها- أن يعمل ضمن ذلك على تدعيم بنية سلطته المادية والإدارية في ولاية السلطنة ذاتها. وهو في ذلك يتطلَّع إلى تدعيم قدرته على مواجهة الأطماع الأوروبية في دائرة سلطته من جهة، وعلى مواجهات محاولات السلطنة الرامية إلى إعادة حكمه للتبعية الفعلية (لا الاسمية) والتي كان يراها عامل استنزاف لموارد الولايات من جهة وتفسيخ للبنية الداخلية الإدارية للسلطنة من جهة أخرى.
وتطبيقًا لهذه المواقف، اتَّجه محمد علي (في توسيع وتدعيم نطاق سلطته) إلى الشرق، لا إلى الغرب (في إفريقيا). وهو حين يفعل هذا فإنه يفعله مستغلًّا حاجة السلطنة الملحَّة لاجتثاث مدِّ الوهابيِّين المتنامِي، إذ شكَّل الوهَّابيون حينها تهديدًا فعليًّا لولايات السلطنة العثمانية في العراق والشام. وكانوا قد صدَّعوا السلطة الروحية للسلطنة العثمانية (خادمة الحرمين) باستيلائهم على مكة والمدينة. وكان محمد علي يتجنَّب بهذا ويحذر من الامتداد نحو أوروبا (وهو قرب أدَّى في الواقع إلى اجتثاث الحكم العثماني في شمال أفريقيا قبل أي منطقة عربية أخرى). وبذلك يمكن أن نفهم إعراض محمد علي وتجاهله لاقتراح فرنسا عليه بالتعاون على ضمِّ الجزائر وتونس وطرابلس وإخضاع شمال أفريقيا لهما.
وضمن هذه الاعتبارات يمكن أن نفهم أيضًا موقفه حين أوصى ابنه إبراهيم (ممثِّله في المفاوضات مع السلطنة العثمانية) وذلك بعد قرابة نصف قرن من إعراضه عن التعاون مع الفرنسيِّين، بأن يحصل على موافقة السلطنة بأن يضمَّ لولايته تونس وطرابلس والمغرب (دون الجزائر التي كانت قد خضعت للاحتلال الفرنسي) وكذلك ألوية أنطاكية وعلائية، إذ كان قد أنجز ما أراد من النمو بدائرة حكمه لتشمل الجزيرة والشام. بل انه قد أوصى إبراهيم بالحصول على موافقة السلطنة على ضمِّ قبرص وجزر إيجا اللتين يراهما إبراهيم موطئ قدم يمكِّن السلطنة من مهاجمة مصر بسهولة([23])، وفي هذا يكتب إبراهيم إلى أبيه محمد علي قائلًا([24]):
“… السلطان محمد (العثماني) سيعمل كل ما في وسعه لتنفيذ المآرب الظالمة… إن التزاماتنا الدينية والشخصية نحو العالم الإسلامي تتطلَّب منَّا ألَّا نفكِّر في مصالحنا فقط. بل وفي صالح رفاهية وسعادة الأمة الإسلامية؛ وعلى ذلك سنحاول جهد طاقتنا لطرد هذا المخلوق اللعين لكي يجلس على العرش العثماني وريثه حسبما يتَّفق مع سياستنا… وباتِّخاذنا هذه الخطوات يمكن إنهاض العالم الإسلامي”.
غير أن القوى الأوروبية ما كانت لتدعَ محمد علي يمضي في تشكيل السلطة في الدولة العثمانية وفق سياسته وتطلُّعاته النهضوية. وهو ما يعبِّر عنه رجل الدولة البريطاني “بالمرستون” فيقول بينما كان محمد علي يدق باب السلطنة([25]): “إن قصد (محمد علي) تأليف مملكة عربية لجميع بلاد العرب… إن تركيا… أفضل من أي ملك عربي يقوم على هذه البلاد نزوعًا للعمل، كثير الحركة”.
لقد كانت نقطة ضعف محمد علي الأساسية هو تجاهله أن شاغل منصب السلطنة العثمانية سيختار الاحتماء بقوى أوروبا كملاذ أخير لمواجهته تمامًا كما سيفعل حفيد محمد علي نفسه في مواجهته للعرابيِّين، كما فات محمد علي أن يدرك أن القوى الأوروبية لن تتركه يُعيد بسلام، صياغة بنية السلطنة. وهكذا وجد محمد علي نفسه يواجه ما عمل جاهدًا على تفادِيه، وهو مواجهة أوروبا وجهًا لوجه، لقد قادتْ مغامراته النهضوية إلى تعميق تفسُّخ بنية السلطنة من جهة، وإلى تصديع جهوده التزكوية في مصر ذاتها من جهة أخرى، لا شكَّ أن استقلال محمد علي بحكم مصر بثقلها المادي الحضاري قد أسعفه في المضيِّ طويلًا في تعبئة وإدارة سلطته، لكنه عاد إلى حيث بدأ أولًا حين عجز التكوين الثقافي المحدود لدائرة سلطته المستبدَّة، وحين عجزت تربيتُه العسكرية العثمانية التقليدية (ولا نقول كفاءته التعبوية) عن ربط جهوده التعبوية بقيم الأهليِّين الروحية والثقافية التي تتشكَّل بها مدركاتهم الجماعية، ففشل في تزكية التعبئة إلى مستوى إعادة صياغة أسس البنية الإدارية والمجتمعية في مناطق حكمه.
أمَّا ما يتعلَّق بالبعد القيمي لإطار المدركات الذي حكم جهده التعبوي، فقد تجلَّى في عجزه عن وسْمه بأيِّ طابعٍ إسلامي إصلاحي، وهو ما أفقد حيويَّته المتدفِّقة في مواجهة السلطنة منْ أيما سندٍ شعبيٍّ حاسمٍ، فبدتْ جهوده وكأنها مجرَّد تحدٍّ للسلطة الروحية للرابطة الإسلامية، ولا نقول للحكم العثماني، بل إن هذا القصور يتجلَّى بشكلٍ أوضح وهو بصدد غزو الحجاز واستعادة مكة والمدينة، فبالرغم -كما يشرح في إحدى رسائله- من نجاحه في استقطاب المماليك، أو الأمراء المصريِّين، وفي استيعابهم ضمن ترتيباته الإدارية والعسكرية، إلا أنه يفشل في كسب مساندتهم لحملته لإعادة “الحرمين الشريفين”، ويكشف لنا وصفه إياهم بالأمراء الفراعنة عن بواعث لجوئهم جماعات إلى صعيد مصر وموقفهم الرافض للذهاب إلى الحجاز، فبالرغم من تجاهل هذا الوصف للطابع العربي الإسلامي الذي تجذَّر في مصر منذ تصدِّيها لتيار الصليبيِّين، إلا أنه يكشف الاندماج الكامل للمماليك بالنسيج الاجتماعي وتعبير مدركاتهم الجماعية عنه، في إطار انتمائهم الثقافي والاجتماعي لمجتمعهم في مصر، فهم قد علَّلوا رفضهم لغزو الحجاز بقولهم “لن نرضى بحكم الدولة العثمانية لنا”([26]).
أما على الصعيد الإداري، فقد كان محمد علي قد رفض أيما مشاركة فعلية للقوى المحلية في الحكم ورأى أن يستعيض عن ذلك بالاعتماد على الأقليات الأجنبية في البلاد؛ خاصةً بعد أن انقلب على نقابة الأشراف، والواقع أن محمد علي ما كان ليستطيع تثبيت حكمه لمصر لولا تذرُّعه أمام السلطنة العثمانية بأن الحكم قد آل إليه بتثبيت الأهليين لولايته على مصر بمباركة من نقابة الأشراف التـي كانت قد ساندته مدفوعة بتعهُّداته بقبول مبدأ المشاركة في الحكم، وكان ذلك شأنه في الأقطار الأخرى التي ضمَّها إلى حكمه، أما القاعدة المادِّية الهائلة (نسبة إلى عصره) والتي أقامها في مصر، فقد ارْتكزت (وكما نفهم من أنور عبد الملك) على جيش قوي قائم على صناعة حربية وعلى نظام اقتصادي يقوم على الاكتفاء الذاتي، إلا أن وسيلته في ذلك كانت الاحتكار والضرائب والقروض الإجبارية والتلاعب بالعملة والسُّخرة([27])، وهي ذات الوسائل التي كان يضجُّ محمد علي (من قبل) من لجوء السلطنة العثمانية إليها باستثناء الاحتكار الذي يكاد محمد علي ينفرد به.
حقبة العرابيين (إحياء التمكين)
كان بوسع محمد علي لو أدرك أهمية عنصر المشاركة في الحكم في تدعيم مؤسسة حكمة، وارتضى بتطبيق، ولو جزئي، للمشاركة في الحكم؛ أن يجعل النسيج الاجتماعي في منطقة حكمه معينًا له على معالجة هذين القصورين معالجة متكاملة. فقد كان بوسعه أن يلتزم بتعهُّده لنقابة الأشراف وأن يوظِّف مؤسسة الأزهر بما يعوض جهوده وأمصاره تخلُّفهما الاجتماعي والسياسي والثقافي. وهكذا، بينما كان يشرف على حسم الصراع مع السلطنة (ومن ورائها المصالح الرأسمالية الأوروبية المتربصة بأقاليم السلطنة) كانت الثورات تندلع في الشام مضطرَّة محمد علي إلى الإقرار “بأن الشعب الملتف حوله سيثور عليه إذا حاول قلب العرش التركي”([28]).
وحين جاءت ساعة الحسم لم يجدْ محمد علي بديلًا عن النكوص في وجه إنذار مندوبي “بروسيا وفرنسا وإنجلترا والنمسا وروسيا” في إسطنبول، إذ كان ما أقامه يتصدَّع من تحته، وكان حكمه يفتقر إلى المساندة والولاء الشعبيَّيْن، كان ما يتحدَّث عنه من (التفاف الشعب من حوله) في حقيقته تعبئة مادية بشرية إدارية (للأهلية) قاصرة عن تجديد مدركات الجماعة وإحيائها بمشاركة أهل النظر والعلم فيها، وبما يجعل حكمه إمامةً للتطلُّعات الشعبية بتزكية واقعها، وقد أدَّتْ محاولته في آخر المسار لاستنزاف القوى البشرية والمادية لمملكته ولبنية السلطنة معًا، وضمن هذه المعطيات ومثيلاتها، كان يبرز ما أشرنا إليه سابقًا من اتِّسام التطلُّعات التزكوية بالمطالبة باللامركزية، وبمشاركة للأهالي (عبر نوَّابهم) في البتِّ في شؤونهم المحلية، وما جاء أول هذا القرن العشرين حتى كان السيد رشيد رضا -القادم من طرابلس الشام ليستوطن في مصر متتلمذًا على تلميذ الأفغاني الإمام محمد عبده- يفيدنا بأنه وأستاذه الإمام (رفيق عرابي في ثورته) كانا على وفاق مع معاصرهما “الكواكبي” في أكثر آرائه، حتى إنهما قد اتُّهِما بكتابة “طبائع الاستبداد”([29]).
انعزلت مصر عن الدولة العثمانية عقب معاهدة لندن 1840، وتزايد بذلك التغلغل الاستعماري الذي فرض رقابة مالية ثنائية بريطانية فرنسية على مصر، ومما ساعد على هذا التغلغل الاستعماري نمط الحكم الفردي القائم في عهد الخديوي، وأمام هذا الوضع بدأ التفكير في اتجاه تمصير الحكم المصري، فرفعت الحركة الوطنية شعار “مصر للمصريين” كشعار للمقاومة ضد الاستبداد وضد التبعية المدنية([30])، وكان ذلك بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882 والذي جاء دفاعًا عن الحكم المطلق وعدوانًا على الاستقلال الوطني، وتكريسًا للسيطرة البريطانية، عبر إضعاف الجيش المصري وعبر محاربة الأخذ بالنظام النيابي الذي أخذت الحركة الوطنية بمصر تطالب به على إثر حادثة دنشواي التي أجَّجَتْ الحركة الوطنية وشدَّتْ من ساعدها وجعلتها حركة شعبية، وجدَّدت اهتمام الصحف العالمية بالمسألة المصرية، ناهيك بأن الصحف الوطنية أخذت تعمل على تعبئة الجماهير ضد الاحتلال وأعوانه مطالبة بالجلاء والاستقلال.
فالخط الوطني بدأ في مصر بعد خلع الخديوي واستبدال الحماية بالاحتلال الذي أنهى عهدًا كان جهد النضال موزعًا فيه بين مقاومة الاحتلال والسعي لإنشاء الحكومة الدستورية، فاتَّجه المناضلون إلى تركيـز الجهود ضدَّ الحماية -وليدة الاحتلال- لإزالتها ولإرغام البريطانيِّين على الجلاء، فنشأتْ حركة سياسية للتخلُّص من الاستعمار، بدأت كحركة أعيان وبَنَتْ استراتيجيَّتها على خطَّتين، خطة متطرِّفة تنادي بالاستقلال وخطة معتدلة احتياطية تطلب أقصى ما يمكن لمصر من الحرية تحت ظلِّ الحماية، ولكن هذه الحركة ما لبث أن هيمن عليها الفلاحون والعمال والتجار والمثقفون وحوَّلوها إلى خطة تنادي بالاستقلال التام([31]).
وعبر ذلك كان مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني، باعثًا للروح الوطنية في مصر ومناديًا من بعد الأفغاني “بمصر للمصريين”، وأسس الحزب مدرسةً لنشر هذه الروح؛ فجعل قوامها في انتمائها الحضاري الإسلامي، ومن هنا، كان تأكيده على أن الدولة العثمانية هي الدولة صاحبة السيادة الشرعية على مصر، وهو في ذلك يتَّعظ ممَّا آلت إليه مغامرة محمد علي من إخفاق، وجعل من الدعوة للجامعة الإسلامية والتفاف الشعوب الإسلامية حول الدولة العثمانية، دعوةً تعزِّز هذا الانتماء في مواجهة القوى الاستعمارية المتربِّصة بأمصار العالم الإسلامي. ومضى شوطًا آخر، فنادى باعتبار “المسألة المصرية” مسألة دولية محاولًا الاستعانة بقوى أوروبا التي ضاقتْ باستحكام نفوذ بريطانيا الدولي، وفي مقدِّمتها فرنسا، مؤمِّلًا أن يشكِّلَ ذلك ضغطًا على بريطانيا لدفعها للخروج من مصر، واستطاع بذلك أن يرتفع بمستوى المعركة التي كانت بين الخديوي والإنجليز على السلطة، إلى مستوى معركة وطنية لتحرير البلاد، وتجد من يناصرها في المحافل الدولية، بل إنه نجح في نبْذ نقيصة التعصُّب الديني التي كانت تهدِّد وحدة أهل مصر، وكان صنيعه هذا أساسًا لالتئام الأقباط بالمسلمين، كرَّسته من بعده ثورة 1919 واعتبره قادة عظام، بحجم المهاتما غاندي (المهاتما غاندي، قصة تجاربي مع الحقيقة) إنجازًا يعزُّ إنجازه في غير أمة مصر([32]).
***
وسنعود لاحقًا لاستخلاص الدروس من المقارنة بين تجربة كلٍّ من محمد علي وعبد الناصر.. غير أن هذا يقتضي قبلًا أن نمضي قدمًا لنتبيَّن مكامن القصور والتعثُّر الذي طبع تجربة عبد الناصر الوحدوية، على أن لا ننسى أن غاية تحقيق الوحدة العربية لم تكن في واقع الحال غايةً قد قامت ثورة يوليو من أجلها، وإن كانت غايةُ الوحدة العربية قضيةً شغلتْ نظام دولة مصر التي رأسها عبد الناصر وعمل على تسخير دولته لتحقيقها ما وسعه ذلك.. وفي هذا يقول عبد الناصر([33]): تركيز العمل العربي يجب أن يكون في مصر، فمصر يجب أن تصبح بالفعل الدولة النواة في الوحدة العربية الممكنة، وأن تصبح النموذج الذي يمكن أن يقدِّم المثال لباقي الأمة”.
***
صحيح أن توجُّه عبد الناصر الوحدوي لم يبدأ بالاكتمال والتبلور كمرتكز رئيس لرؤيتِه التحرُّرية الإصلاحية إلا بعد تأميمه لقناة السويس ومواجهته للعدوان الثلاثي، حيث كان لموقف الجماهير العربية في مساندته أكبر الأثر في بلورة وعي عبد الناصر الوحدوي، كما كان لمعركته التحرُّرية التي بدأها بمصر أبعادها العربية الراسخة التي تجعل من البعد العربي التحرُّري الوحدوي ملاذًا لكل من يريد تحرير أيِّ قُطر عربي، سواء تعلَّق الأمر بمصر أم بغيرها من الأمصار، وأحسب أن دور عبد الناصر فيما يتَّصل بقضية الوحدة يكمن في إدراكه بحتميَّتها وضرورتها التحرُّرية من جهة، وإلى الحقائق الاجتماعية والتاريخية، التي تستدعيها من جهة أخرى، استدعاءً مصيريًّا يجعل التحرُّر الوطني والتزكية الاجتماعية مرهونين بتلبية هذا النزوع الوحدوي.
***
ولم يكن ما سبق يعني أن عبد الناصر كان يتعجَّل في بناء الوحدة العربية، ولا نريد بهذا أن نقول إنه كان يمتلك عند بدء ثورة يوليو ذلك النضوج الذي توفَّر عليه بعد الانفصال وبعد نكسة 1967 فيما يتَّصل بأسلوب تحقيق الوحدة العربية، بل نريد القول إن عبد الناصر كان يرى أن الوحدة بين مصر وسوريا تقتضي فترة إعداد كافية، والواقع أن عبد الناصر قد ذكر بالفعل أنه يتوجَّب ألَّا تقلَّ فترة الإعداد تلك عن خمس سنوات للتحضير للوحدة اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا([34]).
أمَّا لماذا قبِل عبد الناصر الوحدة قبل أوانها، فهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ضرورة النظر للأحداث في سياق ظروفها وما استدعاها، ونلخِّص هذا في الاعتبارات التالية:
– إن انتصار عبد الناصر في معركة السويس والتي انتهت باحتفاظه بقناة السويس تحت السيادة المصرية لم يُصَعِّد وحسب من تطلُّعات المصريِّين في العدالة الاجتماعية، وإنما صعَّد معها تطلُّعات جماهير الأقطار العربية قاطبة في الوحدة والتحرُّر([35]).
– وفي هذا السياق كانت واشنطن معنيَّة بمحاصرة القاهرة وعزلها، وذلك بالاستيلاء على سوريا بعد أن رفض عبد الناصر تلبية مطالب واشنطن، سواء تعلَّق الأمر بالانضواء في حلف بغداد أم بعقد صلح مع إسرائيل يُنهي الصراع العربي-الصهيوني عبر التسليم بالأمر الواقع، وهو الرفض الذي قابلتْه واشنطن بحظر المعونات الاقتصادية لإنشاء السدِّ العالي وبرفض تسليح مصر عسكريًّا، وهو ما رَدَّ عليه عبد الناصر بتأميم قناة السويس وبإبرام صفقة السلاح التشيكية التي كسر بها احتكار الغرب لتسليح المنطقة العربية.
– توالتْ محاولات واشنطن لخلخلة التوازن في دمشق ومن ثمَّ تسهيل مهمَّة غزو سوريا من الخارج، وهو غزو كانت نُذُرُهُ جليَّةً عبر الحشود التركية على حدود سوريا في منطقة إدلب وكذلك عبر حشود بغداد على حدودها مع سوريا في منطقة الحسكة ودير الزور([36]).
– وهي نُذُرٌ كان يمكن أن يصدقها الواقع لولا ظروف الحرب الباردة وتحذير موسكو لأنقرة من غزو سوريا([37])؛ وذلك في وقت بدأت موسكو تقتنع بنبذ التصوُّر الستاليني الذي لا ينظر إلى حركات التحرُّر الوطني التي تقودها الطبقات المتوسِّطة إلا من منظور الارتياب الذي يربطها بمصالح الاستعمار الرأسمالي([38]). وهي تلك الحقبة التي سُمح لجريدة “البرافدا” الروسية -وذلك في أجواء كسر القاهرة لاحتكار الغرب تسليح الأنظمة العربية وتصميم عبد الناصر على بناء السد العالي- أن تكتب مؤكِّدةً أن الحركة الوطنية في مصر قامت ضد الاستعمار، وأنها في مجال التحوُّل الاجتماعي قد نجحتْ في أن تحقِّق منجزاتٍ هائلةٍ عجزتْ عنها الأحزاب الشيوعية طوال تاريخها([39]).
– في هذه الظروف كانت الدعاية الغربية والأمريكية خصوصًا، تنشط لتُـهـوِّل من أوهام الخطر الشيوعي الماثل في سوريا والحزب الشيوعي النشط فيها، مهدِّدة خصوم واشنطن بأن شحنات الطائرات المحمَّلة بالأسلحة إلى حلفائها في المنطقة العربية كفيلة بالدفاع عن هؤلاء الحلفاء ضدَّ المخاطر الخارجية، وهو ما أجاب عنه عبد الناصر بأن السلاح الذي يُنقل في الجو هو سلاح لا يمكن إلا أن يكون خفيفًا، أما السلاح الثقيل الكفيل بمواجهة العدو الخارجي فهو شيء آخر، وأن هذه الحملات الأمريكية إنما تريد أن تقنع العرب والعالم أن منبع الخطر في المنطقة العربية يكمن في الخطر الشيوعي في سوريا وليس من الخطر الصهيوني الماثل في تل أبيب([40]).
– في هذا السياق أرسل عبد الناصر قوات مصرية إلى اللاذقية كبادرة تؤكِّد وقوف القاهرة إلى جانب دمشق، وكان لذلك أصداءً مدوية في سوريا وسائر الأقطار العربية ممَّا رفع من صدى الأصوات المطالبة في دمشق بوحدة مصر وسوريا([41]).
– وقد تبع هذا موجة من زيارة السياسيِّين والعسكريِّين السوريِّين إلى القاهرة مطالبين بوحدة رأوها ملاذًا تواجه به سوريا الأخطار الخارجية المحدقة بها، والتي وجدوها البديل الوحيد لتجنُّب قتال داخلي بين الأجنحة العسكرية المتنابذة في سوريا أواخر العام 1957، وهو تنابذ عزَّزَتْه الصراعات بين الأحزاب السورية التي غذتها التدخُّلات الأمريكية بالخصوص([42]).
– في مواجهة هذا كان عبد الناصر واضحًا بأنه لا يصحُّ أن يتَّخذ قرار الوحدة بين دمشق والقاهرة كإجراء لمواجهة أزمة طارئة، لكنه قَبِل في نهاية المطاف مبدأ الوحدة لأنه وجد أن تلبيتَها محتومة وتحصيل حاصل لئـلَّا تنفجر سوريا من الداخل، غير أنه رَهَنَ موافقتَه عليها بشروط ثلاثة: (1) استفتاء الشعب في مصر وسوريا بشأن الوحدة (2) حل الأحزاب السورية قاطبة شأنها في ذلك شأن الأحزاب المصرية التي حُلَّتْ بعد الثورة (3) إنهاء القادة العسكريِّين السوريِّين تدخُّلاتهم في السياسة وعودتهم إلى ثكناتهم شأنهم في ذلك شأن الضباط الأحرار، الذين إمَّا اعتزلوا السياسة وبقوا في الجيش أو خرجوا من الجيش ليعملوا في السياسة([43]).
– وفي هذا كله لم يقبل عبد الناصر أن يكون محاوروه الأساسيُّون هم العسكريُّون، وإنما من يُمثِّل المؤسَّسات الدستورية السورية وعلى رأسها الرئيس شكري القوتلي وإلى جانبه وزير الخارجية المنظِّر والقيادي البعثي صلاح الدين البيطار([44]).
***
– ولا يخفى أن السؤال الذي يتوجَّب طرحه الآن ليس لماذا قبل عبد الناصر الوحدة؟ فقد كان سياق الأحداث وأولويات التحرر ومواجهة الخصوم تقتضيها، إن السؤال الصحيح هو لماذا عجز نظام يوليو عن الحفاظ على هذه الوحدة ولِـمَ أخفقَ في مواجهة الانفصال، وقبل أن نعرض لأسباب هذا الإخفاق على لسان محمد حسنين هيكل أبرز رفاق عبد الناصر ومحاوريه([45])، نرى أنه يتوجَّب ألَّا يغيب عن بالنا أن طبيعة هذه الأسباب هي من نفس طينة الأسباب التي أدَّتْ إلى هزيمة عام 1967 وإلى ما عرفه نظام عبد الناصر من سوء نظر وتدبير على صعيد إدارة الصراع العسكري في اليمن ومن قبلها في المواجهة العسكرية -ولا نقول السياسية- في مواجهة قوى عدوان 1956، ناهيك عن أنها أسباب تفسِّر أيضًا انهيار النظام الناصري بعد وفاة عبد الناصر.
***
يؤكِّد هيكل أنه ما كان لعبد الناصر أن يُفاجأَ بالانفصال؛ لأن مؤشِّراته كانت كثيرة، فقد كانت طبيعة النقاشات مع القيادات السورية، وفي أسلوب اتِّخاذ القرار وارتجاليَّته، وبالخصوص ما تعلَّق منه بتحويل مياه الأردن حيث كانت القيادات السورية ومنها البيطار والسَرَّاج تدفع نحو الصدام العسكري، بينما كان عبد الناصر يرى أن دولة الوحدة لا زالت غير مؤهَّلة لخوض هذا الصدام، وباختصار كانت هذه المؤشِّرات تتلخَّص فيما يلي([46]):
– إن ظروف العسكريِّين والسياسيِّين السوريِّين التي دفعتْ نحو الوحدة هي من جنس الظروف التي دفعتْهم لفرض الانفصال عندما اصطدمت مصالحهم الضيِّقة في حكم سوريا ببعضها البعض، وخطيئة عبد الناصر هنا تكْمن في أنه لم يَقُمْ بما عليه تجاه هذه الوضعية الخطيرة التي أحاطت بحكم سوريا، خاصة بعد أن أصبح مركز الحكم في القاهرة، أي بعيدًا عن دمشق ممَّا أوجدَ حالةً من الفراغ المدمر.
– إن عبد الناصر لم يقمْ بتحيين رؤيته للصراعات في سوريا، واستعاض عن ذلك بخلق بؤرتين عوَّل عليهما لتحقيق التوازن في سوريا بما لا يذهب بها نحو الانفصال ولا يرهنها بالإرادة المصرية، فجعل من عبد الحكيم عامر ممثِّلًا له في سوريا في ذات الوقت الذي جعل من الضابط السوري المرموق عبد الحميد السرَّاج أداته الرئيسة في حكم سوريا، وكان من سخرية القدر أن يتمَّ التخطيط لمؤامرة الإنفصال من داخل دائرة الضباط السوريِّين اللصيقة بعبد الحكيم عامر والمناوِئة للسَرَّاج([47]).
– أي إن عبد الناصر اعتمدَ في تحقيق الوحدة على أجهزة الدولة، مؤمِّلًا أن تسهرَ الجماهير الوحدوية الموالية له على منع ضرب هذه التجربة، وهو في هذا قد تناسَى أن ولاءَ الجماهير يحتاج إلى ما ومن يوظِّفه وينظِّمه ويوجِّهه ليكون ولاءً فاعلًا ومنجِزًا([48]).
– وبالتالي فإن وضع سوريا الذي كان هشًّا([49]) قبل الوحدة، ظلَّ واقعًا سياسيًّا هشًّا بعدها.
– كان على عبد الناصر أن يدرك أن العسكريِّين والحزبيِّين وفي طليعتهم البعثيِّين، كانت لهم توقُّعات عالية لاستحقاقات يرون أنه يتوجَّب تأديتُها لهم مقابل مساهمتهم في تحقيق الوحدة (أو بالأحرى فرضها)، والواقع أنه كان للقادة البعثيِّين بالفعل دور تبشيري بالوحدة، إلا أن الأسلوب الذي تمَّتْ به الوحدة كان علامةً على فشل البعثيِّين في تحقيق الوحدة بالأساليب التعبويَّة التي مارسوها قبل الوحدة([50]).
– إن عبد الناصر الذي كان يفهم نبض المصريِّين وتطلُّعهم للعدالة الاجتماعية ويفهم جماهير مدنها، كان بعيدًا عن فهم جماهير سوريا بقبائلها وعشائرها؛ وبالتالي فقد أخفقَ عبد الناصر في استيعاب حركة فوران الجماهير في سوريا، التي ما كان ليقنعها البناء الاقتصادي والتحوُّل الاشتراكي بقدرِ ما كان يعنيها التقدُّم نحو ترسيخ البناء الوحدوي ومؤسَّساته على طريق مواجهة الخطر الصهيوني المحدق بحدود دمشق([51]).
***
في كتابه “في المسألة القومیة الدیمقراطیة” یتحدَّث یاسین الحافظ بإسهاب عن تجربة الوحدة المصریة-السوریة وعن تطوُّر وعي عبد الناصر الوحدوي، وهو في هذا یتحدَّث كمنظِّر اشتراكي ماركسي ووحدوي عربي، كماركسي تحدَّث یاسین الحافظ عن طابع التردُّد والمساومة البرجوازی للقيادات المصریة التي كانت تحكم نظام 23 یولیو وألقى عليها مسؤولیة في تردُّدها واستخفافها بقضیة الوحدة من حیث أولويَّتها كمدخلٍ للتحرُّر العربي ومستقبله، ونحسب الحافظ مُـحقًّا فیما یتَّصل بافتقاد عبد الناصر لأداة طلیعية ثوریة لها حزبها وعقائديَّتها (الأیدیولوجیة)، یمكن له الاتِّكاء عليها لتحقيق الثورة والوحدة العربیَّتين، ولسنا بحاجة بطبيعة الحال أن نُرجِع هذا الافتقاد إلى برجوازیة وعي رفاق عبد الناصر في قیادة الثوة وإلى إحجامهم عن خيانة وعيهم الطبقي، إذ يمكن إرجاعه بداهةً إلى قصور وعيهم السیاسي -سواء كانوا من البورجوازية أم من الفلاحين أم من أوساطٍ مهمَّشة- بحكم حداثة التجربة من جهة، وبحكم الخلفیة المهنيَّة والشخصیَّة التي لم تكن قد أعدَّتهم لمواجهة التحدیات التي واجهتهم بعد نجاحهم في حركتهم في 23 یولیو.
غیر أن یاسین الحافظ قد أصاب أيضًا -كما نحسب- عندما شخَّص أسباب إحجام عبد الناصر إو إخفاقه في ضرب الانفصال، وتشخیصه لهذه الأسباب التي لا تتعلَّق في واقع الحال بعقائدية الحافظ الماركسیة، فهو یرجع أسباب ذلك([52])، من جهة إلى أنه في لحظة الانفصال توهَّم عبد الناصر خطأً أن غالبیة الجیش السوري كانت مع الانفصال، وأن غالبیة جماهير سوریا أو قطاعًا كبیرًا منها كان یدعم الانفصال، ومن جهة ثانیة لا يدين الحافظ وجود النخبة العسكریة المصریة في مواقع حكم سوریا، وإنما هو یتحفَّظ على قصور وعيها السیاسي وتدنِّي كفاءتها الإداریة، وبالنسبة إليه، فقد جعل ذلك تلك النُّخب العسكرية المصرية فریسة سهلة لاستدراجها في دمشق من قِبَلِ قیادات عسكریة سوریة ألَّبَتْها البرجوازیة السوریة المتضرِّرة من تأمیمات عبد الناصر للمشاریع الصناعیة الكبرى في سوریا (في یولیو 1961)، أي شهران قبل تحقُّق الانفصال في 28 سبتمبر 1961.
وفي تشخيصه یقدِّم الحافظ سببًا ثالثًا ذا سمة ذاتیة تتَّصل بشخصیة عبد الناصر، وهو أن إحجام عبد الناصر عن المسارعة في ضرب قوى الانفصال عسكریًّا قد كانت محاولة منه على الصعید النفسي لتجاهل ما اعتبره مَسًّا بكبریائه الشخصي. ویبدو لنا أن لهذه الاعتبارات أهميتها، فهيكل رفیق عبد الناصر نفسه قد أشار إلى هذا، وإن كان یشیر إلى أن عبد الناصر استطاع سریعًا تجاوز هذا الأمر، ولا یخفى أن السِمَةَ الجماعیة الواجبة لقیادة أي عمل سياسي وطني إنما تعني فیما تعنيه أن تُحَصِّن المسیرة السیاسیة من التداعیات السلبیة لأیما اعتبارات شخصیة قد تنعكس سلبًا على المسیرة السیاسیة والنضالية، وهي في الواقع سمةٌ كان عبد الناصر يستوحش من أنه يفتقدها ومن أجل ذلك عمل مرارًا على إيجاد هيئة سياسية تشاركه ويشاركها تطلُّعاتهما الوطنية والتحرُّرية.
ویعتبر یاسین الحافظ أن إسقاط الوحدة (ولا یقول سقوطها أو فشلها) یعود في التحلیل الأخیر لمسألة الوعي السیاسي، وهو في هذا لا یتردَّد في أن یوجِّه أيضًا اتهامَه بتدنِّي الوعي السیاسي إلى ما یسمِّیه الماركساویة الاقتصادیة العربیة، وهي تتآمر على المشروع الوحدوي العربي، إلا أنه مع ذلك یعتبر أن المشروع الوحدوي العربي یشكِّل أرضیة مناسبة للنهضة والتقدُّم العربیَّیْن، أي أنه لا یرهن مصير تحقُّق مثل هذا التقدُّم وهذه النهضة بالمشروع الوحدوي، وإنما یفترض وحسب أنه أرضیة مناسبة لتحقُّق هذه النهضة المنشودة([53]).
***
يبقى بعد هذا أن عبد الناصر كان بإمكانه من الناحية العسكرية أن يقضي على قوى الانقلاب لولا إدارة عبد الحكيم عامر -حين كان على رأس حكم سوريا في دمشق- كانت إدارةً سيئة للمواجهة مع الانفصاليِّين لحظة الانفصال، ناهيك عن إحجام عبد الناصر عن إرسال قوات عسكرية كافية لضرب قوات الانقلاب وتلكُّئه في ذلك، رغم وجود فرص قوية في القضاء عليها، وبالرغم من التضحيات الكبيرة والتداعيات السلبية التي كان يمكن لمثل هذا الأسلوب أن يؤدِّي إليها -وهو بالطبع كان أمرًا في حسبان عبد الناصر- لو تطوَّر إلى اصطدامات قوية على أرض سوريا بين قوى الانفصال وقوى الوحدة، فإن هذا التلكُّـؤ قد أدَّى في نهاية المطاف إلى توالِي الاعتراف بالانفصال بدءًا من عمَّان الهاشمية ومباشرة بعدها من موسكو السوفيتية، التي كانت تريد على ما يبدو الحيلولة دون نمو مشروع عبد الناصر الوحدوي الذي كان الكرملين يرى أنه يهدِّد أمنه القومي، لما يمكن أن تؤدِّيَ له الوحدة العربية من تهديد للأمن السوفيتي نتيجةً لقوة جذبها الهائلة لشعوب إسلامية في جمهويات الاتحاد السوفيتي ولعواطفها الدينية والحضارية الإسلاميَّتَيْن.
***
ولعله قد وجب هنا أن نقف لنلحظ البون الشاسع الذي يعلو برؤية عبد الناصر -لا بصفته رئيسًا لمصر وإنما بصفته- الثائر التحرُّري والقائد لجماهير مصر وأمَّتها العربية، وذلك إذا قارنَّا بين نُضج الرؤية والمعالجة والحصيلة لديه بتلك التي كانت لدى محمد علي باشا:
1) استدعيت زعامة ناصر لسوريا استدعاءً لإنجاز الوحدة؛ بينما كان التئام مصر محمد علي بالشام والحجاز بمثابة الضم الذي يعقب الغزو.
2) كان محمد علي مسؤولًا مسؤولية مباشرة عن عناصر الخلل في جبهته الداخلية التي جعلت الثورات والانتفاضات الأهلية تزلزل أقدام سطوته وبالخصوص خارج مصر في لبنان وفلسطين من الشام.
3) في حين فوَّت تنمُّر محمد علي باشا على عمر مكرم ونقابة الأشراف فرصة تعبئة مِصر تعبئةً تعينه على ما هو مقدمٌ عليه خارجها، حصد عبد الناصر ولاء جماهير قضيته في مصر والشام بل وفي سائر أرجاء الإقليم العربي.
4) إن كان عبد الناصر قد أخفق بداية الانفصال في تلمُّس عمق ذلك الولاء في صفوف جماهير سوريا وجيشها على السواء، إضافةً إلى عجزه عن توظيف هذا الولاء تنظيمًا وتعبئةً وذلك بحكم ظروف التجزئة وقيود مسؤولياته البيروقراطية، فإن محمد علي باشا ما كان على الأرجح ليدور بخلده أهمية وضرورة بناء جهوده النهضوية على إيمان الناس بمرتكزاتها وعلى ثقتهم بأن دوافعه في تحقيق النهوض تتَّفق ودوافعهم وما ترجوه منه.
5) استوى الاثنان تردُّدًا في اقتناص لحظة الحسم في أوانه، فتردَّد محمد علي طويلًا في قرار دخول عاصمة السلطنة العثمانية إلى أن أتاه إنذار قُوى أوروبا متوعِّدةً بالحرب إن لم يرجع إلى حدود ولاية مصر، فنكص نكوصًا لا يرجو أملًا بتجاوزه، وكذلك تردَّدَ عبد الناصر في ضرب الانفصال عسكريًّا، لكنه تردُّدٌ أعقبه إدراك لدى عبد الناصر بأنه تردُّدٌ موهوم يفتقد لموجباته، لذا سرعان ما ذهب وهم عبد الناصر ليحلَّ مكانه إيمانه بحتمية قضية الوحدة العربية وإيمانه بجماهيرها.
6) وإلى جانب ما سبق ذكره، فإن تجربة محمد علي قد عرفت مغالاة في فرض السُّخرة والضرائب والقروض الإجبارية على الناس، أمَّا تجربة عبد الناصر فإنها من جهة قد عرفت الإصلاح الزراعي والبناء الاشتراكي الذي يستهدف رفاهية الغالبية الغالبة من الشعب، وهي من جهة أخرى لم تعرف كثيرًا ممَّا عرفته تجارب الحكم الشمولي التي عاصرَ عبدُ الناصر أصداءها سواءً لدى الأنظمة الستالينية أم غيرها من تلك التي حاكى شموليَّتها عنفٌ اجتماعيٌ قمَعَ الحريات قمعًا عنيفًا وأذهب بالحديد والنار ملايين الأرواح.
7) لذا لم يكن غريبًا -وخلافًا لمحمد علي- أن يكون عبد الناصر مؤهَّلًا وقادرًا على مواجهة التحدِّي إثر التحدِّي بصلابة وأمل، فواجه العدوان الثلاثي سنة 1956 واحتفظَ بسلطان مصر وسيادتها على قناة السويس، وحين أُسقطتْ وحدة مصر وسوريا لم يفقد عبد الناصر ولم تفقد جماهير الوحدة العربية الأمل في تحقيق الوحدة والإصرار على تحقيقها، وحين انهزم عبد الناصر وأمَّته سنة 1967 رفضتْ جماهير مصر وسائر أمَّتها العربية الهزيمة وتمسَّكَتْ بعبد الناصر قائدًا لمسيرة الخروج من مستنقع الهزيمة إلى ذرى منشودة للانتصار.
***
هكذا يمكننا في نهاية مطافنا القول بأن الوحدة العربية لم تكن بالقطع قضية عبد الناصر ورفاقه في مجلس الثورة عشية 23 يوليو 1952 ناهيك بأن تكون قضيَّتهم الأولى. فلا مراء في أن قضية ثورة يوليو الأولى كانت الاستقلال والتحرُّر من الاحتلال البريطاني، وهو استقلال تحقَّق تحت قيادة عبد الناصر فاستحقَّ به أن يكون البطل لدى جماهير مصر والعرب، رغم أنه استقلال أدَّى إلى انفصال جنوب وادي النيل السوداني عن شماله في مصر، وهذا إذ يومِئ إلى غياب أولوية قضايا الوحدة لدى ثورة يوليو، فإنه يبين أن ما أنجزه عبد الناصر على صعيد الاستقلال قد شفع له من الملامة أمام جماهير أمَّته المتعطِّشة لانتصارات بَعُدَ عهدُها بها، فقد كان أبعدَ من تصوُّرات المصريِّين كما يشرح أستاذنا عصمت سيف الدولة([54])، أن يأتي رجلٌ ليحلَّ بالتحرُّر مشكلة الاحتلال التي ظلَّتْ مصر تنوء بها لسبعة عقود، فينجح ببضعة أعوام في أن:
[يتَّخذ من القوات المسلحة أداةً للتحرير كما فعل أحمد عُرابي، وأن يعزل الملك فاروق حتى لا يتعرَّض للخيانة التي تعرَّض لها عرابي على يد الخديوي توفيق، وأن يوحِّد قوى الثوار حول هدف التحرير بصرف النظر عن خلافاتهم السياسية، وأن يلغي الازدواج في الخطِّ الوطني فيلغي من الأحزاب من يُمثِّل خط المساومة، ثم يستولِي على السلطة ويواجه الاحتلال بمصر كلِّها، ويحيي المقاومة الشعبية ليفاوض الاحتلال في ظلِّ القتال، ويتحدَّى دولة كبرى بالتحالف مع دولٍ غيرها، ويقاتل لينتصر، فإن انهزم لا يستسلم، ويظلُّ ملتحمًا بجماهير قضايا أمَّته وخاصة فلَّاحيـها؛ ليكتشف عبر كل ذلك الانتماء العربي القومي لمصر فيخوض بها معارك أمَّتها].
إذن، من جانب، كان المسار التحرُّري المصري لثورة يوليو هو ما جعلها وجعل قيادة عبد الناصر بالتحديد تكتشف انتماء مصر القومي العربي وأنه لا مستقبل لمصر أو لغيرها من أقطار أو دول الشعب العربي إلَّا بالممارسة الإيجابية لهذا الانتماء، أي إلَّا بتحقيق الوحدة العربية.
ومن جانب آخر، وشأنه في ذلك شأن مثيله في أي قُطْرٍ عربيٍّ آخر، كان الجهاز البيروقراطي للدولة في مصر غير مُـهـيَّئٍ لأن يكون الأداة الكفيلة بتجاوز التجزئة العربية إلى الوحدة العربية، إذ لا يمكن تحقيق الوحدة انطلاقًا من تنمية التجزئة، وإنما يمكن القيام بذلك التجاوز إذا أضْحَتْ قوى الوحدة العربية قادرة على مواجهة الدولة القُطرية فلا تسمح للدولة بأن تطويها وإنما تجعل من قوى الوحدة قوىً تعلو على قوة الدولة القطرية، فيكون مشروع قوى الوحدة هو مشروع الأمة العربية وليس مشروعًا لجزءٍ من أجزاء الأمة العربية ووطنها العربي، وذلك (أ) لِئَـلَّا يتحوَّل هذا الجزء إلى دولة إقليمية (ب) وليكون هذا الجزءُ هو الجزء النواة والقادر بقيادته على مواجهة تحديات تحقيق مهام الوحدة في كل أرجاء الإقليم العربي (ج) وذلك كله من أجل أن يمضي ذلك الجزء منطلِقًا من “وحدة الأمة العربية شعبًا ووطنًا” فيكون ملتزمًا بِها (د) ولتكون قيادة الحركة العربية -التي تقود هذا الجزء من الأمة العربية- قيادةً قادرةً على القيادة الناجزة لمسيرة الوحدة العربية في كلِّ أقطار وأرجاء الإقليم العربي وهي تتَّجه بها نحو الوحدة (ه) فلا تُفاجَأ بالوحدة، ولا تسمح بأن تترك مصير الوحدة نهبًا لخصوم الوحدة من الانفصاليِّين وسائر أعداء المستقبل العربي سواء داخل الإقليم العربي أم خارجه..
ولا ندري ما إذا كانت هذه المهمة القيادية الوحدوية التي أشار عبد الناصر إليها بأنها مهمة الحركة العربية الواحدة هي مهمة معنيَّة بضبط دولة الوحدة النواة التي أرادها عبد الناصر دولةً نموذجًا لأبناء أمَّته العربية في مصر وخارجها، غير أنه بغض النظر عن رؤية عبد الناصر بهذا الشأن، فإنه إذا ما أرادت الحركة العربية الواحدة أن تقوم بمهامِّها الوحدوية، فحينئذٍ عليـها أن تضْطلع بقيادة حركة إعادة صياغة قُطْرٍ عربّيٍ وازنٍ ليصبح دولةً نواة للوحدة العربية الشاملة، أي أن تكون الدولة النواة دولةً لكل إنسان عربي ينتمي للأمة العربية([55]).
وأحسب أن علامات المخاض لولادة الحركة العربية الواحدة قد بدأتْ تتراءَى، فليس للحراك العربي الراهن في مختلف أرجاء الوطن العربي وعلى امتداد العقد الأخير (منذ 2011) إلا أن يَلِدَ حركةً، فعلَّها تكون حركة كفيلة بتحقيق مهامِّ الوحدة العربية إن عرفتْ كيف تجعل من تمثُّلها المعنوي لتراثها ومدركاتها وتقاليدها النضالية العريقة مدخلها لتمثِّل ظروف واقع تجزئتها، فتتَّخذ من تمثُّلها المعنوي هذا منطلقًا لـمواجهة استبداد الداخل والخارج بشعبها، ومنطلقًا فكريًّا جامعًا يحفظ مصيرها ويتَّجه بها نحو المستقبل المنشود تحرُّرًا وكرامةً ورغدًا.
*****
وهذا كله يجعلنا ندرك- مع شيخنا عصمت سيف الدولة- لماذا سقطت الوحدة ووقع الانفصال بين سوريا ومصر بسهولة تثير الدهشة([56])، ذلك لأن أداة الوحدة كانت دولة مصر التي لم تكن في واقع الحال وحدوية، وإنما كانت دولة إقليمية بالرغم من أن قائدها كان وحدويًّا قوميًّا.

*****

الهوامش:

[1] للمزيد، انظر:
– عصمت سیف الدولة، نظریة الثورة العربیة، (بیروت: دار الفكر، ط1، 1972).
[2] عصمت سیف الدولة، عن الناصریین وإليهم، ( تونس: صامد للنشر والتوزیع، ط1، مارس 1989)، ص .15
[3] للمزيد، انظر:
– محمد فوزي، الاعداد لمعركة التحرير 1967- 1970، (القاهرة: دار الكرمة، ط1، 2015)
[4] محمد حسنین ھیكل، سنوات الغلیان، (القاھرة: مركز الأھرام للترجمة والنشر، ط1988،1)، الجزء الأول، ص 230.
[5] عصمت سیف الدولة، هل كان عبد الناصر دكتاتورًا ؟ (بـیروت: دار المسیرة، ط1، 1977)، ص 47 وما بعدها.
[6] محمد حسنین ھیكل، سنوات الغلیان، الجزء الأول، مرجع سابق، ص102، ص595 وغيرهما.
[7] طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970، (القاهرة: كتاب الهلال، ديسمبر 1991)، ص356.
[8] عصمت سیف الدولة، عن الناصریین وإليهم، مرجع سابق، ص111.
[9] طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970، مرجع سابق، ص363 وما بعدها
[10] منیر شفیق، التجزئة والدولة القطریة، (القاھرة: دار الشروق، 2001)، ص 6 وما بعدها.
[11] عصمت سیف الدولة، الطریق إلى الوحدة العربیة، (القاھرة: دار الطلیعة، ط1، 1968)، ص264 وما بعدها، ص371 وما بعدها.
[12] للمزيد، انظر:
– أحمد عزت عبد الكريم، محمد حسنين هيكل، خمسون عامًا على ثورة 1919، (مؤسسة الأهرام، مركز الوثائق والبحوث التاريخية لمصر المعاصرة، دار الكتاب الجديد، 1970)
[13] للمزيد، انظر:
– عصمت سیف الدولة، الأحزاب ومشكلة الدیمقراطیة في مصر، (بـیروت: دار المسیرة، ب.ت)، ص30 وما بعدها
[14] محمد حسنین هيكل، سنوات الغلیان، الجزء الأول، مرجع سابق، ص271 على سبيل المثال.
[15] وليم سليمان قلادة، المسيحية والإسلام على أرض مصر، (القاهرة: دار الحرية، 1986)، ص ص174-5.
[16] حامد ربيع، الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي، (القاهرة: دار الموقف العربي، 1983)، ص 243.
[17] المرجع السابق، ص243.
[18] ) المرجع السابق، ص238-239.
[19] المرجع السابق، 237.
[20] محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، (القاهرة: مكتبة الآداب، ج1، ط2، 1382ه)، ص8- 9، 23.
[21] وليم سليمان قلادة، المسيحية والإسلام على أرض مصر، مرجع سابق، ص 184.
[22] ) عبد الرحمن زكي، “حملة الشام الأولى والثانية (1831-1839)”، (في) عبد الحميد البطريق وآخرون، ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا 1848-1948: مجموعة أبحاث ودراسات لتاريخه تنشرها الجمعية بمناسبة انقضاء مئة عام على وفاته (القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1948)، ص293.
[23] المرجع السابق، ص 291، 297، 359.
[24] المرجع السابق، ص 296.
[25] محمد أحمد حسونة بك، “إبراهيم باشا في بلاد اليونان الجمعية الملكية للدراسات التاريخية”، (في) عبد الحميد البطريق وآخرون، ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا 1848-1948: مجموعة أبحاث ودراسات لتاريخه تنشرها الجمعية بمناسبة انقضاء مئة عام على وفاته، المرجع السابق، ص 36.
[26] أحمد فؤاد متولي، “المماليك يرفضون الاشتراك في محاربة السلفيين تحديا لأوامر محمد علي: دراسة من واقع الوثائق التركية”، مجلة الدراسات الشرقية، القاهرة، العدد الثالث، ديسمبر 1985م، ص29.
[27] أنور عبد الملك، نهضة مصر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ط 1)، ص23،24،69.
[28] عبد الرحمن زكي، “حملة الشام الأولى والثانية (1831-1839)”،مرجع سابق، ص 292.
[29] ) عباس محمود العقاد، عبد الرحمن الكواكبي، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1969م)، ص 126.
[30] ) طارق البشري، الحوار الإسلامي العلماني، (القاهرة: دار الشروق، 2006، ط3)، ص ص 18-20
[31] عبد العظيم محمد إبراهيم رمضان، تطور الحركة الوطنية في مصر من سنة 1918-1936 (القاهرة: دار الكتاب للطباعة والنشر، 1998)، ص5.
[32] ) للمزيد، انظر:
– المهاتما غاندي، قصة تجاربي مع الحقيقة، (بيروت: دار العلم للملايين، ط7، 2007).
[33] محمد حسنین ھیكل، سنوات الغلیان، الجزء الأول، مرجع سابق، ص595.
[34] المرجع السابق، ص272.
[35] ) المرجع السابق، ص 61.
[36] ) المرجع السابق، ص 256.
[37] ) المرجع السابق، ص261.
( [38] المرجع السابق، ص260
[39] المرجع السابق، ص 256
[40] المرجع السابق، ص 264 وما بعدها
[41] المرجع السابق، ص 269-271.
[42] المرجع السابق، ص 272 وما بعدها.
[43] المرجع السابق، ص 279.
[44] المرجع السابق، ص 277 وما بعدها.
[45] المرجع السابق، ص 555 وما بعدها.
[46] المرجع السابق، ص235 وما بعدها.
[47] المرجع السابق، ص 568 وما بعدها.
[48] المرجع السابق، ص 556.
[49] المرجع السابق، ص 558.
[50] المرجع السابق، ص556.
[51] نفس المرجع.
[52] یاسین الحافظ، في المسألة الدیموقراطیة، (بیروت، دار الطلیعة، ط1، یولیو 1981)، ص85.
[53] المرجع السابق، ص102،120.
[54] عصمت سیف الدولة، عن الناصریین وإليهم، مرجع سابق، ص 79.
[55] المرجع السابق، ص 113.
[56] المرجع السابق، ص 111.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى