الاختراق الإسرائيلي لتركيا وإيران

مقدمة

تكمن أهمية دراسة الاختراق الإسرائيلي لكلٍّ من تركيا وإيران في كونهما من أهم أركان الأمة، كما أنهما تُعَدَّان القوَّتين الإقليميَّتين الأبرز. ويمكن التمييز بين مرحلتين للاختراق الإسرائيلي في هذا السياق: الأولى؛ وهي الاختراق المعلن للدولتين، قبل مجيء نخب ذات توجُّهات إسلامية إلى الحكم، أي في ظل نخب ذات توجُّهات غربية (علمانية)؛ حيث تمَّ توثيق الصلات مع هذه النخب وعقد الاتفاقات التي تحقق مصالح إسرائيل معها. أمَّا المرحلة الثانية، فهي عقب وصول نُخب ذات توجُّهات إسلامية إلى الحكم، (الثورة الإسلامية في إيران 1979م، وحزب “العدالة والتنمية” في تركيا 2002م)، وتلك محور التركيز الأساس في هذه الورقة، حيث تعمل إسرائيل على التغلغل سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا بسبل تتراوح بين السرية وحشد الضغوط الدولية.
وتتعدَّد أدوات الاختراق الإسرائيلي، وتتطوَّر عبر الزمن، ومن أبرز هذه الأدوات:
– الحرب الإعلامية: ومنها ما هو رسمي (كالتصريحات الرسمية السلبية المتواترة تجاه طرف معين بغرض تشويهه، وحشد المجتمع الدولي ضدَّه)، وما هو غير رسمي (من خلال الكيانات الإعلامية والدينية). حيث تقوم الشخصيات الدينية الإسرائيلية بدور في ذلك، فعلى سبيل المثال صرح الحاخام الإسرائيلى “نير بن أرتسي” بأنه ستعمُّ الفوضى تركيا فى ظلِّ حكم الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، الذي قال أرتسي عنه إنه يمارس أشرس أنواع القمع بحقِّ الأتراك، بينما يحتضن تنظيمَ “داعش” الإرهابي. وأضاف أن أردوغان فقد السيطرة على تركيا ويعاني من وضع سياسي داخلي صعب جدًّا(1).
– استراتيجية التفكيك: وهي استراتيجية قديمة لدى إسرائيل، إلا أنه ثمة تطورًا مهمًّا في تلك الاستراتيجية طرأ في السنوات الأخيرة‏، ويتمثَّل في أن نظرية “شدِّ الأطراف” لم تَعُدْ تستهدف فحسب استنزاف الطاقات العربية وتشتيتها؛ بحيث تستهلك تلك الطاقات بعيدًا عن ساحة المواجهة مع إسرائيل، وإنما تجاوزت المسألة هذه الحدود إلى ما هو أبعد وأخطر‏؛ بحيث تطوَّرت فكرة “شدِّ الأطراف” إلى بتر تلك الأطراف‏؛ بمعنى العمل على سلْخ الأطراف غير العربية وفصلها عن الجسد العربي(2)‏.
– الأداة الاقتصادية: وتشمل أكثر من مستوى، ما بين الضغط على القوى الكبرى لفرض عقوبات على الدولة العدو في الرؤية الإسرائيلية، أو التغلغل إلى اقتصاد الدولة نفسها، والسيطرة على أجزاء منه.
– الاختراق العسكريٍ: سواء عبر الاتفاقات، أو العملاء، أو الضغط لتفكيك القدرات العسكرية للدولة العدو (حالة البرنامج النووي الإيراني نموذجًا).
– استخدام اللوبيهات الصهيونية (الحالة الأمريكية خير مثال).
وفي هذه الأسطر نتعرَّض لأوجه الاختراق الإسرائيلي لكل من تركيا وإيران، سواء لكل من الدولتين ونظاميهما كل على حدة، أو عبر ما يمكن تسميته بالاختراق المزدوج عبر الممر الكردستاني المشترك بين تركيا وإيران وغيرهما من دول المنطقة العربية.

أولًا- الاختراق الإسرائيلي لتركيا

بعد عقود من التقارب التركي-الإسرائيلي، مرَّت العلاقات بين الجانبين بحالة من التوتُّر المتصاعد في العقد الأخير، حيث العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة بدايةً من عام 2008م، ومطالبة أردوغان المستمرة بإنهاء الحصار الظالم على القطاع، ووقف عمليات التطهير العرقي والثقافي التي تستهدف الفلسطينيِّين ومقدَّساتهم في الأراضي المحتلة. وقد كان حادث السفينة “مرمرة” التي تعرَّضت لهجوم إسرائيلي أثناء محاولتها كسر الحصار، ومقتل عدد من الأتراك، كان هذا الحدث واحدًا من أهم أسباب التوتُّر بين الجانبين في الفترة الأخيرة، وإن تمَّ اتفاق مصالحة بعد ذلك. ثم تجدَّد التوتُّر، وبَدَتْ معه صورة الاختراق من خلال قضايا أخرى على رأسها الموقف الإسرائيلي من محاولة الانقلاب الفاشلة (يوليو 2016)، وقضية الأرمن.
1- محاولة الانقلاب:
وهنا نتناول أمرين:
الأول- تحليل الموقف الإسرائيلي: فرغم الصمت الإسرائيلي بداية أمام الإعلان عن المحاولة الانقلابية، والذي تعود أسبابه إلى حساسية العلاقات الإسرائيلية-التركية، وأن اتفاق المصالحة بين البلدين كان لا يزال في مراحله الأولى؛ ما أدَّى لتفضيل الخارجية الإسرائيلية الصمت وعدم التسرُّع في التعليق على الأحداث وانتظار وضوح الرؤية… رغم ذلك فإسرائيل -التي تعتبر أردوغان العقبة الأبرز أمام تحقيق السلام في المنطقة- لم تكن تخفي سابقًا، وفي تصريحات متكرِّرة، وعلى لسان العديد من قياداتها السياسية والعسكرية، رغبتها في التخلُّص منه. فعلى سبيل المثال، قال يائير جولان -نائب رئيس هيئة الأركان- بأن وجود أردوغان في الحكم من أهم مسبِّبات الإشكاليات لـ”إسرائيل”(3).
تروَّت “إسرائيل” أثناء المحاولة الانقلابية، فلم تعلِّق حكومتها على محاولة الانقلاب إلا بعد أن انجلت الغيوم(4)، فنجد أن المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية، مانويل نحشون، أعلن في بيان رسمي -وافق نتنياهو على صياغته بعد 15 ساعة من محاولة الانقلاب- ليعلن أن إسرائيل تحترم العملية الديمقراطية في تركيا وتتوقَّع مُضِيَّ اتفاق المصالحة بين البلدين. فقد اعتبر “عوزي ديان” رئيس مجلس الأمن القومي، أن ابتعاد بلاده عن اتِّخاذ مواقف رسمية، من شأنه ألا يُعرِّض “إسرائيل” لقطيعة أخرى أضرَّت بمصالحها كثيرًا.
وقد انعكس هذا التوجُّه على المستوى الإعلامي أيضًا، فلم يكن مفاجئًا أن يتابع الإعلام الإسرائيلي أحداث محاولة الانقلاب في تركيا بترقُّب كبير، وبتغطية استمرَّت على مدار الساعة؛ حيث تعي “إسرائيل” وإعلامها مكانة تركيا الإقليمية(5)، ورغم أن ملامح البهجة والسرور غطَّت وجوه المحلِّلين والمعلِّقين على الشاشات، إلا أن التعاطي مع الموضوع لم يصل إلى تبنِّي أي من الروايات، وكان سيد الموقف: “لا أحد يعلم إلى أين تسير الأمور”(6). إلا أن صورة النقل الموضوعي لم يُخْفِ تبرير العديد من الإعلاميين الإسرائيليِّين محاولة الانقلاب على نظام ديمقراطي، معتبرين أن نظام أردوغان تجاوز الحدود، ويحاول فرض أجندة إسلامية على المجتمع التركي، وأن عدم وجوده أفضل لـ”إسرائيل”(7).
كما أن فشل المحاولة الانقلابية لم يُخْفِ الحسرة التي رافقت قيادات رفيعة سابقة، فقد اعتبر السفير الإسرائيلي السابق في تركيا “سبيبي”، أن الغرب يتحمَّل مسؤولية فشل الانقلاب، لأنه توافق مع أردوغان سابقًا في قضية تحييد الجيش كشرط لدخول الاتحاد الأوروبي؛ وبهذا قضى على قوة الجيش أمام السلطة الحاكمة(8).
الثاني- مؤشرات الاختراق: وُجِّهت الاتهامات لإسرائيل بالتورُّط في المحاولة الانقلابية، حتى داخل إسرائيل ذاتها، فعلى سبيل المثال، اتَّهم عضو “الكنيست” طالب أبو عرار (من القائمة العربية المشتركة) الحكومة الإسرائيلية بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا ضدَّ أردوغان(9). وقد كان المؤشِّر الرئيس الذي دفع به البعض أن قائد سلاح الطيران التركي السابق الجنرال أكين أوزتورك، والذي يجري تعريفه باعتباره أحد قادة محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، عمل ملحقًا عسكريًّا لبلاده لدى إسرائيل بين العامين 1996 و1998(10).
أيضًا نشر موقع “إنترسبت الأميركي”، عيِّنات من البريد الإلكتروني المخترق لسفير دول الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، والتي كشفت بعض الرسائل فيه تنسيقًا بين الإمارات ومؤسَّسات موالية لإسرائيل. وجاء فيها محور يتحدَّث عن مواجهة تركيا و”طموح” الرئيس أردوغان(11).
2- قضية الأرمن:
لا شك أن لإسرائيل مصلحة كبرى في حصار تركيا، وإقامة علاقات وثيقة مع جيرانها المختلفين معها دينيًّا وتاريخيًّا، وهذا ما يفسِّر فتح جرح الخلاف الأرمني-التركي بعد أن قطع شوطًا مهمًّا على طريق الالتئام، وزيارة أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي المتطرِّف لكلٍّ من اليونان وقبرص اليونانية في فبراير 2010، قُرئت كمحاولة أخرى لتأجيج صراع قديم متجدِّد بين البلدين وتركيا(12).
وفي هذا السياق، لا يستبعد أن يكون اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية قد لعب دورًا قويًّا في تصويت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي لصالح قرار يتَّهم تركيا بارتكاب “إبادة جماعية” ضدَّ الأرمن في عام 1915م، وذلك بتحريض اللوبي الأرمني للإقدام على هذه الخطوة، وتقديم دعم قوي له من خلف ستار. ذلك أن اللوبي الإسرائيلي المعروف بنفوذ قوي في الكونجرس، وكان دائمًا يقف إلى جانب تركيا في مواجهة نظيره الأرمني، ولكن بعد حدوث تغيير في مواقف تركيا تجاه القضية الفلسطينية بدأ هذا اللوبي يغيِّر تحالفاته ويتبنَّى سياسات ومواقف معادية لتركيا(13). وبالتالي، فقرار لجنة الكونجرس الذي فاز بصوت واحد فقط (23 صوتًا مقابل 22) جاء بمثابة خطوة تخريبية لجهود المصالحة الضخمة المبذولة من قبل تركيا مع جارتها أرمينيا.
لكن الاختراق هنا لم يكن مقصودًا به فقط العلاقات التركية–الأرمينية، وإنما العلاقات الأمريكية-التركية أيضًا (بل ربما هذا الأهم). فمن المؤكَّد أن هذه الخطوة -أي التصويت في الكونجرس- أريد به إحراج الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وإدارته، وتوتير علاقاتها مع تركيا في إطار الضغط الإسرائيلي على الاثنتين معًا، فأوباما عارض التصويت على هذه المسألة، وتخلَّى عن وعده للوبي الأرمني بإدانة تركيا بارتكاب جرائم إبادة في حال وصوله إلى البيت الأبيض، بل وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما اختار أنقرة كمحطته الأولى في العالم الإسلامي، وأشاد خلال زيارته لها بنموذجها الديمقراطي الذي يؤكِّد أنه لا تناقض بين الديمقراطية والإسلام(14).
3- الاختراق العسكري:
ذلك الاختراق غلَّفه غطاء من التعاون التقليدي، إلا أن الهدف الحقيقي منه الولوج إلى الخرائط والأهداف والإمكانات العسكرية لتركيا ودول الجوار، فضلا عن تشتيت وتفتيت القوى العسكرية لدول الأركان الإسلامية.
في مراحل سابقة، تحت مظلَّة فكرة الخطر العربي، ركَّزت إسرائيل علي أنه لا سبيل إلى صدِّ ذلك الخطر إلا بإقامة تعاون عسكري وثيق بين إسرائيل وبين دول الجوار‏،‏ وجنَّدت لتلك المهمَّة أبرز الشخصيات العسكرية والسياسية‏.‏ في هذا السياق، عقد أول لقاء بين رئيس الموساد رؤوفين شيلواح وبين وفد عسكري تركي في روسيا عام ‏1957م، وتتابعت تلك اللقاءات في إيطاليا ودول أخرى‏.‏ وكان التعاون العسكري والأمني لصد خطر المدِّ القومي العربي هو الموضوع الرئيسي لكل تلك الاجتماعات‏.‏
وما حدث مع تركيا تكرَّر مع إيران وإثيوبيا‏، حيث ركَّز بن جوريون في خطابه الموجَّه إلى تلك الدول على أن العرب يزعمون أن الشرق الأوسط هو شرق عربي‏، ومن الضروري أن تشكِّل الدول الأخرى غير العربية في المنطقة كتلة واحدة‏، لدحض تلك المقولة.
هذا الجهد الإسرائيلي أثمر تعاونًا أمنيًّا وثيقًا مع الدول الثلاث ‏(تركيا‏،‏ وإيران‏، وإثيوبيا‏).‏ وقد أدَّى إلى تنظيم لقاءات سرِّيَّة عدَّة بين رؤساء الأركان في الدول الأربع‏، عُقدت في كلٍّ من أنقرة وطهران عام ‏1958م. وفي سياق ذلك التعاون أرسلت إسرائيل أكثر من عشرة آلاف خبير عسكري وأمني إلى تركيا وإيران وإثيوبيا. وتطوَّر هذا الرقم في السنوات اللاحقة‏،‏ حتى وصل عدد الخبراء العسكريِّين الإسرائيليِّين في إيران وحدها عامي‏77‏19 و‏1978م‏ إلى أكثر من ‏20‏ ألف شخص. كما زوَّدت إسرائيل كلًّا من تركيا وإيران بأسلحة من صنعها‏،‏ مثل صواريخ بربر ‏(‏جبريال‏)‏ ومدافع هاون وأجهزة رادار وبنادق ورشاشات من نوع “عوزي”‏.‏
إزاء النجاح الذي حقَّقته إسرائيل على ذلك الصعيد‏،‏ فإنها أصبحت مطمئنَّة إلى أن تلك الدول أصبحت تمثِّل قوى احتياطية لها في مواجهة العرب‏، وإن اختلف الموقف بالنسبة لإيران بعد قيام الثورة الإسلامية في عام‏1979(15)، فلم تَعُدْ إيران زخرًا عسكريًّا لإسرائيل، بل صار نشاطها النووي أكثر ما يؤرِّق حكوماتها (كما سنرى).
كذلك كانت هناك بعض الحوادث التي مثَّلت انتهاكًا للسيادة التركية، فعلى سبيل المثال، اعترف رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق إيهود أولمرت عام 2007م علنًا لأول مرة بقيام طائرات إسرائيلية بعملية في سوريا عندما أعلم حكومته أنه يعتذر لتركيا إذا كانت الطائرات اخترقت المجال الجوي التركي. وقال أولمرت في بيان “إذا دخلت الطائرات الأجواء التركية فإن ذلك لم يكن مقصودًا لأننا نحترم السيادة التركية”. وقدم أولمرت هذا الاعتذار خلال لقاء مع أردوغان في لندن(16).

ثانيًا- الاختراق الإسرائيلي لإيران

وتتضمَّن محاولات الضغط والاختراق الإسرائيلي للمانع الإيراني على العديد من الملفات يبرز منهما اليوم ملف البرنامج النووي الإيراني والضغوط التي تمارسها إسرائيل من أجل تحجيمه أو القضاء عليه، والملف الاقتصادي الذي يتعلَّق بالحصار الغربي لإيران بالعقوبات الاقتصادية، وتعمل إسرائيل بطرق مباشرة وغير مباشرة من أجل استمرار ذلك الحصار.
1- البرنامج النووي:
وهنا سنتحدَّث عن أمرين:
الأول- عمل إسرائيل على هدم القوة الإيرانية من خلال الضغوط والتحرُّكات الدولية
فقد كانت واحدة من أهم مهام اللوبي الصهيوني بالولايات المتحدة العمل في هذا الإطار، أي لزيادة الضغوط الأمريكية على إيران، بل أحيانًا العمل باتِّجاه توجيه ضربة عسكرية لها.
وتقف هذه الورقة عند المحطة المتَّصلة بالتفاعل الإسرائيلي مع الاتفاق النووي الموقَّع بين إيران والغرب عام 2015م. فقد كانت هناك معارضة إسرائيلية للاتِّفاق منذ توقيعه. وعلى العكس من التقديرات الدولية والأوروبية في ذلك الوقت، والتي ذهبت إلى أن الاتفاق مثَّلَ “صفقة” مهمَّة لتكبيل الطموحات النووية الإيرانية، فقد ظلَّت الرؤية الإسرائيلية متمسِّكة بالجوانب والتداعيات السلبية للاتفاق، على الأقل من وجهة نظر الحسابات والطموحات الإسرائيلية في الإقليم(17).
ويتناغم الموقف الإسرائيلي مع ما يراه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن إيران. فقد اعتبرت إسرائيل هذا التصعيد فرصة مهمة “لتصحيح” الاتفاق، إذا تم استغلالها والبناء عليها بشكل جيد، وسارت الأمور كما هو مخطَّط لها من دون إشكاليات، خاصَّة أن الهواجس الإسرائيلية لا تتعلَّق فقط بالقدرات العسكرية الحالية لإيران، بل بما يمكن أن تقوم به إيران في المدى المنظور، وبعد انتهاء مدة الاتفاق، والتداعيات الاستراتيجية النهائية للإنجازات الإيرانية المتواصلة على المستوى العسكري وخاصة الصاروخي، والتي باتت تمثِّل تهديدًا للأمن القومي لإسرائيل(18).
وتطالب الحكومة الإسرائيلية الإدارة الأمريكية بإضافة ملحق للاتفاق النووي يتعلق بالصواريخ الإيرانية، وتشديد المراقبة عليها ومراكز أبحاثها، وزيادة مدَّة المتابعة الدولية على البرنامج النووي الإيراني، وإن كانت الحكومة الإسرائيلية تقدِّر -في مجمل تقييماتها العسكرية- بأنه من غير الممكن أن تقبل إيران بهذا الملحق، الأمر الذي يفتح الباب أمام إمكانية إلغاء الاتفاق النووي، حيث ستسعى إيران في هذه الحالة إلى استئناف برنامجها النووي، وسيصبح، في المقابل، بإمكان الولايات المتحدة وإسرائيل التحرُّر من قيود الاتفاق والعمل بقوة على عدم تطوير إيران لقدراتها النووية والصاروخية إطلاقًا.
أمَّا في حالة اتجاه الأطراف إلى تعديل الاتفاق، فإن الحكومة الإسرائيلية تضع الضوابط التالية لتلك العملية، بشكل يضمن حماية أمنها القومي:
– التزام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش بعض المواقع الإيرانية أو إدراجها في قائمة المواقع التي يُشَكُّ بأن إيران تمارس فيها ما يناقض روح ونص الاتفاق.
– إعادة مناقشة الملف النووي الإيراني داخل مجلس الأمن، بالتوافق مع الدول الكبرى التي أبرمت الاتفاق، بما يسمح بإدخال تعديلات جوهرية على الاتفاق وإضافة فقرات محددة وفقًا للطرحين الإسرائيلي والأمريكي.
– التحذير من استمرار المساعي والجهود من أجل إلغاء الاتفاق من دون ضمان القدرة على منع إيران من تطوير أسلحتها النووية. وفي الوقت ذاته العمل ضدَّ أيِّ نشاط إيراني يتجاوز بنود الاتفاق(19).
الثاني- زرع العملاء
أعلن الحرس الثوري الإيراني عن إلقاء القبض على عدد من الإيرانيِّين الذين اعترفوا بالعمل لصالح جهاز “الموساد” الإسرائيلي، وتقديم معلومات حول البرنامج النووي الإيراني، وقد كان من الواضح أن لدى إسرائيل معلومات دقيقة حول البرنامج الإيراني. وينعكس ذلك فيما يصرِّح به مسؤولون إسرائيليُّون، فمثلًا واظب مائير داجان -رئيس جهاز “الموساد” خلال إفاداته أمام الحكومة الإسرائيلية ولجنة “الخارجية والأمن” التابعة للكنيست الإسرائيلي- على القول إن البرنامج النووي الإيراني متعثر وأنه يواجه مصاعب جدية، وذلك استنادًا إلى معلومات استخبارية دقيقة حصل عليها “الموساد”. وربما نجح “الموساد” بالفعل في تضليل المؤسَّستيْن الأمنية والسياسية في إيران، حيث إن العلماء الإيرانيِّين الذين عملوا لصالح “الموساد” قاموا -بصفتهم رجال أعمال- ببيع الحكومة الإيرانية تجهيزات غير صالحة سلَّمها إياهم “الموساد” لتُستخدم في البرنامج النووي، الأمر الذي جعل هذا البرنامج يزداد تعثُّرًا، ومعه بَدَتْ تعهُّدات الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد بأنه في غضون وقت قصير سيتمُّ كشف النِّقاب عن تطوُّرات إيجابية مفاجئة بشأن هذا البرنامج مثيرة للسخرية(20).
2- إضعاف الاقتصاد:
يمثِّل إضعاف الاقتصاد واحدة من أهم استراتيجيات إسرائيل لاختراق إيران، فعلى سبيل المثال، صرح “بيريز” أن على العالم ضرب إيران حيث وجعها -الاقتصاد- وبطريقة أقسى من الطرق الحالية، وعلى الدولة العبرية أن تضغط على الأمم المتحدة لتحقيق هذا الهدف(21).
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدد من الوقائع التي مارست فيها إسرائيل ضغوطًا لإضعاف الاقتصاد الإيراني: حيث عملت إسرائيل على أن تمارس حكومة ألمانيا من جهتها ضغطًا على الشركات التي تتعامل مع إيران كي تمتنع عن تصدير أجهزة حديثة وتكنولوجيات متطوِّرة للصناعة الإيرانية، لاسيما في مجال إنتاج الغاز والنفط، وأيضًا قبل عدَّة سنوات وصلت إلى السفارة الإسرائيلية في برلين معلومات عن زيارة وفد كبير من رجال الأعمال الألمان إلى طهران، وسارعت السفارة بالتوجُّه إلى مكتب المستشارة ميركل، فأُلغي سفر الوفد في اللحظة الأخيرة.
وفي بدايات عام 2010م أدَّى ضغطٌ مارستْه الطائفة اليهودية الألمانية إلى إلغاء صفقة بين شركة سفن من هامبورج وبين شركة إيرانية حول تطوير منصَّة الشحنات في الميناء الأكبر في إيران، ميناء بندر عباس(22).
واستمرَّت السياسة الإسرائيلية إزاء الاقتصاد الإيراني على هذا النهج، لاسيما مع استمرار الضغط الإسرائيلي لفرض العقوبات على إيران، فقد أعلن نتنياهو عن محورية هذه الاستراتيجية واستمراريَّتها.

ثالثًا- الاختراق المزدوج: الأكراد

“نحن شعب صغير‏،‏ وإمكانياتنا ومواردنا محدودة‏،‏ ولابد من العمل على علاج هذه الثغرة في تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية‏،‏ من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها‏.‏ وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات العرقية والطائفية‏، بحيث نسهم في تفخيم وتعظيم هذه النقاط‏، لتتحوَّل في النهاية إلى معضلات يصعب حلُّها أو احتواؤها‏”.
هذا الكلام وجهه ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل إلى قيادات الجيش وغيرهم من عناصر المؤسسة الأمنية وأجهزة الاستخبارات والمهمَّات الخاصة‏.‏ وفي أعقابه صدرت الأوامر إلى الأجهزة الإسرائيلية بأن تتولَّى الاتِّصال بزعامات الأقليَّات في المنطقة‏،‏ وتوثيق العلاقات معها‏(23).
وإن كانت هذه الورقة تتناول الاختراقات الإسرائيلية لكلٍّ من إيران وتركيا، فإن الاختراق الإسرائيلي للشأن الكردي يعدُّ اختراقًا للدولتين في آنٍ واحد، بل للمنطقة بأكملها، لاسيما وأن الدعم الإسرائيلي للدولة الكردية يصرِّح به السَّاسة الإسرائيليُّون، حيث أعلن نتنياهو عن دعمه للدولة الكردية المستقلة فى العراق وسوريا(24). وإذا كان نتنياهو يتحدَّث عن دولة كردية في سوريا والعراق فقط، فإن ذلك يأتي تفاديًا لصدام دبلوماسي جديد مع تركيا وإيران، كما أن قيام دولة كردية في إحدى الدول الأربع يشكل خطرًا على بقية الدول (وهو ما تدركه كل من تركيا وإيران على نحو انعكس في موقفهما الرافض لاستفتاء كردستان العراق الأخير).
لكن الدعم الإسرائيلي يتخطَّى حدود التصريحات، فقد كشفت تقارير إسرائيلية عن تدريب جنود إسرائيليِّين لأكراد شمال العراق من رجال ونساء على حمل السلاح، ونشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” صورًا لعمليات التدريب، من بينها صورة امرأة كردية محجَّبة تتدرَّب على يد إسرائيلي، والعلاقة بين الأكراد وإسرائيل يؤكِّدها أيضًا الباحث الأمريكى “إدموند غريب Edmund Ghareeb” فى كتابه «القضية الكردية فى العراق»؛ إذ يقول: شكَّل جهاز “السافاك” الإيراني و”الموساد” جهاز مخابرات كرديًّا ذكيًّا للغاية لجمع معلومات عن الحكومة العراقية والأوضاع العراقية والقوات المسلحة، ولم يكن يخفي المعلومات التى يحصل عليها عن الجهازين الإسرائيلي والإيراني، وبالإمكان الاستدلال على هذه الحقيقة من التصريحات والأقوال التى أدلت بها أوساط عراقية رسمية وشبه رسمية(25).
وقال موقع «ميداه» البحثى الإسرائيلي إنه فى فترة ذروة العلاقات مع الأكراد بين عامي 1965-1975، قدَّمت إسرائيل المساعدة بشكل سرِّي للأكراد على المستوى العسكري، مثل تدريب “البشمركة” (وهو جيش العصابات الكردية)، وتوفير الأسلحة، وفى المجالات الاجتماعية مثل: إقامة مستشفى ميدانى، أو تجهيز الكتب الدراسية باللغة الكردية. وفي المقابل، تمتَّعت إسرائيل بمعلومات استخباراتية بمساعدة الأكراد لخروج اليهود من العراق(26).
وقد أعلن نحيك نفوت، نائب رئيس الموساد الأسبق، والذي خدم في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أنه تولَّى إرساء أواصر التحالف بين إسرائيل وأكراد العراق منذ العام 1969م، وذكر “نفوت” أنه بعد تعيينه كمدير لمكتب “الموساد” في طهران عام 1969م، عمل على الاتصال بقادة الأكراد في شمال العراق الذين ساعدوا في نقل يهود العراق إلى إسرائيل. وأضاف: “لقد زوَّدنا أصدقاءنا الأكراد بعناوين العائلات اليهودية في بغداد ومدن عراقية أخرى، حيث وصل الأكراد لهذه العائلات وأبلغوها بضرورة الاستعداد للمغادرة”(27).
وعامة، فإن إقامة دولة كردية في العراق، وربما قريبًا في سوريا، لا يعني أقلَّ من أن جغرافية تركيا وإيران ستكون عاجلًا أو آجلًا على المحك. فالآن أصبحت هذه الدول في مواجهة واقعية وتماسٍّ مباشر مع ما كانت تستبعده(28).
وليس الأمر ببعيد، فطالما لدى إسرائيل مصالح واضحة بأن ينجح الأكراد في صراعهم، في ظلِّ حقيقة كونهم جهة موالية للغرب، علمانية نسبيًّا، وقد ثبت أيضًا أنَّهم جهة أكثر ودِّيَّة مع إسرائيل من بقية شعوب المنطقة(29)، طالما سارت الأمور على هذا النحو، فستعمل إسرائيل أقصى ما في وسعها لأجل تحقيق “الحلم الكردي” الإسرائيلي.

خاتمة

ربما يكون الوقت متأخرًا للحديث عن الاختراقات الإسرائيلية، وضرورة احتوائها في ظل التشرذم الذي تعانيه المنطقة بل ربما الأمَّة، إلا أن ذلك الوضع ذاته بمثابة مؤشر وجرس إنذار لضرورة المواجهة، فما الذي يجب فعله في هذا الظرف التاريخي؟ في عجالة يجب العمل على ما يلي:
– تنحية الخلافات بين الدول الأركان، ولاسيما إنهاء الحروب بالوكالة (سوريا واليمن)، وهو أمر وإن كان صعبًا، إلا أن ترتيب الأولويات ربما يسهم في مزيد من المرونة.
– الوعي بضرورة إنشاء مراكز بحثية ومراصد لرصد التحركات والتصريحات الإسرائيلية في المنطقة وجوارها.
– ضرورة تشبيك الكيانات الاقتصادية الكبرى على نحو يصعب معه اختراقها.
– احتواء الكيانات النوعية المذهبية والطائفية والعرقية –خارج منطق الأقليات- وعلى نحو لا يجعلها نقطة ضعف سهلة الاختراق.
*****

الهوامش:

(*) باحثة بمركز الحضارة للدراسات والبحوث.
(1) هاشم الفخراني، حاخام إسرائيلي: داعش سينقلب على أردوغان وسينشر الفوضى في تركيا، موقع اليوم السابع، 20 أكتوبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/inmnbe
(2) فهمي هويدي، بروتوكولات الاختراق الإسرائيلي، صحيفة الأهرام، 1 يونيو 2004، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2Ng1enV
(3) حسام كامل، هذه أسباب تأخر إسرائيل في الرد على انقلاب تركيا، موقع دوت مصر، 17 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/hDp3C2
(4) عماد أبو عواد، “إسرائيل”… ومحاولة الانقلاب الفاشل في تركيا، موقع مركز رؤية للتنمية السياسية، 29 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Rwxxrp
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.
(7) المرجع السابق.
(8) المرجع السابق.
(9) دوف ليبر، إسرائيل دعمت الإنقلاب العسكري في تركيا، بحسب نائب عربي، موقع The Times Of Israel النسخة العربية، 18 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/osE7Hk، وجاء فيه: “قال طالب أبو عرار إن الشرطة الإسرائيلية رهبت داعمي أردوغان في رهط؛ وأطلق إسلاميون في شمال إسرائيل مظاهرة ضخمة دعمًا للرئيس التركي”.
(10) بلقيس دارغوث، أحد قادة “محاولة الانقلاب” في تركيا عمل في إسرائيل، موقع إيلاف، 17 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/38UUdA
(11) تسريبات تفضح تورط الإمارات بانقلاب تركيا والتعاطي مع “إسرائيل” والتحريض على الكويت وقطر، موقع وكالة شهاب للأنباء، 3 يونيو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/ZqWTwU
(12) عبد الباري عطوان، ابتزاز إسرائيلي لتركيا أردوغان، موقع القدس العربي، 6 مارس 2010، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2uzSsta
(13) المرجع السابق.
(14) المرجع السابق.
(15) فهمي هويدي، بروتوكولات الاختراق الإسرائيلي، مرجع سابق.
(16) تل أبيب تعتذر لإسرائيل على اختراق مجالها الجوي، موقع صحيفة الاتحاد الإماراتية، 29 أكتوبر 2007، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/cVBqjH
(17) طارق فهمي، المحرك الإقليمي: إسرائيل ومراجعات الاتفاق النووي الإيراني، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 22 أكتوبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/ou4RsC
(18) المرجع السابق.
(19) المرجع السابق.
(20) صالح النعامي، الاختراق الإسرائيلي لإيران، موقع المركز الفلسطيني للإعلام، 5 ديسمبر 2008، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2LndwKz
(21) بيريز: علينا استهداف الاقتصاد الإيراني، موقع الراي، 20 سبتمبر 2008، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/yso2pg
(22) إسرائيل لألمانيا: ألغوا صفقة ضخمة مع إيران، 26 يناير 2010، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/C6M6j2
(23) فهمي هويدي، بروتوكولات الاختراق الإسرائيلي، مرجع سابق.
(24) هيام سليمان، «الوفد» تكشف تفاصيل الاختراق الإسرائيلي لكردستان، بوابة الوفد، 24 سبتمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/ZT4hna
(25) المرجع السابق.
(26) المرجع السابق.
(27) قائد في الموساد: الأكراد ساعدوا بتهجير يهود العراق لـ«إسرائيل»، موقع فلسطين اليوم، 25 أبريل 2015، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/ys4pcJ
(28) عبد الوهاب بدرخان، بعد العراق وسورية… هل حان «اختراق» تركيا وإيران؟، الحياة، 31 أغسطس 2017، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2zJR50F
(29) هيام سليمان، «الوفد» تكشف تفاصيل الاختراق الإسرائيلي لكردستان، مرجع سابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى