إبادة التعددية وظيفة الدولة القومية

تستمر معنا في هذا الحوار منظرة الأمة القطب” الدكتورة منى أبو الفضل في استجلاء الحقائق الحضارية المؤسسة للأمة، وتحاول تعقب العاديات على أصولها، مستفيدة من تعمقها في أصول الحضارة الغربية، ليبدو كلامها وسط كاشف مقارن بين الحقائق المعرفية المختلفة..

بدأنا معها في ثنائية الشيخ والمريد بحسبانها رافعة الذكر الحضاري العربي، وانتهينا إلى التوحيد والوحي.. كسبا عقليا وهبة ربانية، وتوقفت مع كابحة وكاسحة التعدد في الفضاء العربي.. نقصد الدولة القومية كمفهوم يحتاج أن نناوشه كثيرا بمقدار ما ناوش أصولنا.
الدولة.. والرؤية الواحدية
التبطين الداخلي للأمة مصطلح لكم، وخلاصته أنك تنظرين للعبادات مؤسسة وسابقة على المعاملات، وأن المعاملات إن لم تأت على تبطين داخلي تولد النفاق، وكنموذج دال على تلك العملية التعليم الإسلامي التقليدي القائم على ثنائية الشيخ والمريد، حيث المزاوجة بين الماديات والمعنويات، إنها أخلاقيات العلم وروح العلم، وهو ما لا نجد له نظيرا في الحضارة الغربية.
طالع:
 
نص الحوار الأول مع د. منى أبو الفضل§

لكن هناك ملاحظة بسيطة تتعلق بفكرة العلاقة الخاصة بين المريد والأستاذ، فعملية معايشة العلم بقيمه المختلفة مهمة للغاية، فهناك نموذج مهم يرد لخاطري لا يتعلق بخلط المفاهيم ولا تشويشها ولا حفظ مظهرها الخارجي دون جوهرها وإنما أسلوب التعامل معها؛ ففي الحياة العسكرية مثلا نجد أن من في رتبة عليا يعامل الجنود ممن تحت رئاسته معاملة تكاد تكون معاملة عبيد، إنها معاملة تملك كاملة، وهنا نجد أن الجندي يبدو خانعا ومطيعا ظاهريا ولكن في الباطن نكتشف أنه مليء بكل ثغرات الفساد الممكنة في الخلق، وعند ذوي الرتبة الأعلى هناك خُلق الكبر هو السائد، على حين أن الرتب الدنيا من الجنود بها كل المظاهر التي ترتبط بالمذلة، فكيف نتوقع هنا من القائد الذي هو مثال للدولة والجنود الذين هم يرمزون لجمهور الشعب؟ كيف تتوقع أن تربي جيلا ينشئ من هذه الأمة فيها عزة وكرم نفس وهي معاني وصفات مشتركة بين الطرفين وتتوقف على موقعك في الحياة؟.
*
أفكارك تثير حزمة من الأسئلة.. أولها حول فكرة الدولة القومية التي صادرت المجتمع وعلاقاته وتركيباته، بل ومدت أنفها إلى صميم علاقة خاصة جدا كالأب وابنه بموجب قانون الطفل المصري الجديد.. كيف تقرئين حالة هذه الدولة الكابحة للتنوع في مجتمع قوته في تنوعه؟
الدولة القومية لها سياق تاريخي لظهور أو نشأة الدولة، مفهومها مرتبط بالتاريخ الأوروبي؛ بحيث إن الدولة القومية كانت مرحلة من مراحل بدايات الوحدة الأوروبية بخلاف ما حصل في العالم الإسلامي؛ فبدايات الدولة القومية عندنا كانت بداية شتات الأمة، والآثار الأولية للدولة القومية في الغرب كانت تتوزع بين السلبي والإيجابي، وأهم مظاهر الإيجابية كانت الفصل بين الدين والدولة، ولو وسعنا الأفق فسنجد أن التجربة التاريخية متضادة للنموذجين الحضاري الإسلامي والنموذج الحضاري الغربي، فتبدو وكأنها متقابلة.
وعلى سبيل المثال: التشابك بين العناصر الإيمانية والعناصر الوثنية كان لها مفعول معين ارتبط بالنهضة الأوروبية، ولسنا نقابل وإنما ينبغي أن نعرف أن منشأ الحض على العلم وشغف التعلم في الأصول التاريخية للأمة الإسلامية مرتبط بالعكس بالتعقل والنظر، والاستفادة من خبرة الآخرين كان منبعه القاعدة القرآنية: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا} [النمل : 69]؛ لذلك أوجدت نوعا من النهم لم يكن له علاقة بالعرب قديما.
من ناحية أخرى لو عدنا لأصول فكرة الدولة السيادية للدولة القومية، وعندما ننظر لمفهوم الدولة يجب أن ننظر له في إطار سياقه التاريخي كما نفلسفه في أصول المفاهيم، فهو له فلسفة وله سياق؛ السياق دون أن نخوض فيه مرتبط بسياق تاريخي أعم، إنه جزء من خصوصية حضارية، والحضارات تجمع بين الخصوصية والذاتية، والخصوصيات إما تكون مرتبطة بزمن أو آلة أو غيرها.
وعموما إذا تتبعنا تأصيل النهضة فسنجد أن التعدد والتنوع من سنن الكون؛ فهناك أصل، ثم تزاوج أو زوجية، وأخيرا تنوع، وهذا كله من سنن الكون والحياة، وفي مطلع سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} [النساء : 1]، في آية واحدة جمعت فلسفة كاملة مستبطنة في القرآن واحدية وزوجية وتنوع.
إذن التنوع من أصل الأمور في الرؤية القرآنية، وهناك رؤى دينية أخرى مثل التوراة ترى أن التنوع أو التعدد خروج على الفطرة أو الطبيعة، واختلال في الوجود، فالله سبحانه وتعالى عندما أوجد ألسنة متعددة بين الجماعات المختلفة في العراق تبلبل لسانهم فلم يعودوا يفهمون بعضهم البعض، ومن هنا سموا بأهل بابل.
لكن مع الدولة القومية تبرز النمذجة والقولبة، وغيرها من المفاهيم والقيم التي لا تحتفي بالتعدد، وعندما يحاول الشخص النظر فيما حوله لما يدور في الحياة من اختلافات ومن شجارات فسيجد أن الأصل العقدي لدينا مؤسس للتنوع والتعدد، وكنت أتساءل: لماذا يغفر الله الخطايا والذنوب عدا الشرك؟ وتوصلت إلى أن العقيدة منطلق الأفعال وأنها تؤثر بشدة على المفاهيم والتوجهات والسلوكيات حتى لو أنها داخلة في اللاشعور، علما بأن الأوربيين لديهم استبطان كبير لمفاهيم عقيدتهم المتشربة عبر تاريخهم، وإذا افترضنا أن أحدا احتج بأن الدين غير مهم فهذا غير صحيح؛ إذ إن الدين مستبطن من خلال الفلكلور، والأدب غيره.
بقاء الفاعلية
*
البيان السابق يعطينا دلالة تاريخية مرتبطة بنهضتنا، مفادها أنه دولة ذات سلطة أقل تعني مجتمعًا ذا عافية أكبر، والعكس.. فالفرعونية صناعة شعبية!
الدولة لدينا توغلت؛ لأنها تغولت، والذي منحها الفرصة أنها أضعفت الأمة بعدما دخلت الأمة في الدورة التي تتعرض لها الأمم جميعا من النهضة التي يعقبها دوما الهبوط الحضاري، فالأمم لا تبقى على حالها، وإنما هناك منحى خاص بها يصعد ويهبط، وعندما يهبط يتحول إلى جزء من الدفع الحضاري، ويمكن أن نلخصها في: (الهمة- التنشيط- الاستيقاظ مجددا)، والحياة سلسلة من الاستيقاظات فقد نتراجع فترة ثم نعاود.
*
لكن من المهم في ثباتنا الطويل، وعند تحليل الانحطاط الحضاري عدم إغفال تواكب وتزامن الأسودين علينا: الاستبداد والاستعمار، أليس كذلك؟!
يمكن القول إنه في مرحلة من المراحل اجتمع علينا أكثر من عنصر من الضعف، لكن دعنا نتأمل التجربة الأوروبية، فعندما عاشت أوروبا فترة العصور المظلمة الوسطى كان من المنشطات التي حفزتها لتجاوز أزمتها الحضارية، وتلك فكرة الحروب الصليبية التي أسميناها حروب الفرنجة.
اللافت في تجربة الحروب الصليبية أن الغربيين يفخرون بها وكانوا يرتدون الصلبان يلبسونها على صدروهم حتى لما تنظر إلى صلاح الدين والظاهر بيبرس لا تجد المسلمين يرتدون شعارات دينية، وإنما نجد المسلمين من المنظور الغربي المسيحي علمانيين، الغربيون كانوا في هوس ديني؛ ففي الحروب الصليبية، وفي الترجمات من الأندلس يحاولون التبرؤ من الأصل الإسلامي أو العربي، وبحثوا عن مسميات أخرى فقالوا المحمديين بعد ذلك من النبي نفسه فحرفوا اسم النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى “ماهوند” أو عبدة النار، والمسلمين كانوا (سارسونز) أكثر من محاولة تفسير هل هم أبناء سارة أو معناها المجوس عباد النار فيه تشوش في الرؤية تنم عن الرغبة في حجب الأصل مع التنفير منه أيا كان.
وهذه نلاحظها بوضوح في منتصف التسعينيات عندما أصدرت مجلة التايم عددا خاصا وهدية خريطة مع العدد قامت فيها بتقسيم العالم في القرون العشرة الأخيرة، وكنت أبحث عن الإسلام ولم أجد سوى إشارات بسيطة، وفي فقرة خادعة يمكنني أن أسميها خدعة بالنسبة للعقلية الكبيرة التي تقوم على التحرير، وأيضا أسميها جهلا بمعنى عدم معرفة تلازمها ميل طبيعي في الرؤية العامة للأمة الغربية للبحث عن الجانب العرقي.
وهذه تغاير منظورنا في الإسلام والحضارة الإسلامية فنحن؛ لا نقول بالإثنية والعرقية؛ فلا يهم من حيث المبدأ إن كانت أصول المسلم مغربية أو تركمانية، كما أن فكرة العنصرية غير موجودة في تراثنا.
*
ولكن ما هو موقع الوحي في الحياة؟ وما هو موقعه كمصدر للمعرفة؟
أنت تسأل عن دور الوحي في الحياة؟ ومن الأشياء التي تجعل الوحي أساسا للحياة ومرجعية لها أن الوحي يأتي من الذي يعلم الغيب والشهادة، فلدينا معايير معينة وعندئذ فإن علاقة الواقع والتطور وسنن الزمان علاقاتها تصبح باستدعاء أو توضيح أو بلورة مبادئ منهج أفصح عنها الوحي فأصبحت مقروءة، فيصبح هناك نوعان من الوحي: مقروء ومنظور.
فأنت تقرأ الكون إذا امتلكت الفطرة أو التنشئة الاصطفائية بأن تكون من المصطفين الذين يصطفيهم الله، عندئذ فقط تقرأ بنور الحق، وهذا من قوة العلاقة مع الوحي باجتهادك أولا، ثم تصبح هبة من الله، وهنا يحضرني قصة “حي بن يقظان” ففي عزلته كان مستكفيا بذاته وعلى فطرته، ولجأ إلى مقاربات مختلفة للمعرفة حتى شعر أن ليس هناك مسافة بينه وبين مصدر معرفة اليقين، ومن هنا أدرك أن من منطق الحكمة والمعايشة أن الحق حق والباطل باطل، وأنها بدهية وواضحة، وبالتالي أعتقد أن ليس حاجة ماسة للوحي؛ لأنه متسكن في الوجود.
ولكن بينما ذهب للجزيرتين وخالط أناسًا متعددة وأشكالا ونظما مختلفة أدرك عدم صواب ما ذهب، وحتى لا يكون للناس حجة على الله أرسل الله الرسل، فالوحي أساسي في الحياة وليس مكملا، وهذا الذي يجعلنا نعرف في نظرية المعرفة موضع الوحي وموضع الخبر الذي يأتي من عالم الغيب والمساحات المختلفة التي يحكم فيها الوحي.
فالوحي أساسي ومؤسس لحياتنا، تأمل مبدأ “وتعانوا على البر والتقوى” كملهم للفكرة الجماعية لدينا مع الاحتفاظ بفردية الفرد، حتى داخل نظام الملل، لدرجة أنه كنموذج حضاري في الإسلام رائع، إنه يمنح حقوقا لأهل الذمة مالية ويحفظ كياناتهم الجمعية، لكن في نفس الوقت يقدر الفرد داخلهم يختار وفق أي قانون يتحاكم، فهناك حدود لسلطة الملة وهذا كله يتفق مع منظومة الأمة الوسط، منظومة الخصائص التي تبعدها عن النقائض والانحراف في التحرك الطبيعي للأمور، فإذا لم يكن هناك ميزان فلن نعرف أين موضع الانحراف.
خصائص الأمة الوسط وأمة الشهادة أفضل أوصافها تعرض من خلال مناقشة الحياة، ومن خلال الأحداث والوقائع أننا عندنا نتحوط قليلا بالأخذ بالمفهوم؛ لأن نشأة الأمم “النشأة التاريخية الوضعية” للأمور من الممكن أن تأخذ باتجاهات الواقع، ومن خلال الواقع الذي يكشف كيف تنشأ الأعراف في ضوء تجارب واقعية ينتهي بها قدر من المعلوم عن المعروف.
المفكر الألماني مراد هوفمان رفض مقولة تتحدث عن أن زيادة مساحة العلم تؤدي إلى تضاؤل مساحة الجهل، على اعتبار أن زيادة العلم تؤدي إلى الاحتكاك بالمجهول، وفي هذا الاحتكاك يحتاج العلم والعقل إلى قدر من اليقين، وهو ما يوفره الإيمان.
هذه القراءة للوحي هي التي تحولت إلى “سحرنة العلم” فتحول إلى وحي مثله (scientism) وهي تعني تحويل العلم إلى عقيدة وحقيقة، وليس توظيف العلم من أجل مقاربة الحقيقة.
لقد كان القرن الماضي ومطلع القرن العشرين عصر الانبهار بالعلم، وهذا لم يمنع ظهور أصوات خافتة بين العلماء أنفسهم تؤكد حدود العلم من منطق العلم نفسه، والذي حدث الآن ظاهرة أوسع وأكثر عمومًا نتيجة انتشار العلم، فلم تعد هذه الأصوات خافتة، وما يميزها أنها نابعة أساسا من أصحاب العلم، إنما الآن خرجت على العلماء أنفسهم وأصبحت دائرتها دائرة حدود العلم فلم تعد نخبوية، ولو تذكرنا في مطلع العشرينيات هايدجر ونيتشه؛ ولذلك أطلقوا عليه التحقيب الغربي للفكر، وهو يعتبر نيتشه كأنه امتداد للفكر الرومانسي الألماني الذي هو عكس العقلاني.
وفكرة العقلانية والرومانسية أو الفعل ورد الفعل من أهم سمات العلم الغربي، ولكن لا نستطيع أن ننظر من خلال الفعل ورد الفعل المطلق فقط؛ لأنه من خلال الفعل ورد الفعل يكون هناك صوت أعلى وصوت خافت، بمعنى: ليس هناك صوت يختفي تماما وهو ما يدخلنا في نوع من التنظير للمنظومات المعرفية والحياتية التي تم التنظير لها في العلوم من خلال الثورة العلمية، و”توماس كون” في كتابه بنية الثورات العلمية” الذي درس من خلاله منظومة العلمية نفى تماما أن العلم تطور منطقي عقلاني محض، وأكد على أن تاريخ العلم بالضرورة يبين أنه ليس دورة ممنهجة تعتمد على بلورة في العلم العقلاني والتجارب، وإنما هناك عنصر لاعقلاني هو عنصر الصدفة، ومعه تحدث النقلة النوعية، ولو سرنا على العقل فقط واعتقدنا أنه هو الذي يقود المسيرة العلمية فسوف نقع في مطب.
تأثروا بالإسلام
*
هل تأثر الغرب المسيحي ومذاهبه المختلفة بالإسلام فيما يتعلق ببعض القضايا ومن بينها التوحيد؟
في الغرب عندما بدأت فلسفتهم لمنظومة العلم وتطوره كان ذلك مبنيا على أطروحات مختلفة مرتبطة بتجارب تاريخية، وعبر طقوس وألفاظ، وكأنهم يقومون بتسميع محفوظات، وهو ما يتناسب مع أنهم كانوا يمارسون التدين من خلال أقوال ومفاهيم تم حفظها وصمها تماما، ومن هنا فإن مفهوم المسيحيين للوحي سواء الكاثوليك أو البروتستانت مختلف تماما عن مفهومنا في الإسلام.
الأصل الكاثوليكي للوحي لا يختلف كثيرا عن الإلهام والغموض، ولذلك تعبير mysteryمستخدم بكثافة في الكاثوليكية، ولذلك لا ينبغي سؤال رجال الدين؛ فهؤلاء ينطقون عن الوحي.
والكاثوليك يختلفون عن البروتستانت في أن لهم رموز قداسة وإطارًا مرجعيا يعرف بآباء الكنيسة، ولذلك وجد بعض متصوفة الكاثوليك ممن تأثروا بالاحتكاك بالإسلام في موطنه، ومن تأثروا بالإسلام أخذوا منحنيين: البروتستانت استفادوا من الإسلام في الكليات، بينما استفاد الكاثوليك في الفرعيات.
كتاب “توما الأكويني يناقش مثلا الربا ويصمه بأنه حرام، فتبقى الجزئية أنه قرأ في الإسلام، وتأخذ المناقشة بشكل معين ومن محدودية أو نفاق الثقافة في عصره بعدما أخذ بعض أشياء من الإسلام؛ إذ به يكملها بغمز وشتيمة في الإسلام من أجل أن يبعد الشبهات.
البروتستانت أخذوا كليات وعناصر أساسية من الإسلام، أما الكاثوليك فلم يستطيعوا ذلك بسبب وجود مرجعية البابا، فكان لا بد بالنسبة إليهم من حدوث عملية موائمة حتى لا يتهموا بالهرطقة، كما اتهموا الإسلام بأنه هرطقة مسيحية، ولذلك لم يتم الاعتراف به على المجال الديني، إنما البروتستانت وجد لديهم اطلاع واسع على الإسلام حتى إن مارتن لوثر كان يخفي نسخة مترجمة من القرآن عثر عليها بأحد الكليات الدينية في هارفارد وكان لوثر قد علق عليها بعض التعليقات.
وبالطبع فإن بعض المسيحيين كان يقرأ العربية مباشرة، لكن غالبيتهم كانوا على اطلاع بالإسلام من خلال الترجمات المنقولة وغالبيتها كانت لتراثنا في الأندلس وكانت تتم عبر الدارسين الغربيين المنتقلين من كامبريدج وباريس للدراسة في الأندلس.
اليهود -أيضا- لعبوا دورا في إطلاع المسيحيين الغربيين على التراث الإسلامي؛ فقد كانوا جماعة وظيفية تتنقل بين الثقافات -دون أن نؤكد تماما على المصطلح- ومنهم من أجاد العربية بحكم تعدد عناصرهم، وهم قد قاموا بترجمة الأصول العربية إلى اللاتينية في أول الأمر، ثم إلى لغات أوروبية مختلفة وذلك مع تطور اللغات القومية فيما بعد.
هذه كلها من المؤثرات الكثيرة التي جاءت من الإسلام في زمنها، وامتدت إلى الآن، وغير معترف بها في تاريخ وتطور وواقع العلم الغربي، وليس فقط عدم اعتراف بتأثير الإسلام وعدم الإحساس به؛ لأنه يتسرب في عروق الثقافة الأخرى وبطريقة تدفع إلى الأمام بمفهوم التقدم الغربي، وهو ما يعني أن دور الإسلام حتى في عصور الكبوة مستمر ولم يحدث له انقطاع؛ لأن المبادئ الإسلامية تتحرك من خلال أفراد ولكن بطريقة غيبية، وتأخذ مسالك معينة.
ونستطيع أن نرى مسالك التطور، وكيف استطاع الوحي المقروء أن يدلنا عليها، وفي المجال الديني المحض نحن نراها في البرامج الدينية المسيحية في أمريكا، وتستطيع بوضوح أن ترى أن ظهور فكرة جديدة هي ذات أصول إسلامية واضحة، مع إضافة بعض الرتوش عليها لطمس مصدرها الإسلامي، وهذا يدلل ويؤكد أن بعض متخصصيهم الدينيين على اطلاع جيد بالإسلام ويلقطون منه، ويربطون خيوطا، ثم يعيدون صياغته وإعادة تقديمه في السياقات الخاصة بهم، وعلى سبيل المثال اليوم لو نظرنا بمنظور تاريخي في تعريف المسيحيين بأنفسهم وجدنا الحديث عن فكرة التوحيد، وقبل ذلك لم يكن هناك تركيز على التوحيد والأديان التوحيدية.

حوار – مصطفى عاشور وفاطمة حافظ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى