الشورى والديمقراطية

انقسم اللقاء الثاني عشر  من دورة المدارسات الفكرية إلى محاضرتين أساسيتين: المحاضرة الأولى بعنوان “بين الشورى والديمقراطية في الفكر الإسلامي” وحاضر فيها أ.د.محمد عمارة ، المحاضرة الثانية بعنوان “الشورى والديمقراطية في الحالة المصرية” وحاضر فيها أ.د. عماد شاهين.

 

ولقد استهلَّت اللقاء أ.د.نادية مصطفى بالترحيب بالمفكر الإسلامي الكبير أ.د.محمد عمارة, وبالترحيب بالأستاذ الدكتور عماد شاهين, مؤكدةً على أهمية الموضوع الذي سيتم تناوله سواء على المستوى المعرفي الفكري, أو على المستوى العملي التطبيقي وذلك نظراً لما يحيط بكل الممارسات السياسية الآن على المستويات المختلفة من حديث عن المرجعية الإسلامية وعلاقتها بأسلوب إدارة الحكم, ومحتوى إدارة الحكم, وهنا يقفز هذان المفهومان: “الشورى والديمقراطية

ومن ثمَّ سيتناول هذا التقرير أهم الأفكار التي وردت في هاتين المحاضرتين على وجه التفصيل.

أولاً- بين الشورى والديمقراطية في الفكر الإسلامي:

استهلَّ أ.د. محمد عمارة المحاضرة بالتأكيد على أن موضوع الشورى والديمقراطية من الموضوعات الشائكة في الفكر المعاصر, فهناك من يتحدث عن الديمقراطية فقط, ولا يرغب في الحديث عن الشورى, موضحاً أن مصطلح الشورى مصطلح غائب حتى في الفكر الإسلامي المعاصر, ففي ضوء النقاش في الجمعية التأسيسية كان هناك كثيرون يعترضون على استخدام مصطلح “ الشورى” وحتى كان هناك ممثلون من الأزهر يرفضون استخدام مصطلح “الشورى” في الدستور على اعتبار أنها معلمة وغير ملزمة.

وأكد أن الديمقراطية أيضاً تعد من المصطلحات الغائمة لأن الناس لا تدرك أن الديمقراطية متعددة؛ ففي العقود الأخيرة شهد العالم ديمقراطية اشتراكية, وشعبية, وليبرالية, ومن ثمَّ فهناك حاجة لسبر أغوار هذين المفهومين.

1.     الفوارق الجوهرية بين الشورى والديمقراطية:

‌أ.        الفلسفة (الرؤية المعرفية):

فالشورى هي: استخراج الرأي والمشاركة في صنع القرار, ومن ثمَّ فإنها آلية من آليات المشاركة في صنع القرار, والديمقراطية في تعريفها الشائع هي : حكم الشعب بالشعب وللشعب, ومن ثمَّ فهي أيضاً آلية لصنع القرار.

والذي يعنينا في هذا الأمر هو الفلسفة التي تحكم هذه الآلية ومسار عملها, فهذه الفلسفة هي التي تميز الآليات عن بعضها البعض.

 فنظراً لأن الشورى إسلامية؛ أي أنها جزء من المنظور الإسلامي والإيماني, ففلسفتها متعلقة برؤية الإنسان للكون, والإنسان المسلم المؤمن له رؤية للكون, فهناك الخالق العظيم وهناك مخلوق, وله رؤية لمكانة الإنسان في هذا الكون, فالإنسان خليفة (الله) في هذا الكون, وقضية الاستخلاف هذه من القضايا غاية الأهمية في الرؤية الإسلامية التي تحدد مزايا الرؤية الإسلامية عن غيرها من الرؤى,  فالخالق سبحانه وتعالى لا يقف نطاق عمله عند مجرد الخلق وإنما في تدبير الخالق لشئون الخلق والكون.

وعلى العكس من هذه الرؤية وهذه الفلسفة لدينا الرؤية الغربية لأن الديمقراطية نشأت في أثينا, وازدهرت مع النهضة الأوروبية, أثينا كان بها فلسفة عقل بلا نقل, لم يكن هناك “وحي” بل كان العقل هو المصدر الأساسي للمعرفة لا يقيده “وحي” أو “نقل”, وهنا الإنسان سيد الكون حيث لايوجد أي قيد على حرية الإنسان, فالنهضة الأوروبية كانت مناهضة للكهنوت الكنسي الذي جرَّد الإنسان من الفاعلية, فالدولة الدينية بها لاهوت ودولة, وليس هناك أمة, فكان رد الفعل العلماني, هو رفض الكهنوت, ورفض الشريعة, فليس هناك كهنوت وليس هناك شريعة, وإنما هناك أمة ودولة, بينما الدولة الإسلامية هي الدولة الوحيدة التي بها مكونات ثلاثة: شريعة, أمة مستخلفة عن الله سبحانه وتعالى, والدولة مستخلفة عن الأمة, إن (القرآن الكريم) عندما تحدث عن الشورى تحدث عنها في ثلاثة مواطن:

·        الأسرة: رضا وتشاور.

·         الأمة: أمرهم شورى بينهم.

·         الدولة: شاورهم في الأمر.

 فهذه هي المواطن الثلاث, الأسرة التي تمثل اللبنة الأولى للأمة فهي صفة للمجتمع, فالأمر لا يقتصر على الدولة أو نظام الحكم وإنما في كل مكان من المجتمع بما فيه اللبنة الأولى وهي الأسرة, وهنا ينبع موضوع ” حقوق المرأة” وموضوع ” القوامة” فنجد أن الإمام محمد عبده في تفسيره للآية الكريمة التي توضح معنى القوامة {وللرجال عليهن درجة} فهذه الآية تفرض على المرأة شيئاً وعلى الرجل أشياء, فالقوام هو دائم القيام, فنحن بحاجة لهذا الفكر, وذلك بخلاف ما هو سائد في المنظومة الغربية التي حررت الإنسان من السماء والشريعة, لكن في (القرآن الكريم) عندما يتحدث عن الذات الإلهية: {ألا له الخلق والأمر}, {قال فمن ربكم يا موسى, قال ربكم الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى}, فهنا فكرة وجود الراعي المدبر للكون والإنسان, وهو ما اقتضى وجود الأنبياء والرسل والشرائع, وهذا لطف من الله سبحانه وتعالى حيث يهئ السبيل للرشد والرشاد للإنسان.

‌ب.   الإنسان مُستخلَف وليس سيداً للكون:

ففارق أساسي بين الشورى والديمقراطية بين أن يكون الإنسان سيد الكون وبين أن يكون الإنسان خليفة لسيد الكون؛ وهذا يعني أن التشريع الابتدائي لله (سبحانه وتعالى), والإنسان يبني على هذا التشريع الابتدائي, وهذا ما يجعل في الفكر الإسلامية الحاجة إلى “علم السياسة الشرعية” علم التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد إن لم ينزل بها “وحي” أو ينطق بها :”رسول”, فهو علم المستجدات, ومن ثمَّ فكرة الإنسان خليفة هي الفكرة المحورية, فالله هو مالك الأموال والثروات.

 بينما في الرؤية الغربية التي نبعت منها الديمقراطية نجد الإنسان سيد هذا الكون وبالتالي ليس هناك سقف على الحرية سواء الشخصية والفكرية والاقتصادية, فلا سقف على سلطة الأمة, وحتى عندما وصل إلينا مفهوم الحرية الليبرالية مع الديمقراطية الغربية في القرن التاسع عشر, نجد أن عبد الله النديم (وهو مجتهد إسلامي وتلميذ الأفغاني) قد كتب عن هذا المفهوم الليبرالي الذي جاء من الغرب, حيث قال: ” إن هذه الحرية حرية بهيمية لأن الحرية الحقيقية هي معرفة الحقوق والوقوف عند الحدود“.

ومن ثمَّ فإن الاختلاف بين كون الإنسان مستخلَفاً وبين كونه سيد الكون تمثل مناط الاختلاف بين فلسفة الشورى, وفلسفة الديمقراطية, وفي هذا الإطار نستحضر مقولة الإمام محمد عبده أن “الإنسان عبد لله وحده, وسيد لكل شئ  بعده“, لأن الله (سبحانه وتعالى) سخَّر كل ما في الكون لهذا الإنسان, وجعله مختاراً ومسئولاً وحراً, وعبوديته لله وحده هي التي تحرر ملكات وطاقات الإنسان من كل الطواغيت التي كانت تستعبد هذا الإنسان.

أما في الفكر الغربي منذ اليونان كان هناك تصور لنطاق عمل الذات الإلهية, فالفكر الغربي ليس كله ملحداً, فأرسطو رأى أن الله (سبحانه وتعالى) هو خالق الكون, لكن ليس هناك علاقة تدبير قائمة بين الخالق (سبحانه وتعالى) وبين هذا الكون, فهو المحرك الأول قد خلق الكون وحركه ولكن دون تدبير, ومن ثمَّ أصبح الإنسان سيداً للكون دون سقف من الشريعة أو اللاهوت, ولقد جاء الموقف المسيحي يزكي هذا التصور الأرسطي من مبدأ “دع ما لقيصر لقيصر.. وما لله لله” فوقف الدين عند الشعائر والطقوس والعبادات, وترك قيصر حراً يفعل ما يشاء؛ لأنه سيد الكون ليس هناك سقف على حريته, بينما الإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر, وإنما أخذ على يد قيصر لأن قيصر ومال قيصر هو “لله” ايضاً, وذات الأمر بالنسبة لشعار “الدين لله والوطن للجميع” والذي يُعتبر شعاراً علمانياً, فهذا الشعار لا يعني فصل الدين؛ حيث نلاحظ أن كلمة الدين لله هي آية قرآنية؛ أي أن الدين خالصاً لله (سبحانه وتعالى), وكلمة الوطن للجميع تعني أن الله (سبحانه وتعالى) جعل الأرض كلها للأنام, ففكرة عزل السماء عن الأرض وجعل الإنسان سيدا الكون وحراً فيما يصنع في أمواله وحرياته الشخصية تمثل فلسفة العلمانية.

ج‌.    مصدر القانون:

وهنا أيضاً تجدر الإشارة إلى قضية مصدر القانون, فمصدر القانون في الفكر الغربي هو الإنسان؛ أي أن تشرع الناس ما تراه مناسباً لتحقيق المصالح, فالدولة العلمانية تشرع ما يحقق المصلحة, وفي الشورى لا نقف ضد المصلحة, فابن القيم يقول: “إن الشريعة مصلحة كلها, حكمة كلها, عدل كلها, ورحمة كلها“, ففي الفكر الإسلامي يتم الحديث عن “المصلحة الشرعية المعتبرة” وليس المصلحة بالمعنى النفعي, وبما أن الإنسان مستخلف فهو يسن القانون ويشرع في ضوء قواعد التشريع وفلسفة التشريع, ولقد تحدث عدد من المستشرقين بوضح شديد عن الفارق بين الفقه الإسلامي والقانون الغربي:

·        سانتنانا-فقيه في القانون الروماني وفقيه في الشريعة الإسلامية- يقول: إن الفقه والقانون بالنسبة إلينا(الأوربيين) وللأسلاف(الرومان) يعني ” مجموعة من القواعد السائدة التي أقرها الشعب إما رأساً أو عن طريق ممثليه, وسلطانه مستمد من الإرادة والإدراك وأخلاق البشر وعاداتهم”, إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك, “فالخضوع للقانون الإسلامي هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه, ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي فقط بل يقترف خطيئة دينية أيضاً, فالنظام القضائي والدين والقانون والأخلاق هما شكلان لا ثالث لهما لتلك الإرادة التي يستمد منها المجتمع الإسلامي وجوده وتعاليمه, فكل مسألة قانونية إنما هي مسألة ضمير والصبغة الأخلاقية تسود القانون لتوحد بين القواعد القانونية والتعاليم الأخلاقية توحيداً تاماً, والأخلاق والآداب في كل مسألة ترسم حدود القانون, فالشريعة الإسلامية شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلاً”.

·        وهناك مارسيل بواذار يقول: “من المفيد أن نذكر فرقاً جوهرياً بين الشريعة الإسلامية والتشريع الأوربي الحديث, سواء في مصدريهما المتخالفين أو في أهدافهما النهائية, فمصدر القانون في الديمقراطية الغربية هو إرادة الشعب, وهدفه النظام والعدل داخل المجتمع, أما الإسلام فالقانون صادر عن الله وبناء عليه يصير الهدف الأساسي الذي ينشده المؤمن هو البحث عن التقرب إلى الله باحترام الوحي والتقيد به, فالسلطة في الإسلام تفرض عدداً من المعايير الأخلاقية بينما تسمح في الطابع الغربي أن يختار الناس المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصرهم“, وأنا ألفت النظر لكل تقارير التنمية البشرية التي تصدر في العالم عن مراكز الدرسات فلا تجد أثراً لمعيار الأخلاق في هذه التقارير, فكلها أرقام للجانب المادي والاقتصادي, بينما المنظومة الإسلامية تتحدث عن أخلاقيات هذا القانون, وهنا تتميز المنظومة الإسلامية والشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية.

2.     مؤسسات الشورى في النظام السياسي الإسلامي:

أكد أ.د. محمد عمارة على أن الشورى تعد معلماً أساسياً من معالم النظام السياسي الإسلامي, وبالرغم من أننا نسمع كثيرين يقولون أن الإسلاميين ليس لديهم مشروع للنظام الإسلامي, يؤكد أن النظام يعني المؤسسات, والخلاف ليس في المؤسسات بين الشورى والديمقراطية, وإنما الخلاف هو في فلسفة عمل هذه المؤسسات وفلسفة التشريع, ومن ثمَّ فالمشكلة في الفلسفة التي تحكم عمل هذه المؤسسات.

 وفي الفقه الإسلامي أثيرت قضية هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ وفكرة أن الشورى غير ملزمة فكرة نشأت مع نظم الاستبداد في التاريخ الإسلامي؛ لأن النظام الإسلامي بدأ بالدولة الإسلامية الأولى “دولة النبوة” وما يسمى بالجمعية التأسيسية كانت بيعة العقبة في السنة الأولى قبل الهجرة, فالرسول (صلى الله عليه وسلم) بنى الدولة الأولى على المؤسسات, وهذه قضية في دراسة الشورى بحاجة لإعادة نظر؛ لأن كثيرين من الذين كتبوا عن الدولة الإسلامية الأولى, يقولون إن الخلفاء الراشدين الأربعة تولوا بطرق مختلفة وهذا غير صحيح, تجدون هذا الكلام وكأنه إجماع بين من كتب في ذلك الأمر؛ نظراً لغياب الإدراك بأن هذه الدولة بنيت على فلسفة الشورى, وشورى المؤسسات, فهناك ثلاث مؤسسات أساسية بنيت عليهم الدولة الإسلامية الأولى, ففي بيعة العقبة التي مثلت الجمية التأسيسية لإقامة الدولة الإسلامية الأولى, كان عدد من بايع الرسول (صلى الله عليه وسلم) خمسة وسبعين, منهم ثلاثة وسبعون رجلاً, وامرأتان, فالمرأة شاركت في أعلى مستويات الولاية السياسية في ذلك التاريخ قبل أربعة عشر قرن,  و”الرسول” (صلى الله عليه وسلم) قد طلب منكم أن يختارو اثنى عشر نقيباً, وهنا الاختيار بالانتخاب وذلك قبل أن يعرف العالم ديمقراطية أثينا, فولدت أولى المؤسسات السياسية التي سميت في التراث الإسلامي السياسي وهي:

‌أ.        مؤسسة الوزراء“.

‌ب.   وكان هناك أيضاً ما يسمى بـ” مؤسسة الأمراء” وكانت مكونة من عشر أعضاء, هؤلاء العشرة عندما هاجر الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة كان المسجد إلى جانب كونه دار عبادة, فقد كان يمثل أيضاً دار حكومة, ودار الدولة, ودار العلم والتعليم, فهؤلاء العشرة كانت بيوتهم حول المسجد ولها أبواب تفتح على المسجد, فهي هيئة لها خصوصية وقيادة, بل وكانوا في الصلاة يقفون خلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي الحرب يقفون أمامه.

وفي عهود الاستبداد قد اختزلنا وظيفة هؤلاء الأعضاء في أنهم ” العشر المبشرون بالجنة”, والتبشير بالجنة لا يعد وظيفة, فكل المؤمنين بنص القرآن الكريم مبشرون بالجنة, فمن ينفتح على الحضارات الأخرى ويتفاعل معها فيختار أفضل ما فيها فهو مبشَّر بالجنة  {بشر عبادي الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه}, العشر كانوا زعماء في بطون قريش وكان لهم قيادات, واسمهم الحقيقي المهاجرون الأولون, وكانت وظيفتهم الترشيح للخلافة وليس البيعة, وكأنها لجنة مركزية ترشح الخليفة ثم تجمع له البيعة العامة من الأمة كلها, ولقد طبق هذا الفكر الدستوري على الخلفاء الأربعة فكان اختيارههم بنظام واحد, ففي “سقيفة بني ساعدة” عندما حدث الخلاف بين المهاجرين والأنصار, فسيدنا أبو بكر الصديق قد حسم الخلاف بتوزيع السلطة في الدولة بين المؤسستين قائلاً: منا الأمراء ومنكم الوزراء؛ أي حسم الخلاف بين مؤسستين دستوريتين, فتم الاتفاق على توزيع السلطة في دولة الخلافة بين مؤسستين دستوريتين, وبدأ البيعة اثنان من المهاجين الأولين: عمر أبو عبيدة وثالثهما أبو بكر ثم جمعت لهم البيعة العامة من “سقيفة بني ساعدة” وغيرها, وعندما توفى سيدنا أبو بكر الصيق (رضي الله عنه), جُمع العشر فاتفقوا على ترشيح سيدنا عمر بن الخطب (رضي الله عنه), وكتبوا كتاباً بعد وفاة سيدنا أبي بكر الصديق (رضي الله عنه), وأعلن الكتاب, وجمعت له البيعة العامة, وعندما طُعن سيدنا سيدنا عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) جعل الأمر في الستة وهم باقي العشر, وحتى عندما أضاف لهم ابنه عبد الله (رضي الله عنه) جعل له الرأي ولم يجعل له صوتاً؛ أي ليس عضواً, وهنا تظهر الدقة في تطبيق مبدأ الشورى والالتزام بالمؤسسية, وهؤلاء هم الذين اتفقوا على ترشيح سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه), ولكن عندما استشهد سيدنا عثمان بن عفان(رضي الله عنه) ذهب الثوار إلى سيدنا علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)  ليبايعوه, فقال: ” هذا ليس لكم, هذا للمهاجرين الأولين”, وفي واقع الأمر كان من العشر من توفي, ومنهم من اعتزل, فجاءوا بطلعة والزبير الذين مثّلا بقية هذه الهيئة, ولقد رشحوا الإمام علي, وبعد ترشيحه جمعت له البيعة العامة, وسيدنا  علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أراد أن يوسع من هذه الهيئة ” هيئة الأمراء” فيضم إليها باقي البدريين الذين حضروا غزوة بدر لكن جاءت الفتنة والمنازعات فلم يتم الأمر.

 إذن الخلفاء الراشدين الأربعة من خلال مبدأ المؤسسية تولوا جميعاً بذات النظام من خلال هيئة دستورية “هيئة الأمراء” التي ترشح للخلافة ثم تجمع البيعة لهم, وهنا الفارق بين الشورى والديمقراطية, فالأمة دائماً كان يؤخذ برأيها, فعندما طُعن سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه), واجتمع الستة مع عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) فاتفقوا أن سيدنا عبد الرحمن بن عوف يأخذ رأي الناس؛ فلم يترك رجلاً أو امرأةً, كبيراً أو صغيراً, حراً أو عبداً إلا وسأله ترى من الخليفة عبد سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه), بينما الديمقراطية على مر تاريخها كانت طبقية؛ لأنه من كان يتمتع ببمارسة الديمقراطية في أثينا كانوا قلة من الفرسان الملاك الأحرار, يجتمعون في الميدان, يوكلون لهم كل الحقوق, ومن عداهم برابرة لا حقوق لهم, بدءاً من المرأة وحتى الشعوب الأخرى, في الحضارة  الرومانية أيضاً حتى القانون الروماني كان شرفاً لا يناله إلا القلة من الأحرار الفرسان الملاك, فشعوب المستعمرات لها قوانين أخرى أي ليس لها أن تحاكم وفقاً للقانون الروماني, فلقد ظلت الديمقراطية -على مر تاريخها واختلاف أنواعها شعبية أواشتراكية أوليبرالية- طبقية, بينما كانت الشورى الإسلامية هي الشورى للأمة.

‌ج.     إن المؤسسة الثالثة التي غابت وغامت في التراث الإسلامي وخاصةً في عصور استبداد الدولة هي “مجلس الشورى“: فقد كان مجلساً مكوناً من سبعين عضواً يجتمع في مسجد النبوة في مكان محدد, وفي أوقات محددة, وتعرض عليه شؤون الدولة, ولقد سُمي بـ”مجلس السبعين“.

3.     الشورى مُلزمة وليست مُعلمة:

إن قراءة السنة والسيرة النبوية, تؤكد على أن الشورى ملزمة وليست معلمة؛ فعندما يقول الرسول(صلى الله عليه وسلم) لسيدنا أبوبكر الصديق وسيدنا عمر بن الخطاب(رضي الله عنهما): “لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكم“, فعندما يتخذ الرسول(صلى الله عليه وسلم) موقفاً أو قراراً يُسأل: يارسول الله أهو الوحي أم الرأي والمشورة, فهناك نطاقان لتدبير لله سبحانه وتعالى: فهناك قضاء وأمر حتمي, وهناك قضاء وأمر للتخيير, فالنوع الثاني من التدبير هو المتعلق باستخلاف الإنسان في الأرض, وهناك عبارة شهيرة لابن حزم: “إن من حكم الله أن جعل الحكم لغير الله“, ومن ثمَّ ففي الأمور التي لم تأتِ من الوحي فلا تعبر عن تدبير حتمي, فالرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى جانب كونه رسول ونبي, فهو(صلى الله عليه وسلم) رجل دولة أيضاً فعندما يقول في حديثه الشريف: “لو كنت مُأمراً أحداً دون مشورة المسلمين لأمرت ابن أم عبد” وهذا يعني أنه لا يستطيع أن يُأمر أميراً للجيش بالرغم من كونه رئيساً للدولة إلا بمشورة المؤمنين, فهذه القراءة الدقيقة للسيرة النبوية الشريفة تفيد بأن  الشورى مُلزمة وليست مُعلمة, وعندما قيل من أحد الشيوخ الكبار أنها مُعملة وليست مُلزمة, علَّق الشيخ محمد الغزالي قائلاً: “هذه كلمة جبانة تكرس للاستبداد“.

 وهناك وقائع شهيرة تؤكد على أنها ملزمة مثل غزوة بدر في المنزل: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة, فينزل على رأي الشورى, وكذلك في غزوة الأحزاب عقد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مشروع معاهدة, لكن لايمكن أن يصدق على المعاهدة إلا بمشورة أهل المدينة, وعندما تم رفض المعاهدة, مزَّق (صلى الله عليه وسلم) مشروع المعاهدة, فسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في النظام السياسي في أمور الدنيا والتدبير للمجتمع كانت دائماً بالشورى, وكانت الشورى ملزمة, لأنه (صلى الله عليه وسلم) هنا مجتهد وليس مُبلَّغ, فعندما يكون مُبلغاً لرسالة عن السماء فهنا السمع والطاعة حتى ولو لم نعرف الحكمة من هذا الأمر.

4.     الشورى في التاريخ الإسلامي:

إن ما حدث بعد دولة الخلفاء الراشدين لم يكن ظلامياً كما يُقال؛ حيث إن تاريخنا هو تاريخ الدولة والسلطة والسلطان, ولقد انحرفت الدولة والسلطة في أمرين العدالة الاجتماعية والشورى, لكن الأمة احتضنت العدالة الاجتماعية واحتضنت الشورى؛ حيث ظلت المؤسسات التي غابت من الدولة موجودة في الأمة, ولقد تميز التاريخ الإسلامي بتحجيم الدولة وتعظيم الأمة, فالأمة هي التي شيَّدت الحضارة التي امتدت لأكثر من عشر قرون وتعلم العالم منها في ظل انحراف الدولة, فحتى الجهاد كان يمول من الأوقاف, فالأوقاف مولَّت صناعة الحضارة على مر التاريخ الإسلامي, فقد كانت المؤسسة الأم الأهلية التمويلية, فنجد بلداً مثل مصر بلداً زراعياً, في بعض العصور كانت أكثر من نصف مساحة الأرض الزراعية أوقاف؛ وحيث إن هذا التاريخ كان تاريخ الدولة فظهرت وتجلت عيوب هذا التاريخ؛ لأن عيوب الدولة كانت كبيرة, فلم يكتب تاريخ الأمة, ولم يكتب تاريخ الواقع, وبالتالي فإن تاريخ الأمة لابد وأن يكتب, ولدينا فن تفردت به الحضارة الإسلامية وهو “الخطط” الذي يؤرخ للواقع للاقتصاد وللاجتماع للأولياء والمزارات والأحجار والأبنية والطرق ولكل شئ, ويتضح أن المؤسسات التي غابت عن الدولة لم تغب عن الأمة, فمثلاً عام 1805 كان يوجد في الأزهر “مجلس الشرع” وقرروا عزل الوالي التركي, فكان تعبيراً على أن الأمة مصدر السلطات, فالأمة تعزل الولاة الجائرين بل وتعزل السلاطين والخلفاء, ويتم اختيار محمد علي بالشورى بناءً على شروطهم, وحتى الصوفية كانت مؤسسة.

إذن كانت هناك مؤسسات كثيرة متعددة ومتنوعة, فقد كان هناك مؤسسات للصناع والتجار, وللحرف والصنائع, ولقد قاومت الأمة في مواجهة الحملة الفرنسية, لكن عندما توغلت الدولة في عصر محمد علي حجمت دور الأمة.

ومن ثمَّ فإنالشورى لم تغب تماماً وإن كانت تراجعت في عصور الاستبداد, فنحن دائماً نخلط بين المثال والواقع, ولذلك فمن حكم (الله) سبحانه وتعالى أننا حين نسعى لتطبيق (الإسلام) فنحن نسعى نحو المثال, وكلما اقتربت للمثال, ابتعد عنك المثال, لكي يظل الأمل قائماً ومستمراً في الوصول إلى المثال؛ لأن الإنسان إذا حقق ما يريد يصاب بالإحباط, فمن الصعب أن يتم التجسيد الحقيقي لقمة الخلق الإسلامي لكنه يسعى دائماً لتحقيق ذلك, ومن ثمًّ فعلينا أن نعي ذلك عندما ننظر للتاريخ الإسلامي فهناك فارق بين  المثال الإسلامي وبين تطبيقات المسلمين التي شابها الكثير من الغبش والتخلف والاستبداد والمظالم, وهذا يساعدنا في تقييم التجارب الإسلامية, فهناك من ينظر للدولة الأموية نظرة سوداوية, وهناك من ينظر لها نظرة بيضاء مثالية, وكلاهما يخالفان الصواب, فالدولة العثمانية أخرت الغزو الغربي خمسة قرون, فلولا العثمانيون لدخل البرتغاليون إلى العالم العربي والإسلامي, وذلك بالرغم من مساؤى وسوءات الدولة العثمانية.

وفي الختام أكد أ.د. محمد عمارة على أهمي استحضار الفلسفة الإسلامية المتميزة في قضية التشريع والقانون والشورى, مع الاستفادة من آليات الديمقراطية التي حققت قدراً كبيراً من النجاح في المجتعات الغربية, وبالتالي نجمع بين ميزات وامتيازات الشورى الإسلامية, بين فلسفة الإسلام وبين الإنجازات والتجارب البشرية التي تحققت في المجتمعات الغربية.

ثانياً- الشورى والديمقراطية في الحالة المصرية:

استهلَّ أ.د.عماد شاهين اللقاء بطرح مجموعة من الأفكار للنقاش, لتحديد منهج للتعامل مع الأنسقة والنظم والمفاهيم الواردة, وتتمثل فيما يلي:

1.     أننا مازلنا نلفق المفاهيم داخل إطار انتقائي للتراث الإسلامي.

2.     كلما استجد مفهوم, تعاد قراءة التراث الإسلامي من منظور ليبرالي أو ديمقراطي أو قومي أو ماركسي.

3.     ومن ثمَّ فإن ما يتم عمله هو توظيف الإسلام لإعطاء تبرير مفاهيمي أيديولجي لأنساق ومفاهيم غربية, عوضاً عن أن يُنشأ المسلمون نموذجهم الحداثي أو الديمقراطي من داخل إطارهم المعرفي.

4.     وبالتالي تصبح العملية مركبة:

·        غرب يُستخدم لتحفيز الإسلام, من خلال التهديد, أو التفزيع, أو الاقتباس.

·        وإسلام يُستخدم لتبرير الغرب {هذه بضاعتنا ردت إلينا}.

·        وهذا يعني أننا في حالة ” ما بينما بين الاستقواء وما بين الموت.

ومن ثمَّ أكَّد أ.د.عماد شاعين على أننا إذا رصدنا أحد أسباب فشل مشروع النهضة/ الصحوة الإسلامية/ الإحياء الإسلامي/ المنعة والقوة, وعجزه عن صنع نموذج معاصر, سنلاحظ أن ذلك يعود إلى أنه لا يستدعي قوته من داخله وإنما من خارجه.

ومن ثمَّ يؤكد أ.د.عماد شاهين على أن هذه الأفكار تفرض علينا إعادة النظر في المنهجية وفي السؤال الأكبر لتحقيق النهضة الحقيقية: فينبغي أن يتحول السؤال الرئيس من: “كيف يمكن لنا اللحاق بالغرب؟”؛ فهذا هو السؤال الذي أدى بنا إلى كل مراحل التشتت والضعف والفرقة الفكرية, إلى التساؤل الأكبر الذي ينبغي أن نطرحه إلى التساؤل عن: ” ما هي قيم المنعة والحيوية في الإسلام للعودة إلى حالة الشهود الحضاري؟“؛ وذلك لأننا ببساطة لن نستطيع اللحاق بالغرب, فهذا ليس الهدف, وهذه ليست دعوة لليأس وإنما دعوة لإعمال الفكر فيما يمكن تسميته منظور تنموي أو حضاري بديل من داخلنا وليس من الخارج , فيلاحظ كيف فسد الملك وتحولت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض عندما تحول المسملون إلى ساسانين وبيزنطين عندما اقتفوا أثر عاداتهم وتقاليدهم البعيدة كل البعد عن قيم ومبادئ وخلق وروح الإسلام, فقد كان ذلك بداية انهيار النظام الإسلامي.

ومن ثمَّ يوضح أ.د. عماد شاهين أن هناك اختلاف بين الشورى والديمقراطية, وبالإضافة إلى ذلك فهناك العديد من الروابط المصطنعة بين المفاهيم التي وردت إلينا, وبين مفاهيم أخرى ليس لها أي رابط, مثل الربط بين الديمقراطية والعلمانية فهذا ليس صحيحاً.

وفي ضوء ما سبق تم التركيز على المفاهيم التالية:

·        الليبرالية.

·        لديمقراطية.

·        المواطنة.

فالفسلفة واحدة في المفاهيم الثلاثة, فكما أن الحضارة الإسلامية نسق مركب ومتكامل ومترابط, فأيضاً الحضارة الغربية نسق مركب ومتكامل ومترابط.

1.     مفهوم الليبرالية:

هو أحد نتاج حركة الاستنارة التي ظهرت في القرن السابع عشر والثامن عشر من فلاسفة من عدة دول أوروبية, كانت حالة انعتاق من مجتمع القرون الوسطى إلى آفاق جديدة في كافة المجالات, ما يعنينا هنا مبادئها الأساسية:

‌أ.        العقل: عقل الإنسان قادر على استكشاف وسبر أغوار الطبيعة والعلوم والسنن, أو كما يقول أ.د.عبد الوهاب المسيري (رحمة الله عليه) أن عقل الإنسان سيصل إلى نقطة الصفر؛ أي ستنكشف أمامه كل الحقائق, لن يكون هناك شيئاً غامضاً, فهو مصدر المعرفة, ومن ثمَّ فالإنسان كقيمة كبرى “مطلقة” هو القيمة المركزية في الكون.

‌ب.   الفردية: فالفرد هو ركيزة المجتمع.

‌ج.    الحرية Liberty: فالإنسان حر ولا تقيد حريته إلا عندما يبدأ في الافتئات على حرية الآخرين, ووفقاً لما يقرره المجتمع.

‌د.      التجريبية أو المادية ومركزية الطبيعة: فوسائل الحصول على الحقائق تتم من خلال الملاحظة والتجربة والبرهان.

‌ه.     الكونية Universalism : أي هناك أفكار لها صفة كونية مثل الحرية, العدالة,………

‌و.      العلمانية: فهي جزء من حركة الاستنارة.

‌ز.       النسبية: أي أنه ليس هناك حقيقة مطلقة, فكل شئ نسبي, وكل شئ قابل للتغيير, (الدين) غير مقبول في إدارة شئون الناس وتصريف أفعال الإنسان.

‌ح.    قضية الأنسنة: إن كل النصوص الموجودة بما فيها النصوص المقدسة بأنها نتاج إنساني يمكن تأريخه.

‌ط.    الإيمان بالتغيير: كل شئ قابل للتغير فليس هناك شئ ثابت.

‌ي.    قضية التقدم Progress: والتقدم دائماً يكون خطياً.

‌ك.     تحصيل السعادة.

فهذه العناصر المتشابكة هي التي تصنع حالة الاستنارة, ومنها يتم التطرق إلى الحداثة والديمقراطية وما إلى ذلك حيث تمثل هذه المفاهيم ترجمة “لحالة الاستنارة بركائزها المفاهيمية”.

الخلاصة: أن الليبرالية تستند على قضية الفردية, وقضية الحرية, وقضية المساواة.

وفي هذا الإطار تطرق أ.د.عماد شاهين إلى “اليبرالية المصرية“:

أوضح أ.د. عماد شاهين أن جذور الليبرالية المصرية تعود إلى الإمام محمد عبده الذي أحدث النقلة بين ما يمكن تسميته “إسلام ما قبل الحداثة” و”إسلام ما بعد الحداثة”؛ فتطلق على مدرسته “الإسلام الحداثي أو الحداثة الإسلامية Islamic Modernism“, ففي الحالة المصرية كان الإمام محمد عبده رائد هذه المدرسة؛ حيث التركيز على العقل والحالة العقلانية في قضة إصلاح المؤسسات, وقضية الجامعة الوطنية, وإنصافاً له يمكن القول إنه كان يحاول التوفيق بين الإسلام والمدنية؛ حيث كان منطلقه أن قيم المدنية التي رأها في الغرب موجودة ومتضمنة في الإسلام, وما ينبغي علينا فعله هو إعادة استكشاف الإسلام, وإعادة قراءته حتى تخرج هذه القيم المدنية مرة أخرى ونستطيع التقدم, لكن هذا لم يحدث ولن يحدث, فهذا ما تم الحديث عنه في البداية.

فجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده هما رائدا الإصلاح في العصر الحديث مثّلا حالة إسلامية منبهرة جداً بالغرب, وأرادا تحديث الإسلام من خارجه على الرغم من إخلاصهما لدينهما ووطنهما.

فمثلاً:

قضية التمثيل النيابي: تم أخذ قضية الشورى والإجماع كمرادفات للديمقراطية, فالشورى هي الديمقراطية, والإجماع يتمثل في الانتخابات, ويتمثل أهل الحل والعقد في البرلمان.

الصيغة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم: فمسئولية الحاكم تتمثل في العمل على تحقيق الصالح العام, توفير الأمن والرعاية الصحية…., وهو ما يسمى الآن بـ “قضية التنمية“.

ولكن الأهم إنصافاً له هو أنه كان يرى أن أهم رابط في الجماعة الوطنية هو “الشريعة” لأن الشريعة هي التي تحافظ على استمرار الجماعة الوطنية.

ولقد شهدت مدرسة الأفغاني ومحمد عبده انشطاراً بعد ذلك فشهدنا:

·        مدرسة لطفي السيد.

·        المدرسة الإحيائية الإصلاحية (السيد محمد رشيد رضا, والإمام حسن البنا بعد ذلك).

ولقد عدّد أ.د.عماد شاهين ملامح المدرسة الليبرالية بصفة عامة فيما يلي:

أ‌.        وحدة الحضارة الإنسانية: فالحضارة الإنسانية وحدة واحدة, والجميع يساهم فيها بشكل ما, ولكن في النهاية لا يمكن أن تنسب لثقافة أو لدولة أو لحضارة محددة دون حضارة أخرى, وهذه الوحدة الحضارية لها أساس قيمي وأخلاقي مشترك, فما اتفق عليه عالمياً يمثل مرجعاً, ومن ثمَّ نلاحظ أن غضب الليبراليين من مسودة الدستور أنها تفتقد الإشارة إلى المواثيق والأعراف الدولية, لأنهم يعتبرونها فوق الشريعة وفوق القوانين الوطنية ذاتها.

ومن ثمَّ يندرج تحت هذه النقطة ما يلي:

·        المرجعية العالمية/الكونية.

·        العولمة.

·        ليس هناك مجال للحديث عن “الأجندات/المؤامرة الخارجية”؛ حيث إننا جميعاً أبناء حضارة إنسانية واحدة تسعى لخير الإنسان وسعادته وارتقائه وتقدمه.

ب‌.   الانفتاح على الحضارة العالمية وصياغة المجتمع المصري على هيئة أقرب للحضارة الغربية من خلال محاولة التوفيق بين قيم الحضارة الغربية والقيم والثقافة الأصيلة(خاصةً في بعدها الديني), فمن خلال محاولة التوفيق بين قيم الحضارة الغربية, يتم وصف هذه القيم الأصيلة بالتقاليد والأعراف البالية, أو المذاهب الضيقة والتفسيرات الدقيقة داخل الدين, ومن أهم هذه القيم الغربية: الديمقراطية والحكم الدستوري, التعليم كأداة لتثقيف وتغريب المجتمع.

وفي ضوء هذا تحدث أ.د.عماد شاهين عن تلامذة الإمام محمد عبده وخاصةً لطفي السيد الذي يُسمى أستاذ الجيلين, والذي كتب بشكل منهجي عن الليبرالية, فقد كان يحاول أن يضع بذور اليبرالية المصرية, فهؤلاء التلامذة أخذوا الجانب المدني من فكر الشيخ محمد عبده وتوسعوا فيه, فالشيخ محمد عبده كان يقول في إحدى مقالاته: “إن الله (سبحانه وتعالى) خلق للكون كتابين: كتاب الوحي وكتاب الطبيعة؛ بحيث إن الكتابين خرجا من مصدر واحد فلا يمكن أن يتعارضا, فالعقل والطبيعة كمرآة أحدهما للآخر”, فتلاميذه مثل أحمد لطفي السيد, وعلي عبد الرازق, وأحمد فتحي زغلول, وقاسم أمين, أخذوا كتاب العقل وتمسكوا به, وأحالوا كتاب الوحي ليكون على المستوى الشخصي, فهو- بالنسبة لهم- جانب روحي يقتصر على العبادات ليس له شأن بالمجتمع والمعاملات الإنسانية؛ لأن العقل يستطيع أن يدبر أمور مجتمعه بنفسه, فنادوا بإعادة تشكيل أسس المجتمع كلها:

·        فالنظام الاجتماعي يجب أن يؤسس على العقل.

·        الإسلام والإيمان أمور شخصية وروحية تقتصر على جانب العبادات وحسب, فلا يجب إقحام الدين في السياسة, فالأمور المتعلقة بالسياسة والقوانين ليس ضرورياً الأخذ بها لأنه متعلقة بالمسلمين الأوائل.

·        الخلافة والشريعة ليسا من جوهر الإسلام.

·        أسس اليبرالية الجديدة: الوطنية الإقليمية, فاليبرالية المصرية ارتبطت بقضية الوطنية والاستقلال.

ومن ثمًّ تمثلت الأفكار الليبرالية, التي كانت ولاتزال سائدة, فيما يلي:

·        تحرير الفرد من القيود الدينية والاجتماعية.

·        رفض الحقائق المطلقة فالإنسان هو الذي يحدد إجاباته.

·        الحرية الفكرية (حرية الإبداع) والسياسية هما اللذان سيفجرنا طاقة المجتمع, ويجب ألا تتعرض لأي قيد.

·        كل فرد تتم توعيته, فإن ذاته المتنورة هي التي ستقوده إلى المصلحة, والتي ستلتقي في النهاية مع مصالح الآخرين.

نموذج أحمد لطفي السيد:

         غاية السياسة هي تحرير الفرد من قيود السلطة والتقاليد البالية.

         التقدم هو حرية الفرد وانتصار العقل فوق التقاليد, والدستور فوق الأعراف.

         غياب الاستقلال بسبب الحكام المستبدين وضعف الشخصية الوطنية, فما نحتاجه هو حكومة محدودة السلطات تحكم بدستور وعقد اجتماعي.

تأثر بالإمام محمد عبده فيما يتعلق بقضية التدرج والتعليم والإصلاح.

تأثر بجون لوك فيما يتعلق بالحرية الفردية, والمساواة أمام القانون, واحترام الملكية الخاصة, والحقوق الطبيعية وليست حقوق من الله (سبحانه وتعالى).

تأثر أيضاً بجون ستيوارت مل؛ حيث رأى أن فكرة الحريات تقود إلى نفع ومصلحة الجميع وأن المصلحة مرتبطة بالحرية.

كما تأثر بداروين الذي كان يرى إن مصر سترتقي وتتخلى عن الأفكار التي أدت إلى تخلفها (التقاليد والدين) كي تدخل في عداد الأمم الراقية والمتحضرة حتى تستطيع أن تعيش, فالأمم التي فشلت في الترقي سيتم استرقاقها وستضمحل.

وتأثر بأفلاطون: عظمة الأمم تتمثل في عدد المتعلمين من أبنائها وأصحاب الأخلاق المتمدنة والعقول المتفتحة (النخبوية).

وفيما يتعلق بالنماذج الليبرالية الحالية في مصر يمكن الإشارة إلى طارق حجي, د.وحيد عبد المجيد, محمد سلماوي, د.عمرو حمزاوي.

2.     مفهوم الديمقراطية:

أ‌.        القضايا:

·        السيادة للشعب: إن الديمقراطية تشترك في ذات الأسس الفلسفية لمفهوم الليبرالية, فعلى المستوى الفلسفي, أول مفهوم للديمقراطية هو “السيادة للشعب” وهذا الشعب هو مجموع أفراد أصبح لهم إرادة جماعية في أن يُكوِّنوا الدولة, وأن يكون هناك قانون حاكم لهم, فهي في الأساس قائمة على الفرد ولذلك كانت القاعدة الأساسية: One Man…One Vote, فمثلها مثل اليبرالية مثل المواطنة, ولذلك يمكن أن نفسر اضطهاد المحجبات في الدولة الأوروبية وعدم الاعتراف بالحجاب؛ فليس لديه مشكلة في الفرد, ولكن لديهم مشكلة في الاعتراف بالجماعة داخل الدولة, وذلك على خلاف الحال في ظل الدولة العثمانية, فالدولة العثمانية لم يكن لديها مشكلة في الاعتراف بالملل والأعراف والأعراق داخلها, وتمتعها بحكم ذاتي, لكن كان لديها صعوبة في الاعتراف بالفرد.

·        سيادة القانون.

·        المساواة بين الجميع وتكافؤ الفرص.

·        احترام حقوق الإنسان.

·        قضية التعددية.

ب‌.   الآليات:

·        الدستور.

·        تداول السلطة من خلال الانتخابات.

·        الفصل بين السلطات.

·        التعددية الحزبية.

·        المحاسبة.

والممارسة الفعلية توضح تعارض في القضايا والأهداف, فعلى سبيل المثال, إذا أدت الانتخابات في دولة إسلامية إلى وصول حزب شيوعي إلى سدة الحكم, فسيرفض الغرب نتيجة الانتخابات.

تجربة الديمقراطية والحالة المصرية:

أ‌.        الميراث الديمقراطي في مصر: إن الميراث الديمقراطي في مصر موجود وطويل, فأول وثيقة دستورية في مصر تعود إلى عام 1866, لكن أكثر ما أضعف هذه التجربة هو الحياة الحزبية؛ حيث إن الممارسات الحزبية تكونت في مناخ استقطابي رهيب, ففي عام 1908 تكون حوالي أربع عشر حزباً, وهذه المرحلة مثلت مرحلة استقطاب حادة جداً بين الجامعة الوطنية/المصرية (سعد زغلول وأحمد لطفي السيد), وبين الجامعة الإسلامية(الأفغاني ومحمد عبده), أو الجمع بين الاثنين(مصطفى كامل ومحمد فريد), وهذا الأمر أدى لاستقطاب شديد جداً.

ب‌.   القضية الأخرى في هذا الإطار هي “قضية النخبوية” فقيادات الأحزاب المصرية لديهم درجة عالية من النخبوية؛ أي انفصال الحزب عن القواعد.

ت‌.   غياب ثقافة الممارسة الديمقراطية؛ وهذا واضح تماماً من جميع الأطراف.

3.     مفهوم المواطنة:

أوضح أ.د.عماد شاهين أن موضوع المواطنة مهم جداً وحدث نوع من الاتفاق حوله, لكنه يرى أن هذا المفهوم لم يستقر بعد؛ لأنه مفهوم يقوم على ركائز فلسفية لابد أن تحل, فالمواطنة تقوم على الفرد المواطن, والمساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات, وهنا ستتعارض الآليات والأدوات بشكل كبير.

ومن ثمَّ يتضح من خلال العرض السابق أن هذه المفاهيم الثلاثة ركائزها الفلسفية واحدة, فهي منظومة واحدة مترابطة, وكشف عن ذلك الجدل الخاص بـ” الدولة المدنية”, ويوضح أ.د.عماد شاهين أنه كان هناك سرعة شديدة في تناول هذا الموضوع, مثل القول إن الدولة في الإسلام دولة مدنية, فنحن هنا لا نعيد التعريف, وإنما التعريف يُقدم إلينا, فإذا تم قبوله فهذا يعني أننا نقبل كل أبعاده, وأبعاد الدولة المدنية أن الناس هي التي تقوم بالتشريع, ومن ثمَّ رأى أ.د.عماد شاهين أن مفهوم “المدنية” هو في واقع الأمر يعني أن السيادة للمدنيين, للدنيويينSecularism, وأن التعريف البسيط للعلمانية هو: رفض لشمولية الدين في المجتمع والدولة.

ومن ثمَّ ختم أ.د.عماد شاهين المحاضرة موضحاً أن الهدف والغاية من هذه المحاضرة هو اكتشاف القيم الكونية التي تصلح للتطبيق على الجميع دون اجتزاء واختزال, كما تفضل أ.د.محمد عمارة (في المحاضرة السابقة) بالتأكيد على قضية استخلاف الإنسان فهو أمر متفق عليه, وكذلك فيما يتعلق بكرامة الإنسان من ناحية التنمية البشرية والاقتصادية والتنمية الأسرية, فهذه الكرامة قيمة كونية يمكن البناء عليها, كذلك قضية حرية الاختيار,و قضية الاختلاف والتعدد, وقضية العدالة؛ فآيات العدالة في القرآن كونية, فكلها قيم كونية في الإسلام, فالإسلام ليس نظاماً مغلقاً وإنما هو نظام يستوعب الجميع, ومن ثمَّ لابد أن تكون قوة الإسلام وتقدمه من داخله وليس من خارجه, فلابد أن تكون نقطة الانطلاق من الداخل, ولكن لا يعني ذلك الانفصال والانعزال عن العالم الآخر.

ولقد أشار أ.د.عماد شاهين في نهاية المحاضرة إلى  10مهارات أساسية للديمقراطية ينبغي علينا أن نعيها جيداً تتمثل فيما يلي:

·        الاستماع والإصغاء بدقة Active Listening.

·        المواجهة البناءة Active Conflict؛ المواجهة التي تثري الجميع.

·        الوساطة بين الأطراف Mediation , فعندما يكون هناك خلاف في عملية ديمقراطية, لابد أن يتولى أحد عملية الوساطة, حتى يستمعوا لمخاوف بعضهم البعض, بما يسمح لتقديم ضمانات متبادلة للطرفين.

·        التفاوض Negotiation.

·        قضية الخيال السياسيPolitical Imagination  فكل معضلة وأزمة لابد من وجود خيال وإبداع سياسي للخروج من هذه الأزمة.

·        الحوار العامPublic Dialogue .

·        لمشاركة في صنع القرارPublic Judgment : إشراك الناس في صنع القرار حتى ينفذوه.

·        الاحتفاء والفرح بما تم إنجازه وتعلمهCelebration .

·        التقييم والتدبر في الدروس التي تعلمناهاEvaluation and Reflection .

·        الرعاية والتوجيهMentoring : إرشاد وتوجيه الآخرين لتعلم تلك المهارات.

 

28/4/2013

إعداد: سارة حلمي

باحثة بمركز الحضارة للدراسات السياسية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى