التغييرات الاجتماعية في السعودية للتوظيف السياسي

مقدمة:

تشغل التغيرات الاجتماعية التي يجري تجريبها / فرضها / تسهيلها في السعودية مؤخَّرًا والتي تعاظمت -أو هكذا يراد لها- منذ وصول ولي العهد الحالي إلى منصبه في يونيو 2017م اهتمام دوائر عديدة داخل المنطقة وخارجها، وهي تغييرات متشابكة مع العديد من تلك الدوائر بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنها تزداد تعقيدًا كلما حاول البعض تفسيرها أو طرحها للنقاش، وهذا ليس قولا من قبيل المبالغة ولكن الواقع وطبيعته يفرضان ذلك.
هناك تداخل كبير يحيط بهذه التغييرات ودوائرها وعناصرها ومفرداتها، وينطلق هذا التداخل من كثرة التعقيدات والتشابكات مع هذه التغييرات، فلا يمكن فهمها من دون تحليلها في ظل ارتباطاتها الداخلية والخارجية، واتصالها بالماضي والحاضر والمستقبل، وتشابكاتها السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية والدينية، إلى آخر هذه التعقيدات التي لا يمكن حصرها. إلا أن ذلك لا يحول دون محاولة رسم خريطتها، وفك تشابك فواعلها الرسميين وغير الرسميين، والإحاطة بأبعادها الزمانية والمكانية، وفهم ارتباطاتها المتنوعة والالمام بمحدداتها.
تدور معظم التغييرات / التحولات بين ثنائيات وهي لا تعني أنها متناقضات ولكن تعني أن هذه الثنائيات مرتبط بعضها ببعض، رغم الإقرار بتشابكها جميعًا وبشكل يصل إلى حدِّ التعقيد؛ فلا يمكن في النهاية فصل السياسي عن الاقتصادي عن الاجتماعي عن الديني عن الثقافي في إطار بيئة معقدة من الداخلي والخارجي والإقليمي والدولي والرسمي وغير الرسمي.
ما زالت قطاعات عريضة من المجتمع السعودي تنظر إلى التحولات من زوايا الشك سواء في الهدف منها أو تقبل المجتمع لها أو استمراريتها؛ فالفئات المؤيِّدة متشكِّكة، والفئات المعترضة متشكِّكة، الأمر الذي يعيق هذه التحولات ولا يسمح بتقبُّلها بسهولة أو يحافظ على استمراريتها واستقرارها رغم أن النكوص عنها سيؤدِّي إلى مشكلات أكبر من استمراريتها.
بيئة المجتمعات الخليجية بصفة عامة متفاوتة في التعامل مع هذه التغييرات، الأمر الذي يساهم أكثر في تعقيد ما يمرُّ به المجتمع السعودي مؤخرًا، فرغم أن المجتمعين الكويتي والإماراتي قد قطعا شوطًا كبيرًا -مع الاحتفاظ لكل نموذج منهما بسماته الخاصة- في مثل هذه التحولات عن المجتمع السعودي وربما يمثلان أو أحدهما نموذجًا يمكن للسعودية استلهامه إلا أن ذلك لا يفيد كثيرًا، خصوصًا وأن عدد السكان في السعودية كبير جدًّا مقارنة بدول مجلس التعاون ككل، ولهذا العامل دور مؤثر في ذلك، إضافة إلى المكانة الخاصة التي تحوزها الشخصيات الدينية في السعودية، وتمثيلهم لفئة لا بأس بها في مجتمعهم.
الظروف المحيطة بالنخبة السعودية الداعية لهذه التغييرات تلعب دورًا مهمًّا في زيادة تعقيد المشهد، فعلى الرغم من دفع هذه النخبة هذه التغييرات بكل ما لديها من قوة وتوفير الحماية والرعاية اللازمة لها، إلا أنها قد تنتكس في سبيل الحفاظ على وضعها السياسي والمالي الأمر الذي قد ينعكس على تعاطيها مع ما تدعو إليه من تغييرات، خصوصًا في ظل الضغوط المتوقَّعة على القيادة السعودية إذا ما حدث تغيير محوري في الادارة الأمريكية الحالية.
توظف القيادة السعودية هذه التغييرات سياسيًّا سواء داخليًّا أو إقليميًّا أو دوليًّا، ومن أبرز محاولات هذا التوظيف الزعم من قبل ولي العهد السعودي في أحاديثه للداخل والخارج وإصراره على شيوع هذا القول خارجيًّا بأن هذه التغييرات هدفها إعادة المجتمع السعودي لما كان عليه قبل 1979م(1) في إشارة إلى أن التشدُّد الذي عرفته السعودية كان فقط منذ الثورة الإيرانية وهو أمر لا يفتقد للدقة فقط بل للصحة كليًّا، فالمجتمع السعودي قبل 1979م كان ينزع نحو التشدُّدِ أيضًا بذات المعايير التي تصف اعتقادات وسلوكيات المجتمع بعد 1979م بأنها متشدِّدة، وكان لرجال الدين حضور قوي منذ تأسيس السعودية عام 1932م، فقد كان الاتفاق الضمني بين آل سعود وآل الشيخ عند إقامة الدولة السعودية هو الأساس في تشكُّل المجتمع على هذه الشاكلة، ولعل مراجعة تأثير إدخال الراديو والتلفزيون في ستينيات القرن العشرين في السعودية (قبيل سنوات قليلة من التاريخ الذي يردِّده ولي العهد) وما أحدثه من صخب في صفوف رجال الدين، وشعورهم بالذُّعر عندما سمعوا لأول مرة صوت امرأة صادر عن جهاز الراديو عام 1963م، وما ترتَّب لاحقًا على ذلك من تعرُّض أول محطة تلفزيونية في الرياض لهجوم عنيف(2)، يكشف بوضوح عن عدم دقة معلومات ولي العهد، إلا إن كان يريد توظيفها سياسيًّا واستخدامها في الترويج لهذه التحولات.

أولًا- التغييرات السياسية والاجتماعية

تنتاب السعودية فورة غير مسبوقة في أوضاعها الداخلية وتغيُّرات جديدة على سياساتها الخارجية، فالسعودية التي شهدت اهتمامًا رسميًّا منذ ما يزيد من 12 عامًا بمصير الحكم (تأسيس لجنة البيعة)(3) فقد جرى الأمر مؤخرًا بصورة دراماتيكية وحاسمة في الوقت نفسه ودون حروب أو دماء ولكن بصفقات وبأساليب ليست بعيدة عن العنف، فصدور القرارات فجرًا، وبث لقطات متلفزة تم منتجتها بصورة محترفة وسريعة، والإقالات واسعة المدى، والمساس بثوابت على نحو غير معتاد؛ كل ذلك صنع الدراما ومكَّن لولي العهد الحالي الذي استكمل الدراما بتمكين دوائر نفوذه من خارج الأسرة الحاكمة مع عدم تجاهل أبناء عمومته ولكن بشكل مدروس، والاعتماد على الفروع وعلى تكتيف من لم يستطع تجاوزه بمستشارين ونواب من دوائره المقرَّبة ومحل ثقته، كما عمل على القضاء على نفوذ الجميع ولم يعد أحد يستطيع تقديم خدمات إلا محمد بن سلمان نفسه، وكان أي شخص يفعل ذلك في السعودية من قبل طالما يحمل لقب آل سعود- فالقول الرائج الآن إن لم تكن على علاقة مباشرة بولي العهد فلن تقضى مصالحك.
لا يمكننا التعبير عن متغيِّرات التحولات الحادثة في السعودية دون الحديث عن كنه هذه المتغيرات ابتداء، فيجب توضيح أن ما يحدث من تغييرات (بغض النظر عن تحديد مستواها أو سقفها) وإن كانت أمورًا بديهية في كثير من المجتمعات ولا تطرح للنقاش فيها من فرط بساطتها، ولكن إثارتها للجدل في السعودية نابع من منطلق حداثتها على المجتمع، الأمر الذي يثير درجة كبيرة من الاهتمام بها عبر الوسائط المختلفة الإعلامية والاجتماعية، وانشغال قطاعات كبيرة من المجتمع السعودي بما فعلته الرياح بعباءة إحدى الإعلاميات، أو مقطع فيديو لفتاتين في محل عملهما، أو فتاة تقف على سيارة في الشارع، وانتشار وسوم “هاشتاجات” من عينة “عارية تقود”، “سعودية تتناول الطعام مع وافد”، “النقاب لا يمثلني”، تدل بصورة بليغة على مستوى الاهتمام بمثل هذه الحالات الفردية والحرص على إدانة المجتمع ككل من خلالها، وتشويه صورة هذه التغييرات بأنها تهدف لانحلال المجتمع وانفراط عقده.
رغم شمول التغييرات الجارية في المملكة كافَّة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وبشكل مؤسسي وجذري إلا أن قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة الصادر بتاريخ 26/9/2017م، اختزل قصة التحولات السعودية وكان هذا القرار صاحب النصيب الأكبر من الاهتمام سواء داخل السعودية أو خارجها حيث اعتبر انتصارًا للمرأة، وبوابة التمكين لها للانخراط في عجلة التنمية(4)، وحرص العديد من رموز المجتمع السعودي على المشاركة في تنفيذ القرار بشكل عاجل وفوري من الدقيقة الأولى له (منتصف الليل)، كما حرصت العديد من الشركات على المشاركة في هذا الاحتفال فعلى سبيل المثال رحبت مطاعم “برجر كينج” بقرار قيادة المرأة للسيارة في المملكة العربية السعودية، وأطلقت حملة بفترة زمنية معينة تحصل المرأة بمقتضاها على بعض منتجات المطاعم مجانًا، كتبوا على هذه المنتجات عبارة «احتفالاً بقيادة المرأة» باللغتين العربية والإنجليزية(5)، وعمدت شركات أخرى مثل “أوبر” وشركات التأمين على السيارات وشركات بيع السيارات على الاستفادة من القرار وممارسة دعاية لنفسها على أعلى مستوى، فحجم التغيير في حياة المواطن السعودي العادي يظهر تحديدًا في الانفتاح الاجتماعي وغياب حالات التزمُّت السابقة، حيث قلَّت أهمية جهات كانت تتعامل بشدَّة، وفي الوقت نفسه استحدثت هيئة جديدة مختصة تسمى هيئة «الترفيه» -أسست في 7 مايو 2016- تهتم بشؤون الترفيه للشباب السعودي الذي يشكل الشريحة العظمى من سكان المملكة(6).
في الوقت نفسه ما تزال السعودية تعتقل العديد من نشطاء حقوق الإنسان ومن بينهم نساء، وتعمل على استغلال ذلك بصورة كبيرة في تصفية حساباتها مع العديد من الدول الأخرى وخصوصًا تلك التي حرصت على التوازن في أزمة السعودية مع قطر، فقد سعت السعودية إلى استخدام كل ما أمكنها من أدوات في صراعها مع كندا على خلفية انتقاد وزيرة الخارجية الكندية اعتقال السعودية لناشطتين سعوديتين(7) حيث لجأت إلى قطع العلاقات السياسية والاقتصادية وسحب سفيرها وطرد السفير الكندي، ونقل المرضى والطلاب بشكل عاجل دون ترتيب لأوضاع هؤلاء أو أولئك، الأمر الذي يكشف عن أهداف السياسة السعودية الجديدة الحقيقية التي لا تعنى بالمواطن ولكن ما يهمها هو صورة ولي العهد في الداخل والخارج، التي يجب أن تكون براقة وقوية وحازمة وحاسمة مع أي أحد سواء مواطنين أو دول صغرى أو كبرى.
كما أن ما حدث مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس ببعيد عن ذلك، فعلى الرغم من أنه لم يصدر أمر رسمي بحلِّ الهيئة وكل ما هنالك هو تقليص سلطاتها فقط(8) فإن السلطة عمدت إلى إنهاء وجودها في الشارع بشكل عملي وذلك بتوجيه الإهانات العلنية لأعضاء الهيئة من خلال إلقاء القبض عليهم بواسطة رجال الأمن لاعتراضهم على بعض أنشطة هيئة الترفية(9)، بل إن الإهانة لأعضاء الهيئة امتدَّت إلى المواطنين أنفسهم(10)، إلا أن التعامل الأكثر شدة كان من نصيب العلماء ورجال الدين غير المؤيدين لسياسة محمد بن سلمان سواء صرَّحوا بذلك أو على أقل تقدير امتنعوا عن تأييدها أو الدعاية لها أو تجرَّؤوا وأدلوا برأي قد يفهم منه أنهم يدعون للمصالحة مع قطر، فإن مصير هؤلاء بات معلومًا مؤخرًا بعد فترة طويلة من احتجازهم في السجون بأن تمَّ الإعلان عن بدء محاكمتهم، حيث تطالب النيابة العامة بإعدامهم(11).

ثانيًا- ردود الفعل على هذه التغيرات

تحسَّر المعترضون على التغييرات الاجتماعية في السعودية على ما أصاب المجتمع السعودي من وجهة نظرهم وعلى غياب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستبدالها بهيئة الترفيه، خصوصًا في ظلِّ انتشار بعض المظاهر السلبية وترويجها بكثافة واصطياد أي لقطة حتى وإن كانت عفوية أو لا تستحق الاهتمام أو حتى حالة فردية معيَّنة ولا يمكن تعميمها، وصولا إلى السخرية من القواعد التي وضعهتا هيئة الترفيه في الحفلات الفنية التي جرت بمشاركة مشاهير الغناء في العالم، في ظل المساحة التي باتت تحتلها وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع السعودي حتى إن مستخدمي الفيس بوك فقط في السعودية من أعلى النسب في العالم، ناهيك عن مستخدمي تويتر والشهرة التي يحوزها هناك، كما أن مستخدمي يوتيوب في ازدياد رهيب ولا تقل شعبيته عنهما(12).
في المقابل، يرى المؤيدون أن التغيُّرات لها أبعاد داخلية وخارجية مهمة، فداخليًّا تعني تحوُّل المجتمع السعودي إلى مجتمع مدني يواكب عصر التنمية والحداثة بإشراك المرأة في كافَّة أنشطته الاقتصادية والاجتماعية، ووجود الترفيه “البريء” سوف يبعد الشباب عن آفة المخدرات كما يبعد بعض الشباب عن التطرُّف والمغالاة في الدين والإرهاب، أمَّا على المستوى الخارجي فهي تصبُّ في صالح المملكة في تحسين صورتها أمام العالم الخارجي(13)، وأن السعودية قد تجاوزت ذلك التاريخ المشوَّه، وأن كل الثرثرة التي تُطرح حاليًا هي عناصر مقاومة ضعيفة لتيار التغيير والتنمية الصاعد(14).
يعول المسؤولون كثيرًا في المملكة على مساهمة التطور الاقتصادي في تثبيت أركان حكمهم وإقناع المجتمع بالقبول بالتغييرات الاجتماعية المواكبة له، وتستهدف أيضًا صناعة نخبة مالية جديدة في المملكة تدور حول ولي العهد ومن يراه أهلا لحيازة الأموال ويغلف ذلك برؤية المملكة 2030، والتي تتضمَّن العمل على تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص تحت منصة موحَّدة غايتها استقطاب أكبر عدد من المستثمرين ورجال الأعمال على كل الأصعدة، وتوفير فرص استثمارية في قطاعات التنمية الصناعية الوطنية، والأعمال اللوجستية، وصندوق الاستثمارات العامة والسياحة، وإثراء تجربة الحج والعمرة، وتوطين الصناعات وبالأخصِّ توطين معدَّات الدفاع، إذ قامت السعودية بإنشاء شركة تصنيع أسلحة في عام 2017م تحت إدارتها لتوفير فرص وظيفية لـ40 ألف سعودي، حيث تتوقَّع الحكومة أن يسهم قطاع الدفاع بما يزيد على 15 مليار ريال سعودي سنويًّا في الاقتصاد بحلول عام 2030(15).
إلا أن هناك من يرى أن الأمر يمس جوهر المجتمع وغير مصطنع من قبل الحكومة بل إنه نتيجة لتصاعد التغير الاجتماعي، واتساع تأثير العوامل الخارجية، إضافة لانفتاح المجتمع على الآخر بفعل دواعي السفر للدراسة أو السياحة على نحو غير مسبوق، وظهور البث الفضائي، هذه العوامل وغيرها أسهمت في إيجاد هوامش تعبيرية لم تكن متوفِّرة من قبل، خصوصًا وأنها مسَّت العلاقات الإنسانية في الصميم، فمن مجتمع كان يعيش حد الكفاية في كل شيء اقتصاديًّا واجتماعيًّا إلى حدِّ الطفرة والبنى الاقتصادية والاجتماعية المتداخلة(16).
وهكذا تجاذبت الإصلاحات والتغييرات في السعودية الجديدة بين من يراها لم تحدث من قبل، وبين من لا يرى فيها خيرًا، وقد اتَّسع نطاق المنتج الفكري لتقييمها لدرجة تستعصي على الحصر، ومن ثم من الممكن استعراض نماذج لهذه المعالجات وذلك على النحو التالي:
وصف أحدهم ما يجري في المملكة بأنه “القفزة الإصلاحية النوعية” وأنها “جاءت في سياق مجاراة حركة التاريخ وكخطوة ضرورية للانتقال من قرن سابق إلى قرن جديد له معطياته ومتطلَّباته”، مؤكِّدًا انتقال تأثيرها إلى إيران وبات الشباب تحديدًا يبحثون عن محمد بن سلمان إيراني ليحمل راية التحديث في بلادهم كما حملها هذا الأمير السعودي الذي أصبح مثالاً لأبناء جيله في الدول العربية وفي الدول الإسلامية”(17).
إن فترة الملك سلمان بن عبدالعزيز حفلت بتحوُّلات وإصلاحات سياسية واقتصادية عميقة ومؤثِّرة، تتجاوز في فعاليتها وتأثيرها على الداخل السعودي والمنطقة، العديد من التجارب السياسية في العالم، فالتغيير تجاوز إصلاحات الداخل، وترميم بيت الحكم، بتصعيد جيل الشباب الذي يشكِّل الشريحة الأكبر من نسبة سكَّانها، إلى نسج سياسات خارجية يجمعها التحالف الوثيق مع الأصدقاء، والحزم غير المسبوق مع كل الدول، التي ظلَّتْ طويلًا تقتات على صمت الحكمة السعودية(18).
كما أن هناك من يرى أن كل هذه الإصلاحات تصب في اتجاه سياسة الانفتاح والتغيير في المجتمع السعودي ضمن الضوابط التي حدَّدها الملك سلمان بن عبد العزيز وكلها تهدف إلى تشجيع السياحة الداخلية وتشجيع المواطنين على الإنفاق داخل بلدهم(19)، بل وصل الأمر بأحدهم لصياغة سؤال مشفوعًا بإجابته لماذا يحب الشباب السعودي بخاصة، والعربي بعامة الأمير محمد بن سلمان؟ وجاءت الاجابة -فورية- بأن جيله الذي حلم بالسعودية الجديدة استيقظ على محيا محمد بن سلمان، مؤكدًا أن العقول النيرة هي تلك التي ترى البركة في الحركة لا السكون، في العمل لا الخمول، ولا أصدق من عزيمة رجل خبر البقاء في مكتبه لـ18 ساعة يوميًّا، وأن محمد بن سلمان يرى التحدِّي، ويتحدَّث إليه، وهو يمشي واثق الخطى مسرعًا، مشية رجل لن يوقفه عن تتبُّع حلمه إلا الموت(20)، ويبدو أن محمد بن سلمان نفسه قد قرأ هذه الرؤية أو أن صاحبها ممن يكتبون له تصريحاته ويجيبون عن أسئلة حواراته، فقد أكَّد محمد بن سلمان في إجابته عن سؤال للكاتب الأميركي توماس فريدمان -الذي لا يستبعد أنه أحد مستشاريه- لماذا يعمل دومًا كأن “الوقت يُداهمه”، قائلا: لأنني أخشى أنه في يوم وفاتي سأموت دون أن أحقق ما يدور في ذهني، إن الحياة قصيرة جدًّا، وقد تحدث الكثير من الأمور، كما أنني حريص جدًّا على مشاهدته بأم عيني، ولهذا السبب أنا في عجلة من أمري(21).
في المقابل، يرى البعض أن ما يجري في السعودية ليس إلا تمكينًا لولي العهد -الملك القادم- والعمل على تسلُّمه السعودية الجديدة وهي تحت سلطته الكاملة وهيمنته المطلقة ونفوذه اللانهائي، من خلال تمكُّنه من الداخل السعودي بهذه السياسات، وصياغة واقع إقليمي داعم له ومرحب به ولافظ لخصومه، وقيامه بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية بثمن دفعه وما زال يدفعه نقديًّا، وأنه لن يتورع عن القيام بأي أمر في سبيل ذلك الهدف(22)، بما في ذلك حملة الاعتقالات التي شملت أمراء نافذين في العائلة المالكة يشكلون آخر مراكز القوى داخل الأسرة وفي النظام، وقد وضح جليًّا أن هذه التحرُّكات تحظى بتأييد الرئيس ترامب ومساعديه المقربين وعلى رأسهم صهره كوشنر، الذي تحدَّثت وسائل إعلامية أميركية عن علاقة خاصة تربطه بولي العهد محمد بن سلمان، (مؤخرًا هناك تقارير إعلامية تتَّهم كوشنر بتسريب تقرير أمني تسبَّب في حملة الاعتقالات في السعودية(23))، وزامن ذلك ارتفاع نبرة التصعيد مع إيران و”حزب الله” وتزايد المؤشرات على تقارب خليجي-إسرائيلي برعاية أمريكية لمواجهة النفوذ الإيراني، وإذكاء نار الأزمة الخليجية(24).
بل وصل الأمر أبعد من ذلك بالقول إن ولي العهد الحالي الأمير محمد بن سلمان عازم على تطوير “قومية سعودية جديدة” بين الشباب، شعارها “السعودية للسعوديين”، وأن الغرض منها ابتكار غراء يلصق الشباب بالملكية، وتعزز القومية الجديدة الجبهة الداخلية ضد أعداء حقيقيين ووهميين مثل إيران(25)، ويعتمد في ذلك على مجموعة تساعده أبرزهم تركي آل الشيخ -الذي لا يحوز أي إمكانات سوى صداقته مع محمد بن سلمان- وهو نموذج معبر عن طبقات الحكم الحالية في معظم دول الخليج العربي وخاصة السعودية والإمارات، وهي: الأموال التي لا حصر لها، والمناصب الاسمية الضخمة، والخبرات شبه المنعدمة، والمهارات الضئيلة التي لا تشفع لصاحبها بإنجاز تطور في مجالات حيوية سياسية أو غيرها، يمثل تركي آل الشيخ، بالنسبة إلى معظم الجمهور العربي رجل المرحلة المتوسطة، وبامتياز(26). ويمكن التعرف على حجم ما حدث في المملكة من تغيير بالمقارنة بين السنوات المكثيرة التي قضاها الأمير عبد الله الفيصل رئيسًا شرفيًّا للنادي الأهلي المصري بما تركه من إنجازات حقيقية وسيرة طيبة وعلاقات ودية مع الجميع، وبين الأيام القليلة التي قضاها تركي آل الشيخ رئيسًا شرفيًّا لنفس النادي، وحجم ما خلفه من استنكار واستهجان وغضب وإساءة. ومن ثم فإن تجربة محمد بن سلمان لا تختلف في كثير من تفاصيلها عن تجربة أبناء مبارك في مصر وسيف الإسلام القذافي في ليبيا، وغيرهما في الوطن العربي ممن تُسلِّمهم الدولة جميع الإمكانيات ويستغلونها في بيع الوهم وتحشيد الناس وإقامة حفلات للمبايعة والولاء، إذ ترفع شعارات ولافتات تنادي بوضع حد لشبه الدولة، كما تَعِد بدولة فيها طرقات وإضاءة وشوارع ومجارٍ حقيقية وجامعات وصناعة وكل ما يحلم به المواطن، دون أن يذكر أن أوجه القصور هي ميراث حكم عائلته، وطبعا دون أن يقترب من الحديث عن السياسة وتأسيس نظام حكم عادل وديمقراطي وما يرتبط به(27).

خاتمة: الدولة على قمة منحدر والحاكم هو من يمنع سقوطها

هناك العديد من المحاولات للتنبؤ بمستقبل السعودية في ظلِّ الأهمية الاقتصادية الكبيرة التي تمثلها في العالم وتأثيرها القوي في الإقليم الخليجي بصفة خاصة والشرق الأوسط بصفة عامة، الأمر الذي يعني أن انهيار السعودية او انفجارها سيمتد أثره للعديد من دول العالم، ومن ثم اجتهد العديد من الباحثين لصياغة سيناريوهات مستقبل المملكة، حيث تناول كتاب “العربية السعودية مملكة في مواجهة المخاطر” خمسة سيناريوهات(28) تمثلت في سيناريو التخبط، وسيناريو الانفجار الاجتماعي، وسيناريو الإصلاحات/معضلة الملك، وسيناريو القمع الصارم، وسيناريو الانفجار الداخلي الكامل، وقد رأى أمجد جبريل أن السيناريو الأمثل هو خليط من هذه السيناريوهات الخمسة، مشيرًا إلى أن ما يحدث في السعودية هو مزيج من خطوات جزئية قصيرة المدى، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع إغلاق متعمَّد للمجال السياسي، الأمر الذي سيؤدِّي إلى إضعاف السعودية، وتراجع مكانتها الإقليمية والدولية، عاجلاً أم آجلاً(29)، في ظل سياسة السعودية الإقليمية والدولية التي تنتهج نهجًا حاسمًا في الخلافات، ولعل أبرز النماذج على ذلك خلافها مع كندا، ومع قطر، ومع اليمن، ومع مصر في (تيران وصنافير).
لا يمكن الانحياز بسهولة إلى أي من السيناريوهات السابقة، إلا أن أبرز ما يكن إضافته في هذا الإطار أن محمد بن سلمان يسعى إلى ربط مستقبل السعودية ببقائه في الحكم، فقد عمد إلى بسط سيطرته بصورة كاملة على مصادر القوة العسكرية في السعودية، كما يعمل جاهدًا على إدارة الوضع الاقتصادي بما فيه غير الرسمي، حتى ولو تم ذلك بالمصادرة والتأميم، وصولًا إلى احتمالية تحديده سقفًا للأموال التي يمكن أن يحوزها المواطن السعودي، كما أنه فرض أهل ثقته -بغض النظر عن إمكاناتهم- على مواقع النفوذ جميعها في السعودية، ولم يترك المجتمع، فقد اجتهد ومعاونوه ومستشاروه العرب والأجانب في إشغال المجتمع السعودي بصورة غير مسبوقة، فقد شغلوا الأغنياء بالترفيه وشغلوا الفقراء بالضرائب والغلاء، وأقنعوا الأغنياء أنهم يستهدفون إبقاءهم في المملكة وإنفاق أموال السياحة فيها، وأقنعوا الفقراء أن الضرائب على الجميع وأنها تستهدف استمرار قدرة الدولة على تقديم الخدمات لهم، وفي الوقت نفسه يعمل على صنع قطاع في المجتمع يرتبط معاشه بصورة مباشرة بالولاء لمحمد بن سلمان، ببساطة يستلهم محمد بن سلمان تجربة الجيش المصري في مصر بإقناع المواطنين أن انهيار حكمه يعني انهيار الدولة، وما سيتبعه من تأثير على المستويين الداخلي والخارجي ويعزز من تسويغ حججه هذه ما يراه المواطن السعودي من أوضاع مؤسفة تعيشها العديد من الدول العربية بعد إفشال ثوراتها دون الإشارة بالطبع إلى المسؤول عن هذا الإفشال.
*****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية.
(1) خلال مشاركته في منتدى “مبادرة مستقبل الاستثمار”، بتاريخ 24 أكتوبر 2017 في العاصمة السعودية الرياض أكد محمد بن سلمان ردًّا على سؤال بشأن النهج الأكثر انفتاحًا الذي تتخذه المملكة مؤخرا: “أن السعودية لم تكن كذلك قبل العام 1979، السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع صحوة بعد عام 1979، لأسباب كثير ليس من مجال اليوم ذكرها، فنحن لم نكن بهذا الشكل في السابق”. وقد ذكر تقرير نشره موقع الشبكة التلفزيونية الأمريكية CNN أن إشارة ولي عهد السعودية تلك تعيد إلى الأذهان ما شهدته السعودية والمنطقة من أحداث عام 1979، وبخاصة “ما شهدته المملكة على يد متشددين من السنَّة قاموا باحتلال الحرم المكي بقيادة جهيمان العتيبي، في حين كان متشددون شيعة يمسكون بمقاليد السلطة في إيران بعد الإطاحة بالشاه معلنين قيام دولة إسلامية” وأن هذه الاحداث دفعت المجتمع السعودي للتشدد أكثر.
(2) بول آرتس، وكارولين رولانتس، العربية السعودية مملكة في مواجهة المخاطر، ترجمة ابتسام الخضرا، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، يونيو 2016)، ص 93.
(3) هيئة البيعة: هي هيئة سعودية تعنى باختيار الملك وولي العهد وولي ولي العهد، وتتكوَّن من أبناء وأحفاد المؤسِّس الملك عبد العزيز آل سعود، ولقد أسست الهيئة في 28 رمضان 1427 هـ الموافق 20 أكتوبر 2006.
(4) إيمان الخطاف، احتفال شعبي بقرار قيادة المرأة للسيارة… وتبادل للتهاني، الشرق الأوسط، 28 سبتمبر 2017، رقم العدد (14184)، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/W8mibB
(5) “برغر كنغ” يحتفل بقيادة المرأة في السعودية، الشرق الأوسط، 19 يوليو 2018، رقم العدد (14478)، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/FALR9A
(6) شملان يوسف العيسى، التحولات في السعودية، الشرق الأوسط، 24 مارس 2017، رقم العدد (13996)، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/THpYFb
(7) الأزمة بين السعودية وكندا: هل نجحت الرياض بإيصال رسالتها؟، موقع بي بي سي عربي، 10 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/4nNMoK
(8) السعودية تقلص سلطات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، موقع رويترز، 13 أبريل 2016، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/45wAUZ
(9) القبض على أحد دعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثناء الاحتفالات، فيديو على موقع YouTube، 28 سبتمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/V3p2am
(10) سعودية تصفع أحد أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيديو على موقع YouTube، 2 سبتمبر 2014، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/co7q47
(11) 37 تهمة.. محكمة سعودية تطالب بإعدام سلمان العودة، موقع الجزيرة.نت، 4 سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/PZDff2
(12) بول آرتس، وكارولين رولانتس، مرجع سابق، ص 93.
(13) شملان يوسف العيسى، التحولات في السعودية، مرجع سابق.
(14) فهد سليمان الشقيران، السروريون… «المرجفون في المدينة»، الشرق الأوسط، 19 يوليو 2018، رقم العدد (14478)، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Gn8EX8
(15) تقرير منتدى مكة: التحول من اقتصاد قائم على النفط يسهم في تعزيز النمو، الشرق الأوسط، 05 مايو 2018، رقم العدد (14403)، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/BPzBGM
(16) ميرزا الخويلدي، حسن النعمي: الرواية السعودية اخترقت التحصينات المحافظة، الشرق الأوسط، 18 سبتمبر 2017، رقم العدد (14174)، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/d8gsqF
(17) صالح القلاب، الإنجازات السعودية تتحول إلى قنبلة حضارية تضرب إيران، الشرق الأوسط، 17 مايو 2018، رقم العدد (14415)، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/nU9g8A
(18) تركي الدخيل، أولويات السعودية الجديدة! الشرق الأوسط، 4 يوليو 2018، رقم العدد (14463)، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/nNDgHH
(19) شملان يوسف العيسى، التحولات في السعودية، مرجع سابق.
(20) تركي الدخيل، لماذا يحبون محمد بن سلمان؟، الشرق الأوسط، 11 يوليو 2018، رقم العدد (14470)، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/2MZRux
(21) محمد بن سلمان: أخشى أن أموت دون أن أحقق ما بذهني لوطني، قناة العربية، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/kohBzL
(22) ففي خطوات سياسية معدَّة سلفًا أعلن الملك سلمان بن عبد العزيز عن إنشاء هيئة لمكافحة الفساد أوكل رئاستها إلى ابنه ولي العهد محمد بن سلمان، وقد قامت الهيئة خلال ساعات من إنشائها بإصدار أوامر إقالة واعتقال 11 أميرًا من العائلة المالكة، إضافة إلى أربعة وزراء حاليين وعشرات الوزراء السابقين ورجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين ومصادرة أموال قدَّرتها وسائل إعلام بمليارات الدولارات، وكان أبرز من جرت إقالتهم واعتقالهم وزير الحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله وشقيقه أمير منطقة الرياض السابق تركي بن عبد الله. وبإقالة الأمير متعب، يكون الأمير محمد قد أحكم سيطرته على آخر جهاز عسكري داخل الدولة بعد أن أكمل سيطرته على الجيش ووزارة الداخلية بعد إقالة ولي العهد ووزير الداخلية السابق الأمير محمد بن نايف في يونيو 2017.
– السياسات السعودية في المشهد الإقليمي: تعزيز فرص انتقال السلطة وإعادة تشكيل المنطقة؟، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 6 نوفمبر 2016، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/NwTMqj
(23) وثيقة مسربة ومطالب بالتحقيق حول حديث “الأمراء غير الأوفياء” بين ابن سلمان وكوشنر، موقع sputnik عربي، 29 مارس 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/mzaAcu
(24) السياسات السعودية في المشهد الإقليمي: تعزيز فرص انتقال السلطة وإعادة تشكيل المنطقة؟، مرجع سابق.
(25) قومية ابن سلمان.. كراهية الأجانب والقبلية والأعداء الوهميون، موقع الجزيرة.نت، 6 سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/NK9xSK
(26) أسامة الصياد، “الكفيل”.. لهذه الأسباب يتحكم “آل الشيخ” بالمشهد الرياضي المصري، موقع ميدان، 9 سبتمبر 2018، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/8BaoVs
(27) مراد بن محمد، “الفنكوش”السياسي.. كيف يتقن الحكام بيع الوهم؟، موقع ميدان، 8 سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/exu7f1
(28) بول آرتس، وكارولين رولانتس، مرجع سابق، ص 153 – 158.
(29) أمجد أحمد جبريل، “السعودية الجديدة”.. صورة أم حقيقة؟، العربي الجديد، 7 أغسطس2018 ، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/QcFsE3

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى