التمويل الانتخابي الأمريكي والاقتصاد السياسي الدولي

مقدمـة:

يلعب المال السياسي دورًا مهمًا في الانتخابات الأمريكية سواء الرئاسية أو التشريعية وأصبح ظاهرة لافتة مع تزايد حجم الأموال التي يتم إنفاقها في كل انتخابات، حيث تجاوزت 7 مليارات دولار في انتخابات 2012، بينما تجاوزت حاجز الـ 11 مليار دولار في انتخابات 2016 والتي شملت الانتخابات الرئاسية وانتخابات التجديد النصفي للكونجرس إضافة إلى انتخابات حكام الولايات، وهو ما يعني أن المال السياسي بات يؤثر بشكل متصاعد ويُعد أحد الأوراق الحاسمة في ترجيح كفة مرشح على آخر.[1]
ومن ثم فإن ظاهرة المال السياسي باتت إحدى قواعد اللعبة الانتخابية الأمريكية، وذلك في شكل تبرعات من جانب الأفراد الطبيعيين أو الاعتباريين مثل الشركات والهيئات، لدعم حملات المرشحين. وإجمالًا ينظم القانون الأمريكي عملية التمويل السياسي والتي تشرف عليها هيئة الانتخابات الفيدرالية، حيث يحدد 2600 دولار لتبرعات الأفراد، بينما لم يضع سقفًا محددًا لتبرعات وتمويل الشركات والهيئات خاصة بعد القانون الشهير الذي أصدرته المحكمة الفيدرالية في عام 2010 وعرف باسم “اتحاد المواطنين”، والذي ينص على عدم وجود سقف محدد لتبرعات الشركات للمرشحين في إطار ما أسماه حرية التعبير، كذلك حكم المحكمة العليا الصادر في 2014 والذي سمح بإنشاء لجان عليا للعمل السياسي تُسمى بـ”السوبر باكس” (Super PACs)، وهي منظمات لا ترتبط مباشرة بحملة هذا المرشح أو ذاك، ولكن يحق لها تمويل الدعاية في وسائل الإعلام المختلفة، وكل ذلك دون وضع حد أقصى للمبالغ المتبرع بها ودورها مهم في توثيق عمليات التبرعات والكشف عن مصادرها. [2]
وعن هذا التأثير للمال السياسي في الانتخابات الأمريكية، يقول (برني ساندرس) المرشح الديموقراطي في انتخابات الحزب التمهيدية للرئاسة الأمريكية والذي كان ينافس بقوة المرشحة هيلاري كلينتون على نيل بطاقة الحزب للترشح: “تمتلك كل من طبقة المليونيرات وطبقة المليارديرات بشكل متزايد في العملية السياسية السياسيين الذين يذهبون إليهما بحثـًا عن التبرعات والأموال، ونحن بذلك ننتقل بشكل سريع جدًا من المجتمع الديموقراطي إلى مجتمع يتحكم فيه الأقلية، حيث يتحكم المليارديرات في تحديد من المسئول المنتخب”[3]، في المقابل يُرجع آخرون تزايد الظاهرة بشكل كبير إلى ارتفاع تكلفة الحملات الانتخابية والدعاية للمرشحين. إلا أنه في المجمل فإن ما تحتاجه الانتخابات إلى أموال طائلة لا يتمكن من تغطيتها سوى المرشحين الأثرياء، وهو ما يحد من مرشحى الطبقة الوسطى، وهو أمر عكس بدوره العديد من الدلالات والتداعيات السلبية، لعل أبرزها وضع النموذج الديموقراطي الأمريكي أمام سؤال كبير مفاده قدرة الانتخابات الأمريكية على عكس مصالح الغالبية العظمى من الشعب وليس من أصحاب المصالح والشركات واللوبيات النافذة.
حيث تسهم التبرعات في تبني وجهة نظر الأثرياء تجاه القضايا أو المرشحين الذين يسعون لإعادة تشكيل سياسات الاقتصاد الأمريكي لصالح طبقة الأثرياء على حساب الطبقة الوسطى، خاصة أن هناك أكثر من 158 أسرة أمريكية الأكثر ثراء، يشكلون أقل من 0.05% من السكان، تلعب تبرعاتها وتمويلاتها الدور الأكبر في فوز المرشحين ومن ثم تبني السياسة الاقتصادية التي تدعم مصالحهم، كما أنه يعيد تشكيل الخريطة السياسية لتكون تعبيرًا عن شبكة المصالح والتكتلات وليس عن المواطن الأمريكي وتوجهاته.[4]
وثانيًا لعب ما يسمى جماعات الضغط أو اللوبى – وهم كثر – دورًا محوريًا في دعم وفوز المرشحين خاصة مرشحي الكونجرس للتأثير عليهم بعد فوزهم لتبني التشريعات التي تخدم مصالح تلك الجماعات داخليا وخارجيا، ومن أبرز تلك الجماعات؛ لوبي الصناعات، ولوبي وول ستريت، والمنظمة اليهودية (الإيباك) التي تمول وتدعم مرشحي الرئاسة والكونجرس لتبني وجهة النظر الإسرائيلية والدفاع عن قضايا إسرائيل.[5]

أولًا: التمويل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة

في الأساس ينظم القانون الأمريكي عملية التمويل السياسي والتبرعات للحملات الانتخابية والمرشحين والتي تشرف عليها هيئة الانتخابات الفيدرالية، إلا أن المعلومات الدقيقة بشأن مصادر وأشكال التمويل لكل مرشح تبقي غير متاحة أو صعب الوصول لها نظرا لتعقد وتداخل أشكال التمويل وصورها ولا سيما في ظل ظاهرة ما يعرف بـ “الأموال المظلمة أو السرية” وهي التي تدخل للمرشحين دون الكشف عن مصدرها سواء من الداخل أو خارج الولايات المتحدة. ومن ثم وبالرجوع إلى تحقيق واسع أجرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية حول تمويل الانتخابات الأمريكية الأخيرة وتأثير المال على العملية السياسية الأمريكية عبر تحديد أكبر “الممولين” للحملات الانتخابية لعام 2016، تحدثت الصحيفة عن 158 أسرة تمول أكثر من نصف انتخابات 2016، وهذه الأسرة مقسمة إلى فئتين: الأولى 37 عائلة ثرية ثراء تقليديًا حيث جذورها تمتلك الثروة من أزمنة، بينما 119 عائلة لم يكونوا من طبقة الأثرياء بالشكل التقليدي ولكنهم امتلكوا الثروة سريعًا مستفيدين من التطرف الرأسمالي للنظام الاقتصادي الأمريكي، حيث “دخلوا لعبة رأس المال في نيويورك، أو اشتروا حقوق استغلال النفط في تكساس بأقل من ثمنها، أو وضعوا أقدامهم في عالم هوليوود وإنتاج الأفلام، أو سيطرو على مجالات الطاقة والإعلام”.
وضخت هذه الأسر وحدها أكثر من نصف أموال الحملات الدعائية الأولية للمرشحين الديموقراطيين والجمهوريين، وتميل تلك الأسر في مجملها لدعم الجمهورييين؛ فهناك 20 أسرة منهم فقط يدعمون الديموقراطيين، بينما تدعم الـ138 أسرة الباقية يدعمون المرشحين الجمهوريين الذين يدعمون الطموحات الاقتصادية لتلك الطبقة؛ إذ يميل الجمهوريون إلى تخفيف الضوابط على حركة رأس المال، وتخفيض الضرائب على الدخل والأرباح والثروات التي تتم توارثها من جيل لآخر. وهذا ما يعزز الرأسمالية المتطرفة ويضع سقفـًا لطموحات شرائح ديمغرافية واسعة بدأت تميل بقوة في السنوات الأخيرة للديموقراطيين، مثل الشباب واللاتينيين والأفارقة.
وفي التحقيق أيضًا وجد أن أكثر من 50 شخصًا من هذه العائلات التي على رأسها عائلات هايلدبراند، وتاو، وساروفيم، وفلوريس، وماكنير، وجورج سورس، يتربعون على قائمة الـ400 الأعلى ثراء في الولايات المتحدة التي تصدرها مجلة فروبس الشهيرة. وبالنظر إلى مجال عمل هذه الأسر الـ158 وجد أن 64 عائلة تعمل في قطاع التمويل، و17 عائلة تعمل في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية، و15 في العقارات والإنشاءات، و12 في قطاع الإعلام، و12 في القطاع الصحي، و10 في قطاع التكنولوجيا، و9 في قطاع النقل، و6 في مجال التصنيع، و5 في مجال الأغذية والزراعة، و3 في قطاع التأمينات، والـ5 الآخرين في مجالات متنوعة.
وطبقا لما جاء في التحقيق، فإن رغبات الطبقات المتوسطة بدأت تتناقض مع الرغبات الجمهورية اليمينية حيث أكثرية الأمريكيين ينادون بأن الضرائب يجب أن تكون أكبر على من يحصلون على أكثر من مليون دولار سنويًا، وأن الحكومة يجب أن تضطلع بدور اقتصادي لسد الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء على غرار نظم الرفاهية في الاتحاد الأوروبي، وكذلك حماية منظومة الضمان الاجتماعي والصحي. إلا أن سيطرة هذه الأسر على الحملات الانتخابية، قوض – وفق الصحيفة – “الديموقراطية” بأن تؤثر تلك الأسر الثرية التي تمثل الأقلية على العملية السياسية على حساب الأغلبية من متوسطي الدخل وهو ما أدى إلى “أن معظم أعضاء الكونجرس الأمريكي هم من المليونيرات الصغار على أقل تقدير إن لم يكن المليارديرات، على العكس من برلمانات أوروبا التي تمثل الطبقة الوسطى جزءًا كبيرًا منها”.[6]

ثانيًا: الاقتراب المقترح تطبيقه على هذه القضية

مع تداخل وتعقد أبعاد وصور قضايا التمويل الانتخابي سواء في الولايات المتحدة أو باقي دول العالم، وسواء أكان مصدر التمويل في القضية محل الدراسة من داخل الولايات المتحدة أو من الخارج حيث ظهرت مصادر تمويل خارجية من دول أجنبية في هذه الانتخابات، فإنه يقترح استخدام منظورين وهما الواقعية الجديدة ونظريتها المتمثلة في الاستقرار المهيمن، وثانيًا السياسيات الداخلية وذلك في ظل الارتباط الوثيق ببين الاقتصادي والسياسي وكذلك الارتباط الأوثق بين ما يحدث في الولايات المتحدة وينعكس بدوره على دول العالم باعتبار أن الولايات المتحدة لازالت الثقل الأكبر اقتصاديًا وماليًا وسياسيًا وعسكريًا.
1- أهم افتراضات الواقعية الجديدة
باختصار تقوم الواقعية بالأساس على افتراضات أولوية السياسات على الاقتصاديات، وذلك مع التمييز بين السياسات الاقتصادية التي تأخذ في الاعتبار لذاتها وبين السياسات الاقتصادية التي تعد أدوات للسياسية سواء الداخلية أو الخارجية بشكل عام. ومن ثم فإن الواقعية تعطي الأولوية للقوة والأهداف السياسية والأمنية واستخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق هذه أهداف القوة. وانطلاقا مما سبق فإنه يمكن القول إن جل تركيز الواقعية بشكل عام على البعد الاقتصادي ينصب على الكيفية التي يمكن من خلالها للمعاملات الاقتصادية أن تؤثر على توزيع القوة. وذلك في وقت تملك فيه المتغيرات السياسية التأثير وبقوة على العلاقات الاقتصادية سواء الداخلية أو الخارجية.[7]
كما تطرح الواقعية عددًا من النظريات التي تفسر طبيعة العلاقة بين توزيع القوى بين الدول من جانب وطبيعة الأنظمة الاقتصادية الدولية من جانب آخر، وأبرز تلك النظريات:
– نظرية استقرار المهيمن: Hegemonic Stability
حيث يتمثل جوهر هذه النظرية في أن النظام الاقتصادي الدولي المفتوح والمستقر لن يتحقق إلا بوجود دولة مهمينة تتركز فيها مقومات القوة على نحو لا يتركز في غيرها. وتعتبر القوة الاقتصادية الكبرى المستفيد الأكبر من النظام الاقتصادي المنفتح مع تنامي اقتصادياتها واستثماراتها، وكبر حجم اقتصادها القومي ورؤوس أموالها، فالدول ذات الموارد المحدودة لربما فضلت مزيدًا من القيود على التبادل التجاري. وتؤكد النظرية – في طبعتها الواقعية – على أن وجود تلك الدولة المهيمنة من شأنه أن يضمن وجود واستمرار النظام الدولي القائم على الانفتاح الاقتصادي، إذ يعزز ذلك من نموها الاقتصادي ومكاسبها السياسية، ويساعدها على ذلك ما تحوذه من موارد تمكنها من إدماج الدول الأخرى تحت مظلة النظام الاقتصادي المفتوح.
كما تقدم الواقعية تفسيرًا آخر للسياسة التجارية على ضوء العلاقة بين الأحلاف والأمن من جانب، والمعاملات والتبادلات الاقتصادية من جانب آخر. فيمكن للدول من خلال استغلال المزايا النسبية تحسين اقتصادياتها القومية ومن ثم قوتها العسكرية، ولذا تحرص الدول على الانفتاح على حلفائها اقتصاديا دون أعدائها، وليس فقط لأن الانفتاح يزيد من مكاسب الدول اقتصاديا، ولكن أيضًا لأنه يؤثر على القدرات العسكرية للدول.
2- أهم افتراضات السياسات الداخلية:
نجح الاقتصاد السياسي الدولي كحقل دراسي في الجمع بين العلاقات الدولية والنظم المقارنة في نقطتين متقاطعتين، الأول تختبر أثر النظام الدولي على الهياكل والجماعات السياسية الداخلية، والثانية تختبر مدى تأثير التنوع في الهياكل السياسية الداخلية ومصالح الجماعات والقيم في السياسات الخارجية الاقتصادية. ولا توجد حجة مهيمنة تحسم الجدال حول أثر النظام الدولي على الهياكل السياسية الداخلية، إلا أنه يمكن القول أن الدول كثيفة السكان يمكن أن تصدر السلع كثيفة العمالة وهو ما ينعكس إيجابيا على العديد من القطاعات والشرائح الاجتماعية التي أنتجت تلك السلع. فكلما تزايد الانفتاح الاقتصادي تحسنت أوضاع تلك الشرائح والطبقات. في المقابل قد يضعف الانفتاح الاقتصادي من بعض الشرائح المجتمعية مثلا في الدول الصناعية الكبرى حيث الاعتماد على الآلات والتكنولوجيا المتقدمة فتتراجع أهمية الاتحادات العمالية في تلك الدول.
ومن ثم عند النظر إلى علاقة السياسات الداخلية والنظام الاقتصادي الدولي لاختبار الطريقة التي يمكن من خلالها الهياكل الداخلية والقيم والأفكار تؤثر على السياسات الخارجية الاقتصادية، تجد جماعات المصالح أكثر الأمثلة وضوحا على تلك العلاقة، فالسياسيات الاقتصادية الدولية مثل أي سياسة يمكن تفسيرها على ضوء الضغوط الداخلية . حيث تفضل المصانع التنافسية والمصانع الكبرى الانفتاح في حين تفضل الصناعات التنافسية الوليدة الانغلاق.[8]

ثالثًا- تطبيق الافتراضات النظرية على القضية محل الدراسة

بتتبع البرامج والنوايا الاقتصادية والسياسية للحزبين الكبيرين في الانتخابات الأمريكية لعام 2016، وبتطبيق افتراضات الواقعية الجديدة ونظرية الاستقرار المهيمن وكذلك نظرية السياسات الداخلية ومساعي المرشحين في الحزبين سواء كانوا مرشحين للكونجرس أو الانتخابات الرئاسية، نجد أن مقولة “السلطة والثروة” تتركز بشكل كبير في رؤية المعسكر الجمهوري لشكل الاقتصاد الأمريكي ومن خلفه الاقتصاد العالمي، وذلك انطلاقا من ثوابت رؤية الممولين الرئيسيين للحملات الانتخابيةت فيما تتركز افتراضات ما بعد السلوكية وضرورة النظر إلى قيم العدل والمساواة في برامج المعسكر الديموقراطي.
ومن ثم فإنه بتحليل الأجندة الاقتصادية وكذلك السياسية للطرفين تعكس صراعًا بين المدافعين عن الطبقة المتوسطة والمدافعين عن مصالح كبار رجال الأعمال ورؤساء مجالس الإدارات. فالخلاف الاقتصادي بين مرشحي الحزب الديموقراطي ومرشحي الحزب الجمهوري يتجلى في موقف الطرفين من قضية العدالة الاجتماعية والضرائب، على سبيل المثال؛ فإن الديموقراطيين وعلى رأسهم المرشحة الرئاسية الخاسرة هيلاري كلينتون يعتقدون أن رفع معدلات النمو الاقتصادي الأمريكي يتطلب المزيد من المساوة والحراك الاجتماعي، ولهذا يطالبون بزيادة الحد الأدنى للأجر في الساعة إلى 12 دولارًا على المستوى الاتحادي و15 دولارا للساعة في الولايات المختلفة، كما أنهم يريدون المحافظة على المعدلات الضريبية الراهنة مع زيادة الضرائب على الأغنياء.
في المقابل وعلى النقيض تمامًا يرى الجمهوريون وعلى رأسهم المرشح الرئاسي الفائز دونالد ترامب يريدون استقطاعات ضريبية للجميع، ولكن مع مزيد من الخفض الضريبي لمصلحة الأغنياء، وهذا من وجهة نظرهم سيحل مشكلة الفقر في الولايات المتحدة، فجعل الأثرياء أكثر ثراء يمكنهم من التوسع في استثماراتهم، وبالتالي توظيف المزيد من الأيدي العاملة، ولذلك لا نجد استخداما لكلمة عدم المساواة في الخطاب السياسي لترامب، أما بالنسبة للحد الأدنى للأجور، فإنه لا يدعم وجود حد أدنى للأجور على مستوى الولايات المتحدة ويكتفي بأن يكون ذلك من اختصاص الولايات.[9]
كذلك طرح الجمهوريون وترامب أفكار مغايرة لنمط علاقات الولايات المتحدة بدول جوارها في إطار اتفاقية نافتا، وكذلك شكل علاقات بلاده مع حلفائها الأوروبيين واليابان وكوريا الجنوبية ومن بعدهم الحلفاء الخليجيين، وبالإضافة إلى ذلك علاقة بلاده مع الصين، حيث “تخدع” بكين واشنطن سياسات اقتصادية تنهب الاقتصاد الأمريكي، لذا سيعيد النظر باتفاقية التجارة الموقعة معها. وأنه سيشرع في بناء حائط لعزل المكسيك عن الولايات المتحدة لمنع العمالة المكسيكية التي تعمل في أعمال غير نظامية في أمريكا. وتعد سياسات ترامب وحزبه في الفترة الراهنة محل تفضيل من قبل الشركات الأمريكية الكبرى ومن ورائهم الداعمين الرئيسيين لتمويل الانتخابات الأمريكية.[10]
وانطلاقا من هذا الوضع، نجد أنه في الوقت الراهن وخلال الشهور الأخيرة التي سبقت الانتخابات في نوفمبر الماضي، وفوز الجمهوريين بالرئاسة وكذلك استحواذهم عليها فإن الاقتصاد الأمريكي بات يكتنفه الغموض نتيجة لاقتراحات الرئيس المنتخب دونالد ترامب الاقتصادية، وهو أحد الأقطاب المالية الهامة في وول ستريت، حيث لا يفتأ يعلن عنها. فسياسات ترامب تجعل الولايات المتحدة الأمريكية على أعتاب تغيير جديد سيغير من ملامحها الاقتصادية، إذ أن الأمر يتعلق بأعمدة الاقتصاد الأمريكي والثوابت التي اعتاد العالم السير في ظلها والتي جعلت منه أكبر اقتصاد في العالم على مدى العقود الماضية، وأبرز تلك الأعمدة مكانة الدولار كعملة احتياط دولية والتي ستؤثر على معادلة البترودولار وسندات الخزانة الأمريكية ذات التصنيف السيادي الأعلى في العالم، والعلاقة مع الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، واتفاقيات التجارة الحرة مع دول العالم، والعمالة الضخمة من المهاجرين الموجودة في الولايات المتحدة. كما أن أفكار ترامب غير العادية والتي تمثل انقلابًا في الاقتصاد الأمريكي حول ما يريد فعله والسياسات التي يبلورها تجاه الاقتصاد الداخلي والعالمي لا تزال تطرح العديد من التساؤلات في الطريقة التي يفكر فيها ترامب، فيما إذا كان يتصرف بشخصية رجل الأعمال الذي نجح في تنمية ثروته من مئات الملايين إلى أكثر من 4.5 مليار دولار، أم أنه سيخضع للمنظومة الرسمالية الراهنة بتعقيداتها.[11]
وفيما يلي أهم القضايا الأساسية التي يتمايز فيها البرنامج السياسي للحزب الديموقراطي عن البرنامج السياسي للحزب الجمهوري:
– الدفاع
يقول البرنامج السياسي للحزب الديموقراطي إن الديموقراطيين أنهوا الحرب في العراق بطريقة مسؤولة، ووضعوا تنظيم القاعدة على طريق الهزيمة بمقتل أسامة بن لادن وكبحوا تقدم حركة طالبان مما يمهد لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان. ويسعى الديموقراطيون للتقليل من مخزونات الأسلحة النووية إلى حد أبعد، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي. ويقول الديموقراطيون إن لديهم “التزامًا غير متزعزع بأمن إسرائيل”. ويؤكدون أنهم يريدون المحافظة على جيش قوي، غير أنهم يقولون إنه نظرا للأوضاع المالية فإن القرارات الصارمة بشأن الميزانية يجب أن تتضمن مسائل الإنفاق على الدفاع.
أما الجمهوريون ففي برنامجهم السياسي يتهمون إدارة أوباما باتخاذ مواقف ضعيفة إزاء دول مثل كوريا الشمالية والصين وإيران وظهور “داعش” وينتقدون التخفيضات في الإنفاق العسكري. ويقول البرنامج إن الجمهوريين هم “حزب السلام عن طريق القوة”. أما الإستراتيجية العسكرية للجمهوريين فهي ستستعيد “مبدأ الردع باستخدام الطيف الكامل من القدرات العسكرية الأمريكية”.[12]
– الضرائب
يخطط البرنامج الانتخابي الجمهوري لتمديد تخفيضات الضرائب التي أقرها الرئيس السابق بوش عامي 2001 و2003، ريثما يتم إصلاح قانون الضرائب. ويقول هذا البرنامج أيضا إن الحزب الجمهوري سوف يحاول إلغاء الضرائب المفروضة على الفائدة والأرباح وأرباح رأس المال كليا بالنسبة لدافعي الضرائب ذوي الدخل المتدني والمتوسط. وسيسعى أيضا لإلغاء ضريبة الممتلكات وضريبة الحد الأدنى البديلة. كما يرفض البرنامج الجمهوري استخدام الضرائب من أجل إعادة توزيع الدخل وتمويل البرامج غير الضرورية أو غير الفعالة أو تعزيز الرأسمالية القائمة على المحسوبية التي تؤدي بالسياسيين والشركات إلى الفساد.
كما يشير الإصلاح الضريبي للجمهوريين إلى أن الضرائب في أمريكا هي الأعلى بين دول العالم، وخفض الضرائب سيحفز الاقتصاد والمستثمرين على الاستثمار أكثر، وخلق وظائف على حد وصفه. ومن سياساته أنه سيخفض الدخل الفيدرالي من الضرائب بحوالي 9.5 ترليون دولار وتخفيض الضرائب على الأثرياء بحوالي 1.3 مليون دولار في عام 2017 وخفض الضريبة على الشركات إلى 15% وتبسيط قانون الضرائب أكثر، علمًا أن الخطط الضريبية المطروحة في سياساته تفيد بالمقام الأول الأثرياء وليس الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
في المقابل، يدعو البرنامج السياسي للحزب الديموقراطي لتمديد إجراءات تخفيض الضرائب عن العائلات الأميركية التي تحقق دخلا أقل من 250 ألف دولار في السنة والذين يمثلون 98 في المئة من المواطنين، والحيلولة دون رفع الضرائب عن عائلات الطبقة الوسطى وأولئك الذين يطمحون بالانضمام إلى الطبقة الوسطى، وفي الوقت نفسه يطالب الأغنياء والشركات بأن يدفعوا نصيبهم العادل من الضرائب”.[13]
– الهجرة
ينص البرنامج الديموقراطي على أنهم “ملتزمون بشدة بسن قوانين لإصلاح نظام الهجرة بشكل شامل”. ويتضمن إصلاح نظام الهجرة “إخراج المهاجرين الذين لا يحملون وثائق من الظلال”، وإلزام المهاجرين غير الشرعيين بتصحيح وضعهم القانوني وتعلم اللغة الإنجليزية ودفع الضرائب لكي يسلكوا طريقا نحو الجنسية الأمريكية. ويدعو البرنامج لنظام إعطاء التأشيرات بما يخدم الحاجات الاقتصادية للبلاد ويُبقي العائلة مع بعضها ويفرض القانون.
من جهته، يعارض البرنامج الجمهوري “أي نوع من العفو” لأولئك الذي خالفوا قوانين الهجرة عمدا “حيث أنهم يضرون بأولئك الذين يحترمون القانون”، ويطالب بإيقاف قضايا وزارة العدل ضد الولايات التي سنـّت إجراءات حازمة بشأن الهجرة، وسيسعى لقطع التمويل الفيدرالي عن الجامعات التي تمنح المهاجرين غير الشرعيين تخفيضات في الأقساط. كما أنهم يطالبون بترحيل 11 مليون مهاجر غير شرعي في البلاد.
– الرعاية الصحية
يعد البرنامج الديموقراطي بالاستمرار في البناء على قانون الرعاية الصحية الجديد الذي أقره أوباما، ويقول إن الرعاية الصحية ذات الأسعار المعقولة والجودة العالية والمتوفرة للجميع تعد جزءًا من الوعد الأمريكي، وأن الأميركيين يستحقون الحماية التي تأتي نتيجة للرعاية الصحية الجيدة.
في المقابل، يقول البرنامج الجمهوري إن الرئيس الجمهوري في حال انتخابه سوف يقوم في اليوم الأول من عمله باستخدام صلاحياته لمنع المضي في تحقيق قانون الرعاية الصحية. ويدعو البرنامج إلى خطة جمهورية تعتمد على تحسين جودة الرعاية الصحية وتخفيض التكاليف ويدعو لنظام يعزز مبدأ السوق الحرة ويعطي للمستفيدين المزيد من الخيارات.
– تمويل الحملات الانتخابية
ينتقد البرنامج السياسي الديموقراطي قرار المحكمة العليا “المواطنين المتحدين”، الذي يرفع القيود عن النفقات السياسية المستقلة التي تقوم بها الشركات والاتحادات، ويدعو البرنامج لاتخاذ “إجراءات عاجلة لكبح تأثير مجموعات الضغط والمصالح الخاصة في مؤسساتنا السياسية”. ويؤيد البرنامج تعديلًا دستوريًا إذا لزم الأمر في سبيل إصلاح قوانين تمويل الحملات الانتخابية.
أما البرنامج الجمهوري، فيؤيد قرار “المواطنين المتحدين” معتبرًا إياه مسألة حق في التعبير.
– التحكم بالأسلحة النارية
يقول الحزب الجمهوري في برنامجه إنه يعارض أي تشريع يهدف إلى تقييد التعديل الثاني للدستور الأمريكي والذي يؤكد على حق المواطنين في اقتناء وحمل الأسلحة النارية، ويعارض تحديد عدد الطلقات ومخازن البندقيات، كما يعارض إعادة قانون حظر الأسلحة الحربية الذي تم تمريره خلال ولاية كلينتون.
أما البرنامج السياسي للحزب الديموقراطي فرغم تأكيده على احترامه للتعديل الثاني للدستور، إلا أنه يعتقد في أن “حق امتلاك الأسلحة النارية ينبغي أن يخضع لضوابط معقولة”، نظرا للعواقب الوخيمة للعنف المتعلق بالأسلحة النارية. وينص البرنامج على دعمه لإعادة فرض قانون منع الأسلحة الحربية الذي تم تمريره خلال ولاية الرئيس الأسبق بيل كلينتون. كما يدعم إغلاق الثغرات المتعلقة بمعارض الأسلحة، والتي يرون أنها تؤدي إلى وقوع هذه الأسلحة في أيدي أناس غير مسؤولين أو خارقين للقانون.[14]

خاتمة:

في ظل الفشل المستمر لمساعي إصلاح نظام التمويل الانتخابي الأمريكي لإنهاء سيطرة الأسر والهيئات والشركات الثرية على تمويل الجزء الأكبر من الانتخابات ومن ثم هيمنة مصالحهم الاقتصادية في وجه مصالح أغلبية الشعب الأمريكي من الطبقات المدنية والوسطى، يبقي في النهاية أن النخبة الأمريكية بمعسكريها الديموقراطي والجمهوري هي تعبير عن الرأسمالية المتطرفة التي ينتهجها النظام الاقتصادي الأمريكي، وسط غياب أو ضعف لمفاهيم العدل والمساواة والحماية الاجتماعية للطبقات المتوسطة مقارنة بمجمل النموذج المبهر للاقتصاد الأمريكي.
وبناء على ما تقدم، فإنه مع صعود واستحواذ الجمهوريين على أغلب مناصب الكونجرس وحكام الولايات في الانتخابات الأخيرة، ورؤى الرئيس المنخب ترامب الاقتصادية التي تمثل انقلابًا أو تغيرًا جذريًا في منظومة الاقتصاد الأمريكي ومن خلفه الاقتصاد العالمي لترابطهم الوثيق، فإنه يمكن القول إن تأثير الاختلافات الاقتصادية الجذرية بين ترامب وكلينتون تتجاوز في أهميتها وخطورتها انعكاسها على الاقتصاد الأمريكي، وإنما يجب النظر إلى تداعياتها على الاقتصاد الدولي. حيث يعد الاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم، ومن ثم فإن أي تغيرات داخلية تطرأ عليه سواء بارتفاع أو انخفاض معدلات النمو، ستؤثر حتما في مجمل النظام الاقتصادي العالمي. فترامب لا يحبذ التجارة الحرة ويدعم حماية الصناعات الأمريكية عبر رسوم جمركية مرتفعة، حيث يصف المنافسة مع الصين مثلا بأنها منافسة غير عادلة، ويرفض اتفاقية الشراكة عبر الهادئ والتجارة الحرة لأمريكا الشمالية دفعه للاصطدام بغرفة التجارة الأمريكية، التي أعلن بعض من كبار أعضائها أن سياسة ترامب في مجال التجارة ستعود بعواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكي، وستؤدي إلى حرب تجارية دولية، وانخفاض في معدل نمو الاقتصاد الدولي. لا سيما في ظل أرائه بشأن قضايا التجارة الدولية، وخاصة في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي تضم 12 دولة من بينها الولايات المتحدة وكندا واليابان.[15]
كما أن رؤية الداعية لمزيد من الحماية الاقتصادية عبر رفع قيمة الرسوم الجمركية، وإغلاق الأسواق الأمريكية أمام السلع الدولية وتحديدا الصينية والمكسيكية وخفض الضرائب على الشركات الأمريكية الكبرى، لا تكمن فقط على الداخل الأمريكي، بل أنها ستعزز الأصوات الأوروبية المطالبة بسياسات اقتصادية أكثر انعزالا أيضا، ومن ثم سنواجه اتجاهًا عالميًا يعود بالاقتصاد العالمي إلى حقب ماضية. وباختصار فإن الاقتصاد العالمي يقف في الفترة الراهنة عند مفترق طرق خاصة وأن النخبة الجمهورية الجديدة في واشنطن تنتمي إلى المدرسة الاقتصادية التي ترى أن مصلحة أمريكا تكمن في جعل الأثرياء أكثر ثراء، وإغلاق الأسواق المحلية، وعدم مساعدة الآخرين اقتصاديا إلا بمقدار ما يحققه ذلك من مصالح مادية ملموسة ومباشرة للولايات المتحدة.
*****

الهوامش:

* طالب دكتوراة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
[1] عندما يعتزم مرشح أمريكي ما خوض معركة انتخابية ما بأمريكا (رئاسية كانت أم برلمانية) فإنه يحتاج مصادر مادية لتمويل حملته الدعائية، ودائمًا ما يلجأ المرشح إلى جهة أو شركة لتمويل حملته الانتخابية، وهذه الطريقة تثير الجدل نظرًا للتأثير المُحتمل للمال الذي دفعته – إحدى الهيئات أو الشركات – على قرارات المرشح وتوجهاته إذا نجح في الانتخابات ليلبي بدوره المصالح الاقتصادية للجهة المانحة، وهناك جدل كبير ومستمر في الداخل الأمريكي بشأن ضرورة إجراء تغييرات جذرية في نظام التمويل الانتخابي، لمزيد من التفاصيل يرجي الرجوع إلى:
Leonard Freedman, Power and Politics in America, Sixth edition, California: Cole Publishing Company, 1991.
[2] For more information, look the site of The Federal Election Committee (FEC)
http://www.fec.gov/law/procedural_materials.shtml
[3] for more information Look: Sanders’ People-Powered Campaign Smashes Record Number of Donations, Revolutionizes American Politics, a press release, available at this link:
https://berniesanders.com/press-release/sanders-smashes-record-donations/
[4] أحمد عمارة، هل يتحكم المال في السياسة الأمريكية؟ متاح على الرابط التالي بتاريخ 18 أكتوبر 2016.
http://www.sasapost.com/the-affect-of-money-in-us-elections/
[5] أحمد سيد أحمد، المال السياسي ومصداقية النموذج الديموقراطي الأمريكي، مقال رأي، صحيفة الأهرام، عدد 28 أغسطس 2016، متاح على الرابط التالي:
http://www.ahram.org.eg/News/192002/4/547430/%D9%82%D8%B6%.aspx.
[6] Nicholas Confessore, Sarah Cohen and Karen Yourish, Buying Power: The Families Funding the 2016 Presidential Election, A New York Times investigation, available on the site of New York Times, on the date:10 / 10 /2015.
http://www.nytimes.com/interactive/2015/10/11/us/politics/2016-presidential-election-super-pac-donors.html?_r=0
[7] Stephen Krasner, The accomplishment of international political economy, International Theory: Positivism and Beyond, Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1996, Pp. 114-118.
[8] For more information Look at: Perspectives on International Political Economy, available at:
https://www.pearsonhighered.com/assets/samplechapter/0/2/0/5/0205965156.pdf
[9] Theodore H. Moran and Lindsay Oldenski, How offshoring and Global supply chains enhance The US Economy, Washington: Peterson Institute for International Economics, April 2016.
[10] Christopher Smart, US Election Note: Economic Policy After 2016, London: Chatham House, The Royal Institute of International Affairs, June 2016, Pp. 5-7.
[11] Dan Smith and Chris Mackenzie, Boosting The Impact of Small Doners: How Matching Funds Would Reshape the 2016 Presidential Election? Washington: U.S PIRG Education Fund, February 2016.
[12] Michael J. Boskin, The US Election and the Global Economy, available at: on February 29 th 2016

The US Election and the Global Economy


[13] Christopher Smart, Op. Cit., p 8.
[14] Marilyn W. Thompson,The Price of Public Money, available at: on May 27, 2016.
http://www.theatlantic.com/politics/archive/2016/05/the-price-of-public-money/484223/.
[15] Larry Elliott, How America’s new president will affect the Global Economy, available at: on Wednesday 9 November 2016.
https://www.theguardian.com/business/2016/nov/09/donald-trump-new-us-president-america-global-economy-china-mexico.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى